نوري جاسم
بغداد في عيون الرحّالة ..
في صفحات التاريخ، تتربع بغداد كجوهرة شرقية لامعة، أثارت إعجاب الرحالة من شتى بقاع الأرض، ولم تكن بغداد مجرد عاصمة سياسية أو مركز تجاري، بل كانت مدينة للعلم والخيال، للروح والفكر، للثقافة والتنوّع. من خلال عيون الرحالة الذين زاروها، نكتشف بغداد الحقيقية، المدينة التي صنعت أسطورة الشرق، ففي العصر العباسي، كانت بغداد مركز الحضارة الإسلامية، فأسس فيها هارون الرشيد وولده المأمون "بيت الحكمة"، حيث تُرجمت كتب الفلسفة والطب والفلك من اليونانية والسريانية إلى العربية، مما جذب الرحالة من الغرب والشرق، مثل ابن فضلان ( القرن العاشر ) الذي وثّق رحلته إلى بلاد الروس ومرَّ ببغداد وذكر انبهاره بعمرانها ونظامها الإداري والديني، والمقدسي ( 946-990م)، وهو الذي وصف بغداد بأنها "دار السلام، مدينة لا مثيل لها في الأرض، من كثرة العلماء والأسواق والمكتبات والمجالس الأدبية"، ومع دخول العصور الوسطى، بدأ رحالة أوروبا يتجهون شرقًا باحثين عن العجائب. وقد أثارت بغداد دهشتهم، ومنهم بنيامين التطيلي (القرن 12): زار بغداد وقال إنها "تضم أعظم المدارس، وهي ملتقى العلماء والفلاسفة" وماركو بولو (القرن 13)، مرّ بالعراق في طريقه إلى الصين، وذكر أن بغداد "مدينة عظيمة كانت في الماضي أكثر مدن الإسلام ازدهارًا"، وجان باتيست تافرنييه (القرن 17) كتب عن الأسواق البغدادية والحرفيين البارعين والفن في صناعة الذهب والنسيج، وبغداد هي المدينة التي تنبض بالحياة رغم الخراب الذي حل بها في فترات التراجع والخراب نتيجة الغزوات، لكن بقيت بغداد تحتفظ بسحرها، الرحالة كتبوا عن نهر دجلة الذي يشطر المدينة بنوره، وعن الناس الذين حافظوا على دفء الضيافة وعمق الثقافة، رغم الأزمات السياسية، وفي العصر العثماني الحديث، كتب كارستن نيبور (القرن 18)، الألماني الذي خدم في البعثة الدنماركية، وصف بغداد بأنها "مدينة تحتضر ببطء، ولكنها لا تزال محتفظة بكرامتها ومجدها العلمي"، وفي القرن العشرين، كتب المستشرقون مثل غيرترود بيل ( 1868 _ 1926 ) وويلفرد ثيسجر ( 1910 _ 2003 )عن بغداد بصفتها مدينة تناقضات، تجمع بين التاريخ العريق والواقع المعقد، لكن سحرها لا يزول، وبغداد كما رآها الرحالة، ليست فقط جغرافيا، بل روحًا وحضارة. مدينة ترويها كتب التاريخ وتحرسها ذاكرة الشعراء والعلماء، رغم الجراح. شهاداتهم كانت بمثابة مرايا تعكس عظمة مدينة لم تمت أبدًا، بل غفت في لحظة ألم لتنهض من جديد، وصلى الله على سيدنا محمد الوصف والوحي والرسالة والحكمة وعلى آله وصحبه وسلم تسليما ..
866 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع