أوقفوا القتل باسم القانون

 د.ضرغام الدباغ

 أوقفوا القتل باسم القانون

دون كلل أو ملل، نطالب جميع الكيانات السياسية، أوقفوا تنفيذ أحكام الإعدام، إنها مجزر بحق البشر، لا يهمني ما قد فعل الجاني، يهمني أن الدولة هي أب للجميع بدرجة واحدة، لا أن تتحول بعقلائها وحكمائها وعلماءها إلى جناة بإرادتهم ولخلافها، مع سبق الإصرار والترصد، لا أقول هذا ولا أطالب به تناغما مع الموجة العالمية، ولكني أدفع، مع غيري، محاولا استبعاد هذه المادة من القوانين الجزائية وعقوباتها،

فقد شهدنا مرات كثيرة، كثيرة جداً، تنفيذ حكم الإعدام بشخص ثم تثبت برائته لاحقا، براءة الذئب من دم أبن يعقوب (البراءة المطلقة) وغالباً ما تكون الأحكام لأسباب سياسية، أو لضعف واضح في سياق المحاكمات، بحيث تتحول المحاكمة إلى معاقبة للأشخاص وانتقام منهم. وأستطيع الجزم بكل ثقة، أن نسبة تقارب بين 60 إلى 75% من الافراد ممن ينالون هذه العقوبة القصوى التي يستحيل تصحيحها أو إعادة النظر فيها، عوقبوا جزافاً، أو ضوعفت العقوبة لأسباب غير منطقية.

لا أركز هنا على جرائم القتل العمد (مع سبق الإصرار والترصد) فهذه جرائم فيها حق ذوي المجني عليه، ولكني ألتجأ إلى مخاطبة عقل المجتمع متمثلاً بهيئاته القضائية، التي لا يمكن أن تقبل على نفسها، أن تكون الأداة المنفذة لهوس انتقامي، تنفذ إرادة من يريد أن يلبس أحكامه الجائرة ثوب القانون، فينجح بتشكيل محاكم شكلية، تفتقر لأبسط شروط حتى محاكم المخالفات المرورية. أعداد هائلة سيقت إلى محاكم حكومية، تحت قبة بناية وعلم الدولة، ونفذ حكم الإعدام بمئات أو ألوف، لأن السلطة الحاكمة تريد أن تتخلص من منافسيها أو خصومها بواسطة المحاكم، الأوربيون ليسوا رحماء، ولكنهم يدركون أن حل المشكلات لا تكون تحت ظلال المشانق، بل بالعكس سلم المشنقة يصنع قضية، وقضية كبيرة...!

منذ فترة وأنا أريد طرح هذا الموضوع، وأتمنى أن يثير الجدل، وأتوقع أن يكون له معارضون أقوياء، ولكن حكماء كثيرون أيضاً، بل وأستطيع أن أتنبأ بحجج المعارضين، كما أن أتوقع أبعاد التأييد. وابتداء أنا لا أتوقع أن الحكم بالإعدام عقوبة رادعة، بدليل أنها تنفذ من الآلف السنين، الجرائم ذات الجذور الاجتماعية، علاجها لا يتم عبر المحاكم والسجون والمشانق، ولكن دعونا أن نناقش فلسفة عقوبة الحكم بالإعدام.

عقوبة وتنفيذ الحكم بالإعدام هو من القرارات النادرة التي لا يمكن إعادة النظر بها. أو تعويض من وقع الحكم عليه، إذا ما توصل من أصدر قرار الحكم أنه قد بالغ بالعقوبة، أو تجاهل الأسباب المخففة، ولم يمنحها حقها في قرار حكمه، أو اكتشاف معطيات وأدلة جديدة تغير من قناعة الحاكم، أو لربما ما هو أكثر مدعاة للمطالبة بإلغاء الحكم بالإعدام، عندما يكتشف القاضي أن من حكم عليه بالإعدام ونفذ بحقه، برئ .. براءة الذئب من دم يوسف، فيندم القاضي ولكن ندماً لا يصلح الخطأ، ويتحمل موت ضحية بريئة.

كانت فرنسا آخر دولة أوربية ألغت الحكم وتنفيذ الإعدام، في بداية الثمانينات، وكان السبب المباشر لذلك، هو اكتشاف معطيات جديدة قادت إلى إلقاء القبض على مجرم، وتبين أن هذا المجرم هو الفاعل لجريمة حكم على رجل آخر بسببها بالإعدام ونفذ به الحكم قبل عامين وهو برئ. فاستقال وزير العدل رغم أن الحادثة لم تكن في عهده شخصياً، ولكنه استقال كشخصية اعتبارية.

القضاء في أوربا دقيق إلى حد بعيد، ولكن ليس دون أخطاء، وأحياناً أخطاء كبيرة، وأعلم أن الحكومات تعمد إلى تعويض من حكم عليهم بالسجن تعويضاً سخياً، ولكن كيف يعوض من فقد حياته ظلماً ...؟ وأهله وأطفاله وأصدقاؤه ...؟ أليس من الأفضل أن يفلت مئة جاني من حبل المشنقة، على أن يعدم شخص واحد برئ ...؟ والحاكم الذي يصدر أحكام الموت، قد يكون بوسعه أن يخلد تلك الليلة للنوم في فراشه، لأنه لم يقم بعمل مخالف للقانون، ولكن ماذا عن الضمير ...؟ وماذا إذا أكتشف بعد مدة من الزمن أن قراره كان خطأ فادحاً ...؟

في البلدان الديمقراطية، لا يخلو الأمر، أحياناً أو غالباً، من أن يتحول الحاكم إلى طرف، في حين أن رمز العدالة هو سيدة تحمل ميزان العدالة معصوبة العين، إشارة إلى ضرورة النزاهة التامة المطلقة، فيتعاطف مع الضحية، أو يتأسف على الجاني، والأمر كله بتقديري خطأ، فالنفس التي أزهقت (بصرف النظر عن الأسباب والظروف) أو النفس التي تحاكم، كلاهما نفس تستحقان الحياة، أحدها أزهق ظلماً واعتداء، في ظروف نفسية واجتماعية وصحية غير طبيعية، وأخرى يراد لها أن تزهق بأيدي موظفون وأمام ممثلي الهيئة الاجتماعية (مدير السجن، المدعي العام، الطبيب الشرعي، رجل الدين وآخرون) داخل مؤسسة رسمية (بناية السجن)، وهذا ما يحملنا على القول، أن الهيئة الاجتماعية تنفعل وتغضب وتقوم بعمل مشابه أو مقارب لما قام به الجاني المدان.

قرأت كثيراً أحكام صدرت خطأ بالإعدام أو بالسجن خطأ في دول قضاءها راق ومتقدم كالولايات المتحدة وسويسرا وأوربا، وهذه الأخطاء التي هي كثيرة في الواقع رغم النظام القضائي الممتاز الذي يتيح للمتهم الدفاع عن نفسه، وتميز الحكم وعلى الأرجح بنزاهة ودون تداخلات، ولكن رغم ذلك الخطأ ممكن ويحدث وللأسف ليس نادراً ... هذا في الدول التي تمتلك قوانين إنسانية وقضاء عادل، فما بالك في دول القضاء فيها مسيس، والقاضي إنسان من هذا المجتمع ومن ناسه وأهله ومن أهواءه ومشاربه ...! ألا يرتفع احتمال الخطأ، ألا يتحول الحكم إلى نوع من انتقام وثأر، أليست مجتمعاتنا مشبعة بأفكار وعادات وتقاليد الثأر والانتقام ...؟

دون ريب حين يرتكب المجرم جريمة قتل، في معظم الحالات لا يكون إنساناً سوياً، أو أنه يمر خلال ارتكابه الجرم بوضع نفسي يضعه خارج المسؤولية وهذه من موانع المسؤولية، إن يكون الإنسان في غير حالته الطبيعية، بسبب وضع نفسي، أو تأزم عصبي دائم أو وقت ارتكابه الجرم، أو ربما بسبب وقوعه تحت تأثير المخدرات أو الخمر. أو بدوافع أخرى تقدرها المحكمة، لذلك هناك فصل في اجتهاد القانون الجنائي يطلق عليه " موانع المسؤولية الجنائية". وفي حالة إيقاع العقوبة القصوى "الإعدام" يكون المجتمع يجاري المجرم غضبه وانفعاله، ويخطأ ربما" كما خطأ هو "ربما". المجرم حين يرتكب فعله لا يعرف علم النفس ولا علم الإجرام، أو علم النفس الجنائي، ولكن القاضي بوصفه ممثلاً للهيئة الاجتماعية بأسرها " قد" يسمح لنفسه بارتكاب خطأ، ويقود باسم المجتمع رجلاً أو امرأة إلى الموت مع سابق الإصرار، وبدم بارد.

لهذه الأسباب وضع المشرعون في معظم بلاد العالم حرية للقاضي في اتخاذ قراره بين حدود إيقاع العقوبة بحدها الأقصى والأدنى، دفعاً لخطأ قد يقع فيه القاضي، أو التباساً يصعب إصلاحه. ومثل هذا التحوط احتاط له حكام عبر التاريخ، وفي تاريخنا العربي الإسلامي تحديداً، فلم يكن إيقاع عقوبة القتل خياراً مفضلاً في الدول الإسلامية، وخاصة الدولة الراشدية (الخلفاء الأربعة)، استرشاداً بحديث وتوجيه للقضاة للرسول (ص) : " ادرَؤُوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مَخرج فخلُّوا سبيلَه، فإن الإمام إن يُخطئ في العفو خير من أن يُخطئ في العقوبة " حديث رواه الإمام أبو حنيفة عن أبن عباس.

أود خلال هذه المداخلة القصيرة، أن أدعو إلى إصلاح النظام القضائي. ومن المعروف أن القوانين تعبر عن درجة رقي المشرع واحترامه للمواطنين، والمجتمع بأسره. أدعو إلى قوانين، وإلى تنفيذ هذه القوانين بطريقة تحترم الإنسان، ولا تعتبره خصماً تنتظر منه الهفوة لتدمره. في البلدان المتقدمة "نظاماً ومجتمعاً" الدولة وسلطاتها تعاقب المخالفين، ولكنها تفعل ذلك بدون إهانة ولا اعتداء، وتحترمه من أول لحظة إلى مرحلة تنفيذ الحكم بالسجن أو غيره. في الثقافة الأوربية، الجلاد المكلف بالتنفيذ، ينحني ليهمس في أذن من سيقطع رأسه بالفأس" سامحني أرجوك، أنا أفعل هذا باسم القانون".

لتكن قوانيننا والقائمين على تنفيذها أكثر لطفاً ورحمة وعطفاً، لنضع قوانين جيدة متحضرة تتعامل من المواطنين كبشر، ولتنفذ القانون بدقة، وبأحترام لآدمية الإنسان، لا أن يدور كل ذلك في أجواء مشحونة بالكراهية والبغضاء. وفي هذا الكل خاسرون الظالم والمظلوم، وقبل كل شيئ الوطن. وأمل أن يهب الكتاب والمثقفون إلى التفاعل

المثقفون مطالبون، ورجال الفكر والمتنورون، ورجال العدل المطلق، لا للانحياز للتقليد المتخلف في الثأر أو الانتقام ... فلنشدد الحملة بإيقاف، بل بإلغاء أحكام الإعدام من القانون وأمل أن يهب الكتاب والمثقفون إلى التفاعل، لنكن مجتمعاً له قلب وعقل واحد، ليس من الضروري أن تشنق أنت لأحس أنا بالظلم ...!

أوقفوا القتل بأسم القانون

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

603 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع