الاستاذ الدكتور محمد تقي جون
لغة القرآن
يحتفظ القرآن الكريم باللغة العربية (الفصحى). ويراد بالفصحى الافصح او الأعلى فصاحة، وهي درجة بلغتها لغة العرب في الجاهلية، ولغة القرآن الكريم فقط. ثم انحدرت الى درجات متفاوتة في الفصاحة الى عربيتنا اليوم. فالقرآن يتطابق تماماً مع اللغة العربية الفصحى، وكل عربيات اجيال العرب لا تتطابق.
ولا أقصد بالعربية الجاهلية لغة الشعراء؛ فالشعراء الجاهليون أول من أساء الى اللغة. فمثلا يجعل امرؤ القيس (الطعام) اسما لما يُؤكل إزاء (الشراب) اسما لما يُشرب، قال امرؤ القيس:
أَرانا موضِعينَ لِأَمرِ غَيبٍ وَنُسحَرُ بِـ(الطَعامِ وَبِالشَرابِ)
وقد وقرت هذه الدلالة في اذهان الاجيال الى اليوم، وهو ان الطعام ما يُؤكل، والشراب ما يُشرب. بينما في لغة العرب الفصحى (الطعام) ما يتحسس الفم طعمه من أكل وشرب معا. وهو المستعمل في القرآن الكريم. ففي معنى الاكل جاء قوله تعالى (قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ (الأنعام: 145)، وفي معنى الشرب قوله تعالى (قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي (البقرة: 249)، فاستعمل (شَرِب) نظيرا لـ(طَعِم)..
ويعرف كلنا أن (البخل) ضد الكرم، و(البخيل) هو الحريص المقصّر في الصرف على نفسه وعياله والاخرين. وسمّى الجاحظ (وهو أعلم جيله بالعربية) أحد كتبه (البخلاء) متندراً على جيله الذي شاع فيه (الحرص) وكانوا يسمونه (اقتصادا) ويعدونه صفة حميدة. أما اللغة العربية الفصحى فلا تستعمل لهذه الدلالة البخل، بل (الشُّح) وتسمي فاعله (شحيحا و نحَّاما)، وتسمي عدم الانفاق على الفقراء والمساكين بخلا، وغير المعطي لهم بخيلا. قال طرفة بن العبد:
أَرى قَبرَ نَحّامٍ بَخيلٍ بِمالِهِ كَقَبرِ غَويٍّ في البَطالَةِ مُفسِدِ
فالنحّام: الشحيح على نفسه، والبخيل: الذي لا ينفق على الفقراء والمحتاجين. وهذا هو المستعمل في القرآن الكريم. فالمبتلى بقلة الصرف الشخصي يسمى (شحيحا) وفعله (الشح) قال تعالى (وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ، وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (النساء: 128)، أي احسنوا الانفاق على عيالكم. واستعمل القرآن الكريم (البخل) في الزكاة والصدقة واطعام الفقراء والمساكين (الامور الدينية). كقوله تعالى (فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ (التوبة: 76(. أي كفروا ولم يعطوا الزكاة، وهو كقوله تعالى في السورة نفسها (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا (التوبة: 103). وفي البخل ايضا قوله تعالى (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ (النساء: 37). علما ان الله سبحانه لا يتدخل في أمزجة الناس وخصوصية تصرفاتهم؛ فلا يعاقب الانسان الشحيح، بل انه سبحانه يمقت الصرف الأهوج، حتى الصدقة المبالغ بها يرفضها ولا يحبها، قال تعالى (كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (الانعام: 141)، أي كلوا منه وتصدقوا بلا اسراف، لان الله سبحانه وتعالى لا يحب الاسراف (الشخصي والديني). وهكذا أشاعوا خطأ أن البخيل هو الذي يقتّر في الصرف.
وكان عضو المرأة له اسم واحد في لغة العرب الفصحى وهو (الهَن)، وذكر القرآن الكريم اسما مشتركا لعضو المرأة والرحل هو (السوأة) التي تعني ما يجب ستره، لذا سمى الجثة (سوأة) أيضا، قال تعالى (فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ (طه: 121)؛ (قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي (المائدة: 31). وفي الاسلام أضافوا اسم (الفَرْج) أخذا من القرآن. وفي العصر العباسي عصر العجمة وضياع الفصحى، وبسبب كثرة المجون الذي صار شغلهم الشاغل ابتكروا لعضو المرأة أكثر من مائة اسم، منها ما اخذوه من اللغات المجاورة: الفارسية والكردية والتركية وغيرها، وهو الشائع اليوم.
نحن اليوم نعدّ الاسم الفصيح والصحيح لعضو المرأة هو (الفرج). وهو خطأ، بل الصحيح ان الفرج (كل فتحة في مغلق)، فاذا فتحت اصابع كفك فتلك (فروج الاصابع)، واذا اغلقت عليك شدة دعوت الله للفرج. وفي القرآن الكريم (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ... وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ .. وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ (النور: 30 – 31). ففرج الرجل الاجزاء المثيرة للمرأة كالصدر والبطن والافخاذ، وفرج المرأة المثير للرجل وهو جسدها كله عدا الكفين وقرص الوجه، وكذلك عدم ضرب المرأة برجلها الارض عندما تمشي لكي لا تحسّس الرجل بالمخفي من جسدها. ومن هذه الاية اخذ العرب لفظة الفرج واطلقوه على العضو؛ لانه الاخص بالستر.
وبهذا نقول باطمئنان: أن العربية ذبحت من قبل الشاعر الجاهلي ابتداءً لضرورة الوزن، والتنويع، وجرس اللفظة، وملاءمتها السياق وغير ذلك، فضحوا باللغة من اجل الفن، فحلت لغتهم محل اللغة الفصحى، ثم الشعراء والكتاب الى اليوم؛. ومن عصرنا مثال لجبران خليل جبران، فقد كان جبران ضعيفا في اللغة العربية بسبب عيشه في امريكا، فاستعمل جهلا (تحمَّم) بدل استحمَّ، في قوله (هل تحمّمتَ بعطرٍ )! وقد استغرب احد اللغويين المعاصرين من هذا الاستعمال ووضع بعده (كذا) مشيرا الى خطئه. وكذلك تورطت معجمات اللغة فخلطت حابل الفصحى بنابل المولد، ونقلت العدوى الى مفسري القرآن الكريم فاختلفوا في التأويل بسبب البعد عن الفصحى لغة القرآن، علما ان وضع المعجمات وتفاسير القرآن كان في العصر العباسي.
وما زالت الفصحى تتراجع عبر القرون حتى سادت في عصرنا لغة عربية لا فصحى ولا فصيحة، بل لغة مجرودة كما يجرد الدسم من الحليب فيصبح (خاليا من الدسم). فهي عربية عندك وصفها، لغة مثخنة بالاجنبيات، واكثر ما نقوله لا يقوله العرب، بل يقوله غير العرب، واذا بنا نتكلم بألفاظ ومعان وقواعد أكثرها انجليزي، وكأننا في كلامنا نتكلم لغة انجليزية مترجمة. وبالمحصلة صرنا بعيدين عن فهم القرآن والتراث. وقد ألفت في ذلك كتابي (اللغة العربية الخامسة – الفصحى الهجينة) فما التفت اليه أحد، وارسلته الى (مجمعات اللغة) في الوطن العربي ولاسيما في بغداد، فأهملوه تماما، وأغلقوا دوني آذان سمعهم وفهمهم، مستبقين هذه اللغة الهزيلة دون مراجعة وتصحيح، وينادون بأنها وريثة لغة العرب، وهكذا لم اجد مصغيا من الموتى:
لَقَد أَسمَعتُ لَو نادَيتُ حيًّا وَلكِن لا حَياةَ لِمَن أنادي
587 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع