قرار حزب العمال الكردستاني (بي كي كي) حل نفسه هل يمكن ان يمثل حقيقة نهاية العمل المسلح للحزب ونهاية للمشكلة الكردية في تركيا؟ ولماذا تشعر إسرائيل بالقلق من هذا القرار؟

د. سعد ناجي جواد*

قرار حزب العمال الكردستاني (بي كي كي) حل نفسه هل يمكن ان يمثل حقيقة نهاية العمل المسلح للحزب ونهاية للمشكلة الكردية في تركيا؟ ولماذا تشعر إسرائيل بالقلق من هذا القرار؟

يبدو ان النجاح السابق الذِي حققه الرئيس التركي أردوغان المتمثل في إلقاء القبض على السيد عبد الله اوجلان قبل 26 عاما، ثم (إقناعه) بالتوجه إلى قيادة رفاقه طالبا منهم إتخاذ قرارا بحل الحزب، قد أثمرت وبصورة غير متوقعة. ففي خطوة مفاجئة اقدمت قيادة اهم وأكبر حزب كردي في تركيا، حزب العمال الكردستاني المعروف ب (الپه كه كه)، وبالتأكيد الاكثر شعبية من بين الأحزاب الكردية، على حل نفسه بعد اربعة عقود من العمل المسلح (تأسس 1978)، مع التعهد بتسليم اسلحته إلى سلطات الدول التي يعمل فيها، تركيا والعراق وسوريا، والتلويح بالذهاب إلى العمل السياسي المدني والسلمي الديمقراطي. وجاء ذلك اثر عقد الحزب مؤتمره الثاني عشر في المقر الرئيس في جبل قنديل في شمال العراق، في المنطقة التي تُعرف بالمثلث الإيراني – العراقي- التركي.

بالتأكيد ان كل المهتمين بالشأن الكردي والتركي سيحتاجون إلى وقت طويل حتى يجدوا تفسيرا لهذه الخطوة المفاجئة، والى وقت اطول للكشف عن الضغوطات التي نجحت في إقناع قيادة الحزب لاتخاذ هذا القرار الكبير. والذي حددت آليات تطبيقه، من جانب واحد هو الحزب نفسه. وكذلك تحدثت مصادر اخرى عن إستعداد القيادات الكبيرة للحزب للرحيل إلى خارج المنطقة، (اوروبا واسيا)، او هكذا اقترحت الأوساط التركية الرسمية. وكل هذه القرارات توحي بانها مرضية لتركيا بصورة تامة، ولكنها كلها لا يوجد فيها ما يشير إلى الفائدة التي ستعود على الحركة القومية الكردية في تركيا.
النظرة الاولى تقول ان هذا القرار غير المسبوق الطوعي من حزب كردي نهج الكفاح المسلح لابد وان يثير اسئلة عديدة لعل أهمها واولها هو هل ستلتزم كل قيادات الحزب وتشكيلاته بهذا القرار؟ والثاني ما هو المقابل او ماهي الضمانات التي حصل عليها الحزب من الحكومة التركية التي أقنعته (او أجبرته) على اتخاذ هذه الخطوة المفاجئة، والثالث ما هو موقف الأنظمة الاقليمية والدولية التي كانت مستفيدة من وجود وأعمال هذا الحزب، وخاصة تلك المناوئة للرئيس اردوغان ولتركيا، وبالذات إسرائيل؟
ابتداءا ليس من المبالغة القول انه من الصعب تصور ان تقبل كل كوادر وقيادات الحزب الكبيرة والمتشعبة في مناطق ودول متعددة قرار الحل بسهولة، خاصة وانه لم يأت نتيجة لهزيمة عسكرية او لم يفرض بالقوة من قبل جهة منتصرة، وانه ستظهر مجاميع وانشقاقات سترفض القرار، وستزداد هذه الرغبة الرافضة كلما فشلت الحكومة التركية في اتخاذ خطوات لازمة لتطمين اكراد تركيا، (مثل إطلاق سراح السيد اوجلان وإشراكه، او اي قيادة من قيادات الحزب، في الحكومة، ومنح الحزب اجازة رسمية للعمل السياسي والمشاركة في الانتخابات بصورة علنية ومشروعة، والاهم تعديل الدستور لكي ينص على وجود الشعب الكردي كشريك مساوي للشعب التركي في تركيا والغاء كل قرار ينفي وجود الشعب الكردي، و اصدار عفو عام وشامل عن كل اعضاء الحزب.. الخ). هكذا خطوات وما يشابهها هي التي ستكون كفيلة بإقناع كوادر وقيادات الحزب للالتزام بقرار الحل، وخاصة المترددة منها، ( كل التجارب السابقة، ابتداءا من افكار تورغوت أوزال لحل القضية في بداية التسعينيات، والذي قيل انه مات بالسم لأنه طرح خطة لفتح حوار مع التنظيمات التركية، والتي تكررت بعد إلقاء القبض على اوجلان 1999، حيث أعرب الحزب عن رغبته لحل نفسه، ولكن فشل الدولة التركية في اتخاذا هكذا خطوات جعل الحزب يعدل عن رأيه). على هذا الاساس فان الكرة الان تعود مرة ثانية الى ساحة الدولة والحكومة التركية، فهي التي تمتلك زمام المبادرة والحلول لإنجاح العملية ولجعل الحزب يلتزم بالقرار الذي اتخذه، او العودة للعمل المسلح.
بكلمة أخرى اوضح ان تعامل الحكومة التركية مع هذا القرار من موقع المنتصر، واللجوء إلى أساليب عقابية تحمل روح انتقامية من قادة وكوادر الحزب، كما ورد في تصريحات بعض القادة الأتراك الذين تحدثوا عن ضرورة اجراء فصل بين من سموهم (أولئك الذين تلطخت يدهم بالدم واولئك الذين لم تلوث أيديهم؟)، او (ادخال اعضاء الحزب معسكرات تأهيلية) وتحريض الأجهزة الأمنية التركية على القيام بعمليات تصفية مقبلة، كلها امور لن تخدم المرحلة القادمة.
الخشية كل الخشية هو ان تُضيّع الحكومة التركية هذه الفرصة التاريخية من خلال إصرارها على اتباع سياسة انتقامية ضد قيادات واعضاء ومؤيدي الحزب وتفسير قرار الحل على اساس انه إشارة ضعف وهزيمة، كما ضاعت فرص مماثلة سابقة في العراق وايران. وخير دليل هو تصريح وزير الخارجية التركي هاكان فيدان الذي قال فيه ان تسليم السلاح وحده لا يكفي، بل يجب أيضا تفكيك البنية التحتية الاستخباراتية والتجارية التي أسسها الحزب منذ سبعينيات القرن الماضي، والتي تغلغلت في دول عدة تحت غطاءات متعددة. وأعتبر ان هذه الخلايا لا تقل خطورة عن الجناح المسلح للحزب، وان (القضاء عليها حسب تعبيره) ضروري لضمان انهاء التهديد بشكل كامل. ان الاصرار على هذه الأهداف بدون وجود سياسة تبعث الطمأنينة في نفوس الشعب الكردي في تركيا هو اول خطوات فشل الحل السلمي.
في الجانب الداخلي التركي هناك مؤشرات على وجود وجهات نظر متفاوتة بشأن القرار. بعض الأطراف تقول ان هناك ثمة بارقة امل في ان ينجح هذا الحل لأن الرئيس اردوغان يحتاجه لكي يقوي من شعبيته التي تشهد بعض التراجع خاصة بعد الازمة التي خلقها توقيف عمدة إسطنبول. في حين ان بعض احزاب المعارضة للرئيس اردوغان، والتي كانت تُعرف بمعارضتها للرئيس التركي، وقسم منها عرف بمعارضته الشديدة لاي فكرة للقبول بالمطالب القومية الكردية، وصلت الى نتيجة مفادها انها يمكنها هي ان تستفيد من اصوات الناخبين الأكراد المؤيدين لـ”البه كه كه” في الانتخابات القادمة للحد من هيمنة حزب الرئيس اردوغان على السلطة. (خير من يمثل هذا الاتجاه هو حزب الشعوب الديمقراطي التركي (المؤيد للأكراد) الذي اعتبر ان القرار يمتلك أهمية بالغة للشعب الكردي والشرق الأوسط، داعيا إلى وضع إطار قانوني لحل حزب العمال الكردستاني وتخليه عن السلاح). بعض الآراء تقول ان هناك احزاب اخرى شعرت بان هناك مؤامرة أمريكية-إسرائيلية لتقسيم تركيا بالاعتماد على البه كه كه، وارادت هي إستباق الامور وكسب الحزب الى صالح تركيا). هذه الصراعات الداخلية والتجاذبات قد تلعب في صالح التوصل الى هدوء لفترة من الزمن حتى يتم وضع الاسس الثابتة للحل.
بالتأكيد ان الدولة الثانية التي ستستفيد من هذا القرار هي العراق، التي نشط فيها الجناح العسكري للحزب منذ حرب الخليج (1991) والتدمير الذي تعرض له الجيش العراقي آنذاك وبعد عام 2003، حيث نجح الحزب في التمدد في كل المحافظات الشمالية (السليمانية واربيل ودهوك وديالى وكركوك والموصل)، واقام معسكرات له هناك. وستشعر حكومة بغداد، وكذلك تلك التي تحكم اقليم كردستان العراق، براحة كبيرة لانتهاء هذا الوجود العسكري للحزب في مناطق نفوذهم اذا ما حصل، (بالتأكيد الراحة ستكون اكبر بالنسبة لحكومة الاقليم في أربيل، خاصة ان مسلحي الحزب قد تم استخدامهم من قبل الاحزاب الكردية المتصارعة في الاقليم ضدها). ولكن هذا التفاؤل قد يصطدم بحقيقة ان الجناح الأكثر تطرفا في حزب العمال، والمعروف بخلية جبل قنديل، قد يرفض فكرة الحل بشده وستتمسك بالحل المسلح، خاصة وان هذا الجناح هو الذي يتحكم بشبكات اموال الحزب في الخارج والتنظيمات العسكرية العاملة في العراق وتركيا، وان قبوله بإلقاء السلاح بدون مقابل يبقى خيارا صعبا لهذه المجموعة المؤثرة داخل الحزب.
هناك من يقول ان الولايات المتحدة لعبت دورا في جعل حزب العمال الكردستاني يتخذ هذا القرار، وان واشنطن ارسلت من يمثلها إلى مقر الحزب في جبال قنديل للتحاور مع الحزب وإقناعه بإيقاف العمل المسلح، وهذا الكلام لا يوجد ما يدلل عليه، بل ان هناك وقائع تناقضه، خاصة في ظل عدم رضا واشنطن، قبل وصول ترامب للحكم، عن سياسة اردوغان الاقليمية، ودعمها غير المعلن لإنشاء دولة كردية داخل تركيا او على الأقل للتنظيمات المناوئة للرئيس التركي بسبب شراءه منظومة دفاع جوي من روسيا وتقربه من الصين. كل ذلك نشأ عنه دعم واشنطن للتنظيمات الموالية لحزب العمال في سوريا (في وقت كانت الولايات المتحدة وكل الدول الاوربية تصنف الحزب بانه منظمة ارهابية). طبعا الأمر اختلف مع وصول الرئيس ترامب للسلطة وتبنيه سياسة دعم تركيا بالكامل على أساس انه نجح في تحقيق ما لم تستطع الولايات المتحدة فعلة لأكثر من عقد (إسقاط نظام البعث).
إسرائيل من ناحيتها، مع سعادتها بسقوط نظام الأسد، ونجاحها في تدمير كل القدرات العسكرية السورية وإحتلال اراضي سورية جديدة، بدأت تتبنى وبقوة سياسة الوقوف بوجه تمدد نفوذ الرئيس التركي في سوريا، ونجاحه في ضم هذه الدولة الاقليمية المهمة الى منطقة نفوذه. والأكثر اثارة لمخاوف إسرائيل هو ان إستراتيجية الرئيس التركي مبنية على رغبته في القضاء على تنامي دور الاحزاب الكردية في سوريا، التي وجد في عملها رغبة في خلق كيان شبيه للكيان الكردي في العراق، وهو ما يرفضه بصورة قوية ويجد فيه تهديد للأمن القومي التركي. من ناحيتها بدأت اسرائيل تتحدث عن ان امنها القومي يعتمد على احباط محاولات انقرة للتوسع اقليميا ابتداءا من سوريا. ولهذا فهي لن تتخل عن حزب العمال الكردستاني او عن التنظيمات الكردية المسلحة في سوريا (وحدات حماية الشعب الكردي YPG وقوات سورية الديمقراطية – قسد) وستظل تدعمهما كما تفعل مع الاحزاب الكردية في العراق، وكما تحاول ان تفعل مع كل الأقليات في المنطقة، (ما تفعله مع الدروز آخر نماذج هذه الاستراتيجية)، وكل ذلك من اجل إبقاء الدول والأنظمة المحيطة بفلسطين المحتلة مفككة وضعيفة.
خلاصة القول فانه من المبكر جدا الحديث عن نهاية دور حزب العمال الكردستاني التركي PKK، او الإنتقال الى مرحلة سلمية في نشاطه، خاصة اذا لم تبادر الدولة التركية الى إتخاذ قرارات سريعة وجريئة تصب في هذا الاتجاه. والفشل في فعل ذلك سيبقي الحزب الكردي اداة جاهزة للإستخدام من اطراف خارجية عديدة تقف إسرائيل على رأسها كما تفعل مع أحزاب كردية مختلفة في المنطقة.
*كاتب واكاديمي عراقي

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

888 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع