ضرغام الدباغ
المراسلات :
Dr. Dergham Al Dabak : E-Mail: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
الرقم: 449
التاريخ: أيار / ماي : 2025
التعليم والكفاءة سر النجاح
ضرغام الدباغ / برلين
درست وعملت في ألمانيا لسنوات طويلة، وفي شتى المراحل، وأتعرض كثيراً إلى سؤال ما برح أن تحول في السنوات الأخيرة إلى سؤال تهتم به أيضاً دولا صناعية متقدمة، كفرنسا وإيطاليا وربما بريطانيا أيضاً. السؤال هو: تعرضت ألمانيا لحربين عالميتين خسرت فيها ملايين من مواطنيها، وخلق هذا فجوة عمرية واضحة وظلت متأثرة به ربما حتى الآن. وتضررت اقتصادياً بدرجة كبيرة جداً،ولكن مع ذلك تتقدم ألمانيا عالمياً اقتصادياً وثقافياً وهناك نظام اجتماعي دقيق وصارم. ألمانيا اليوم تقود قاطرة الاقتصاد الأوربي بجدارة، واليورو الأوربي القوي الذي يتقدم على الدولار وسائر العملات العالمية، ما هو إلا بفضل الاقتصاد الألماني. وخلال الأزمة المالية، أصابت اقتصاديات حتى الدول القوية كهولندة والنمسا، والإصابة كانت بالغة في اليونان وأسبانيا وإيطاليا وإيرلندة. ولعبت ألمانيا دور المسعف في نجدة هذه الدول.
يطرح هذا سؤالاً بديهياً، كيف استطاعت ألمانيا أن تتجاوز كل هذه المصاعب، والأزمات ولواحقها، وأن تتقدم، بل أن تتفوق على الجميع وتتحول إلى الدائن والمنجد المسعف للدول الأوربية كافة، كيف حدث أن تنهض ألمانيا من تحت الركام وتشيد دولة واقتصاد يعلو ما فعل الجميع، فهذا يخرج عن كونه مجرد سؤال ليتحول إلى موضوعة سياسية / فكرية / علمية تستحق الدراسة والبحث. وعلمنا أن بعض الدول الأوربية اهتمت بهذا الأمر بصورة جدية ودقيقة، فشكلت لجان كبيرة تضم خبراء وعلماء في التربية والتعليم من كافة التخصصات، توجهت إلى ألمانيا واستقرت لمدة طويلة (لعدة أشهر) هدفها أن تتوصل إلى سر المعادلات التي تجعل من المجتمع، والفرد الألماني متميزاً، والمؤسسات الألمانية بالغة الدقة، والكفاءة مما يضعها في أعلى مستويات الإنتاجية. فليس هناك نتيجة كبيرة كهذه تحدث بالصدفة، أو بالحظ.
بالطبع نتائج البحث كبيرة (في كل فقرة من فقراتها) ويتعذر استعراضها، إلا أن في إيجازها نتعرف على المفاصل الأكثر أهمية حسب الأولويات :
1. النظام التعليمي : النظام التعليمي في ألمانيا دقيق جداً وصارم ولا يمكن أن يستثني فرد، ولا يجوز القفز فوق مرحلة من مراحله مهما كانت الأسباب. والنظام يبدأ بتفاصيل كثيرة من سن مبكرة قبل الروضة، من الحضانة، ثم الروضة والتمهيدي، ولكل هذه المراحل أهدافها وتخصصها، ولا يمكن للطفل أن يجتازها دون أن تتوفر فيه مستحقات العبور، وهكذا التعليم الابتدائي، والدراسة المتوسطة. وإلى هنا التعليم إلزامي وهذا سار منذ عام 1717. بعد الدراسة المتوسطة هناك تعليم مهني وهناك مواصلة للدراسة الثانوية. بعد الثانوية هناك اتجاهان، إما الدراسة الجامعية، أو معاهد فنية. هذه كأتجاهات أساسية، والحديث في هذه المراحل يطول ويتشعب بما هو أكثر من مجالنا.
2. النظام الاجتماعي :ألمانيا من أولى الدول في العالم أيضاً (منذ القرن الثامن عشر) في وضع نظام اجتماعي دقيق، يتضمن التعليم الإلزامي، والتأمين الطبي، وإعانة البطالة، وتنظيم الأسرة، وقواعد دقيقة للأسرة والزواج والطلاق، وغيرها مما ينظم العلاقات الاجتماعية ويضعها في إطار قانوني لا مجال للتلاعب به.
3. البنى الارتكازية: من بديهيات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، هي تكامل وكفاءة البنى الأرتكازية. وفي ألمانيا على سبيل المثال، كانت شبكة الكهرباء قد اكتملت عام 1911 إذ وصلت إلى آخر قرية ألمانيا، وشبكة الطرق السريعة (الأتوبان ــ Autobahn) وضعت خطوطها الأساسية في مطلع ثلاثينات القرن الماضي، وشبكة المترو (قطارات الانفاق) في برلين وضعت عام 1902.
ويضع الخبراء الفقرات الأساسية من حاجات السكان الأساسية (سكن ــ تعليم ــ مستشفيات) من بين البنى الارتكازية، وفي بعض الدول يعتبر أمياً من يتمكن من استخدام الكومبيوتر.
بالطبع هناك مبادئ تحرس هذين الأنظمة:
1. الضبط: وهي كلمة السر في النظام الألماني، فلا مجال للعواطف والتكييف المزاجي، واحترام شديد للقانون، لا يجوز الخروج عنه بأي حال.
2. الكفاءة: موظفوا الخدمة العامة (الحكومة) يجب (وجوباً)، أن يكونوا على أعلى مستويات الكفاءة، والنظام الوظيفي بحد ذاته غاية في الدقة والضبط. وهناك درجات بحسب الموقع الوظيفي، وتنص قواعد العمل في بعض الدرجات: منع استخدام الهاتف الحكومي لإغراض خاصة، منع استقبال الزوار في الدوائر، منع قراءة الصحف، أو تناول الأطعمة، أو شرب الشاي أو القهوة في غير أوقاتها، لا يجوز الحديث عن الشؤون الوظيفية مهما كانت .... الخ. جهد الموظف هو ملك من يعطيه الراتب خلال العمل. وصاحب العمل (حكومة أو قطاع خاص) لا يقبل بأقل من الكفاءة التامة 100% ، ولا يحصل موظف على مكانة ما لم يكن قد تأهل تأهيلاً كاملاً لها، ويعمل تحت التجربة فترة طويلة (سنة واحدة غالباً)، ليثبت جدارته أو يلغى عقدة، أو يعاد إلى وظيفته القديمة.
3. التدريب: يلعب التدريب دوراً حاسماً في حياة العاملين بصنوفهم المختلفة. والتدريب يرافق نهاية أي مرحلة، في كل مرحلة (سنة) من الدراسة الجامعية (بكالوريوس) أو المهنية العالية (معهد) ولا ينال موظف مكانته إلا بعد تدريب، وبعد أن يوصي المدرب بقبوله، ويوضع تحت الاختبار، إذ أن الخطأ غير مقبول نهائياً. وقد شاهدت بنفس موظفة شابة تحت التدريب بمهمة موظفة استعلامات ....! ولا توجد دائرة أو وظيفة غير مهمة، طالما في الخدمة. وبعد التدريب يرسل المتدرب إلى الوظيفة تحت الاختبار. وخلال دراستي وعملي ومعايشتي الطويلة، لم أشاهد موظف أو موظفة تخطأ إلا مرتان فقط. الأولى ضربت ضربة زائدة بطابعة الحساب، وكانت بائعة في سوبر ماركت، والثانية موظفة فاتها أن تقرأ الملف بكامل أوراقه، وأصدرت قراراً خاطئاً، وفي الحالتين كان هناك اعتذار قوي.
وهناك عناصر وعوامل ثانوية في تظافرها وتكاملها تؤدي إلى خلق شخصية ألمانية متميزة، وفي نهاية الأمر مجتمعاً إنتاجياً يمتلك قيماً إنتاجية، قائمة على المنطق والقاعدة، وليست هناك أحكام هوائية سطحية لا معنى لها. وفي النهاية بلد لا يعترف إلا بالكفاءة والمقدرة. فلا ينال شخصاً ما لا يستحقه مطلقاً، لا كمنصب ولا كمكافئات، لا علاقة بالعواطف والمشاعر بأدني درجة مطلقاً، كل شيئ خاضع لحسابات واقعية منطقية.
وبالمقابل لدينا أمثلة لا تعد ولا تحصى لموظفين فاشلين، ارتكبوا أخطاء كبيرة جداً، وبعضهم واصل ارتكاب الأخطاء وبعضها يمكن وصفها (مميتة) لأنه خارج قواعد التعين وشروط الكفاءة. وهو فاشل بكل معنى الكلمة، ومثال بسيط على ذلك : هل ترتجي من نجار أن يجري عملية ناجحة في عين مريض ..؟ وهذا المثال ينطبق على كثيرين جداً ممن لا يعرفون ألف باء عملهم، لذلك من الخطل الاعتقاد أن قطار حديث يصل إلى هدفه ويقطع طريق صعب جداً على يد بنجرجي (ضلاع ــ مصلح إطارات، بالعربي الفصيح).
أن إحراز التقدم بصفة عامة يقوم حتماً على أسس تربوية واجتماعية سليمة، وفوق هذا انضباط شديد من خلاله التمسك بالقوانين والأنظمة، ويخطئ من يظن أن الديمقراطية في هذه البلدان فلتان فهو واهم جداً، ففي الدول "الديمقراطية" التظاهرات لها قواعد صارمة، فكما أن الإضراب له قوانين تحدده. كذلك قوانين العمل صارمة، ونيل الرواتب والمكافئات والإجازات. أما التنمية الاقتصادية فهنا تتلاحم عوامل وعناصر كثيرة. وأهم شروط التنمية تلاحم اجتماعي تام وتعبئة سليمة للقوى العاملة وتوفير المستلزمات الأولى لعملية الإقلاع، وبدونها فالحديث عن تقدم هو أوهام وأحلام وضياع للوقت وللأموال/ ومفقس للفساد والتخريب، كذلك الراعي الذي حلم بالثروة وأستيقظ وإذا بجرة السمن فوق رأسه.
لا أريد أن أثبط العزائم، وما أقوله ليست أسرار، فهي موجودة في الكتب بتفصيل دقيق. وهناك الكثير من المصادر الممتازة ولا سيما تلك التي تتحدث عن اقتصاد التنمية واقتصاديات البلدان النامية، ومن يقرأها يتعلم الكثير ويتعرف على واقع الحال ..
أما كيف يذهب المسؤول الفلاني لدائرته الكبيرة، صباحاً بعد أن يتخم معدته بفطور قوي، ويرتدي أفخم الثياب، ويركب أفخر السيارات، ليدير أعمال الناس والرعية المسكينة وهو شبه أمي، ويجهل ألف باء وظيفته ... لماذا .. ولماذا يتواصل هذا ؟ هذه هي دائرة الفشل ثم الفشل، ثم الفشل ... فهذه من أعاجيب الحياة، والمثل اللبناني يقول " كل الحق على الطليان " ..
531 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع