الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل
طلال عبد الرحمن: طائر عراقي حَطَّ في السويد- الجزء الأول
لقد نشأت مدينة الموصل وتطورت بعد سقوط نينوى التي سادت العالم في زمنها، وتجلّت أهمية الموصل ليس فقط لكونها تربط الحضارات الشرقية القديمة بعضها البعض وتمرّ منها قوافل طريق الحرير، بل أضحت الموصل ملتقى حضاري وثقافي يلتقي فيها أبناء شعوب متعددة وتحمل معها عصارة الإنتاج الإبداعي الإنساني.
في مجال الموسيقى كان إبراهيم الموصلِيّ وإسحق الموصلِيّ وتلميذه زرياب الموصلِيّ، ثم جاء المُلا عثمان الموصلِيّ وبلبل العراق سيد أحمد الموصلِيّ وصولا إلى سيد إسماعيل الفحّام ومنير بشير وأخيه جميل بشير ثم المطرب كاظم الساهر.
كما أن عميد المقام العراقي محمد القبانجي هو الآخر من أصول ترجع إلى مدينة موصل رغم انه من مواليد بغداد كما ذكره هو بنفسه.
طلال عبد الرحمن، فنّان عراقي آخر أنجبته مدينة الموصل، لم تتيح له الظروف للشهرة داخل بلده العراق بسبب عمله الأكاديمي في جامعة الموصل. وكان زميلا لي في الإعدادية الشرقية في الستينيات هو والموسيقار العالمي أحمد الجوادي (1952-2020).
أجبرت ظروف الحصار الظالم المفروض على العراق طلال عبد الرحمن إلى مغادرة بلده، حيث هاجر إلى أوربا وبزغ نبوغه الموسيقي هناك وجذب الأضواء ليلتم حوله حشد كبير من المعجبين العرب والأوربيين.
أسس طلال عبد الرحمن في السويد (فرقة سومر الموسيقية) التي أخذت على عاتقها نشر التراث الموسيقي العراقي والعربي في أوربا، ونجحت بفضل جهود طلال عبد الرحمن نجاحا كبيرا واكتسبت سمعة طيبة. وقد كتب عنه الأستاذ الدكتور عمر الطالب في موسوعة "اعلام الموصل في القرن العشرين ".
طلال عبد الرحمن النعيمي (1951-2012):
ولد طلال عبد الرحمن في الموصل في أُسرة من الشعراء، حيث أخوه الأكبر كامل النعيمي (1948-2005) كان شاعرا وكذلك كان أخوه الأصغر منه.
تلقى طلال علومه الأولية في مدارس الموصل ثم دخل كلية الآداب/جامعة الموصل/قسم اللغات عام 1971 وتخرج فيها عام 1975، وكان يعزف على العود منذ أن كان طالباً في كلية الآداب.
زاول طلال عبد الرحمن الشّعر ونشرت له جامعة الموصل ديوانه الشّعري الأول: (الجسر) عام 1975، وامتاز شعره بالعذوبة والطلاوة.
انتمى طلال عبد الرحمن إلى الدراسات العليا في جامعة الموصل/ قسم اللغات وحصل على الماجستير عام 1979 ودرّس في قسم اللغات في كلية الآداب ونشر شّعره في الصحف والمجلات العراقية والعربية.
عانى طلال عبد الرحمن كباقي العراقيين في فترة الحصار، ثم هاجر الى السويد، وكوّن له فرقة موسيقية هناك. واشتهرت فرقته الموسيقية وسجلت عدة أشرطة راجت رواجاً كبيراً في الغرب؛ منها شريط (نايل) ويضم خمس عشرة أغنية وشريط (يا الله يا موليا) ويضم أربع عشرة أغنية.
قدّم طلال عبد الرحمن أغاني من الفلكلور العراقي بتوزيع موسيقي غربي واحيا حفل افتتاح مهرجان كان الدولي السينمائي عام 2000 بدعوة من الأمير الفرنسي (رينيه) أمير مقاطعة كان Cannes في جنوب فرنسا وزوج الممثلة الأميركية الشهيرة (كريس كيلي).
قدِم طلال عبد الرحمن الى العراق مرتين في عامي 2003، و 2004 ثم عاد الى السويد وعانى من مرض السرطان.
تحدث عن طلال عبد الرحمن صديقه وزميل الدراسة في الإعدادية الشرقية في الموصل أ.د سيّار الجَميل ونشر عنه مقالة عنوانها (طير عراقي مغّرد بحناجر اسكندنافية).
يقول الدكتور الجَميل: (عندما سمعتُ قبل سنوات مضت؛ وكنت اقيم بدولة الامارات؛ ذلك الصوت العراقي الدافئ القادم من اعماق اسكندنافيا؛ وهو يصدح بكل نغماته وآهاته ووقفاته وصعداته وقراراته مع موسيقى رخيمة كانت تصاحبه، اطرقتُ بكل جوارحي أنني أسمع أغنيات العراق الشجية التراثية القديمة بأداء مُتمكن عالي المستوى من قبل فتيات سويديات .. تعجّبتُ وفكّرتُ طويلا متسائلا: كيف استطاعت تلك الفتيات السيطرة على مخارج الحروف العربية ليغنين الأغنيات العراقية العذبة والصعبة في آن واحد؟! لم أكن وقت ذاك أعرف من يقف وراء هذه الفرقة العجيبة المنطلقة من السويد قبل سنوات، ولم اسأل عن مؤسسها واعضائها من الإخوة الفنانين العراقيين .. ومرت السنوات تباعا ونحن نهاجر من مكان الى آخر ، وأنا أسمع بأنشطة حيوية لتلك (الفرقة الرائعة) التي ذاع صيتها عند كل العراقيين).
وتحدث الدكتور الجميل عن لقاء العمر الذي جمعه في العاصمة الأردنية عمّان عند مشاركته في المؤتمر التأسيسي للمجلس العراقي للثقافة. فكان هناك لقاءه مع أصدقائه القدماء؛ ومنهم طلال عبد الرحمن والدكتور أحمد الحسّو.
وكانت المفاجئة أن يعرف الدكتور الجميل أن طلال عبد الرحمن هو مؤسس فرقة سومر السويدية وهو الدينامو المحرك لها. وقد أعلمه طلال عبد الرحمن أن صديقهما المشترك الموسيقار أحمد الجوادي هو أحد أركان فرقة سومر بالسويد.
آخر قصائده:
آخر قصائد الشاعر طلال عبدالرحمن عنوانها (آخر الأحلام) وكانت بتاريخ 28-04-2012، وكانت في مدينة (عشق آباد) حيث كان هناك مؤتمرا عن الشعب التركمانستاني وتراثه.
خبزٌ ورعدٌ وخريرْ
ونصف’ غيمٍ،
نصف’ صحوٍ ومطرْ
لي حلمٌ يا سادتي،
لي حلمٌ أثيرْ.
كحلمِ عصفورٍ صغيرٍ قابعٍ في عشّهِ
ما بين سقفِ بيتنا الطينيِّ،
والمزريبِ في يومٍ مطيرْ
ينتظرُ المزنةَ أن تعبرَ كي يطيرْ.
لي حلمُ يا سادتي،
لي حلمٌ فقيرْ
أحلم أن أعودَ من مدرستي
مبللاً، شعريَ والملابسْ
تفوح من ملابسي
رائحة الصوفِ التي هيّجها المطرْ
رائحةُ الأرضِ وفوحُ الطينِ
والأسفلتِ والشجرْ
أبحثُ عن أمّيَ في الدارِ فلا أراها
أسمع صفقتينِ أو ثلاثْ
أهرَع كالأرنبِ
عبر الدّرجِ الجبسيِّّ للسطوحْ
تدهَمني رائحةُ الخبزِ
ودفءُ النارِ في التنورْ
عيني على الخبز الذي يُسكر دونَ خمرةٍ
ويشحن الأرواحَ بالحياه!
أقضُم لقمتينْ
فيكتوي لساني
الللللللله!
اللللللللله!
تلكم هي الحياه!
ومنظرْ القوسِ قزحْ
يمتدّ من أعماقِ أعماقِ السماءْ
إلى تخوم حيّنِا الفقيرْ
ذاك هو الحلُمْ!
وما عدا ذلك تُرّهاتْ!
تلكمْ هي الحياة!
خبزٌ ورعدٌ وخريرْ
ونصفُ غيمٍ
نصفُ صحوٍ ومطرْ
لي حلُمٌ يا سادتي!
لي حلمٌ صغيرْ!
أحلمُ أن أنامَ في غرفتِنا القديمهْ
على صدى الخارورِ في صينيةِ الفافونْ
من سقفنا الطينيّ ِفي أواخر الليلِ وفي عزّ المنامْ
ألوذ باللحافِ من رذاذهِ يدغدغ العيونْ
ربّاهُ ما أعذبَ أن أنامْ
على صدى الخارورِ في صينيةِ الفافونْ
والرعدِ والبرقِ ومذياع ِأبي
آه ٍأبي!
وأهِ مذياعُ أبي!
ينساه مفتوحاً على الدوامْ
حين ينامْ
مخرخشاً يسحب كل الرعدِ في الأثيرْ
والبرق ُمن شباكنا الصغيرْ
يضئ كلّ ذرةٍ في الغرفةِ العتيقهْ
حيث ننام كلّنا
سبعتُنا، بلا سريرْ.
لله كيف استُبدل الخارورُ في صينيةِ الفافونْ
فصار ناقوطاً يصبُّ في الوريدْ
يقطر من زجاجةٍ مقيتةٍ فوقي،
وحولي أجهزةْ
ترنُّ أو تطنُّ أو تشخَر طول الليلِ والنهارْ
وأين مذياعُ أبي؟
أين أبي العظيمْ!
وصوتُ أمي غائرّ في السقفِ
يدعوني " تعال!"
أمي التي كانت إذا ما فرخ ُعصفورٍ هوى من عشّهِ
تبكي عليهْ
لبيكِ يا أماهَ إني قادمً!
قد طالت الجراحُ يا أمي
وقد طال الألمْ
وصارت الدنيا كخرمِ إبرةٍ
وملّت الروح ُمن الجسدْ
لا شئَ غيرُ حضنِك الدافئِ
يشفيني من الجراحْ
وقضمةٍ من خبزكِ الأثيرْ
سئمتُ من هذي الإبرْ
تنغزُ في ألوريدِ يا أماهُ من سنينْ
وهذه الأجهزةِ المقيتةْ.
غداً سآتيكِ إلى دارتِنا العتيقةْ
أهرَع كالأرنبِ
عبرَ الدّرج ِالأبيضِ للسطوحْ
تدهَمني رائحةُ الخبزِ
وفوحُ النارِ في التنورْ
أقضمُ من خبزِكِ لقمتينْ
فيكتوي لساني
وينتهي الألمْ
ومنظرُ القوسِ قزحْ
يمتدُّ من أعماقِ أعماقِ السماءْ
إلى تخومِّ حيّنِا الفقيرْ
تلكمْ هي الحياة!
والحلمُ الأثيرْ
خبزٌ ورعدٌ وخريرْ
ونصفُ غيمٍ
نصفُ صحوٍ ومطرْ
https://www.youtube.com/watch?v=-iyvpBNeE-o&t=10s
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى
898 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع