من نافذةٍ في مشفى .. رأيت وطني للشاعر العراقي حميد سعيد

سمير اليوسف

من نافذةٍ في مشفى .. رأيت وطني للشاعر العراقي حميد سعيد

تُعدّ قصيدة " من نافذة في مشفى.. رأيت وطني" للشاعر العراقي حميد سعيد من النصوص الشعرية التي تتكثف فيها الرمزية والبلاغة والوجدان الفلسفي ضمن مونولوج داخلي ينزف شجناً وجودياً، ويُقدّم رؤية قاتمة وموجعة لوطنٍ مريضٍ بحروبه. إننا هنا أمام قصيدة تتداخل فيها صور بلاغية مركبة، وإشارات رمزية لاهبة، وهمسات فكرية تشتبك بالسؤال الوجودي، وتنفتح على عوالم الغيب والموت والانبعاث.
منذ مطلع القصيدة، نلمح العتبة الأولى للدهشة والانكسار، حيث يقف حميد سعيد خلف "نافذةٍ في مشفى"، نافذة لا تطل على الحياة بل على غابة روحه السوداء:
"كنتُ أُحاوِلُ أنْ أخرجَ من غابة روحي ..
سوداءٌ غابة روحي"
هذه الصورة البلاغية تُظهر داخل الذات كشجرة ملتفة بالفقد والوحشة، حيث الغابة تمثل ضياع المعنى، والسواد لون الحزن المسيطر، والمشهد الداخلي يتضخم بالصمت:
"الصمتُ يُحاصِرُني ..
وثواني الساعة ديناصوراتٌ تمشي في حقل القارِ"
إنها صورة سريالية مذهلة، تعكس التوتر النفسي والزمن الثقيل، حيث تُحوَّل الثواني إلى كائنات ما قبل التاريخ، تمشي ببطء على قِطرٍ لزجٍ، في إيحاء بالتعفن والزوال، وهي من أقوى الصور البلاغية التي تجمع بين التشبيه والاستعارة والاستبطان.
في هذا الجو المنغلق، يُطوّر حميد سعيد مونولوجاً داخلياً مريراً، حيث يُناجي وطنه بشبه هلوسة، ويكرر السؤال الموجع:
"من أي الطرقات أرى شَمْسَكَ؟
..كلُ الطرقاتِ أقام بَها الغَلَسُ"
الشمس هنا رمز للكرامة والحرية والنقاء، أما الغلس فهو الظلمة الملتبسة، في تصوير رمزي يُبرز الاحتلال أو القمع أو خيانة الوطن لأبنائه. هذا النداء يتكرر بإلحاح درامي:
"خُيِل لي أنك تسمعني .. بل أنك تسمعني
مَنْ يَسمَعُني ،، إنْ لمْ تَكُ تسمعني!؟"
هذا الاستفهام الاستنكاري يُمثل ذروة الحوار الداخلي بين الشاعر وذاته المتشظية في وطنٍ يُغيّبه ولا يسمعه. إن الشعور بالخذلان واللاجدوى يُعمّق الأثر الوجودي في القصيدة، حيث يضيع الصوت، ويغيب السامع، وتُصبح الذات بلا مرآة.
يبلغ هذا الوجع ذروته حين يرى الشاعر الوطن محاطاً بالموت والتحلل:
"كنتَ محاطاً بطيورٍ نافقةٍ سودْ
وتُحاوِلُ أن تدفعَ عن روحِكَ .. زَحفَ الدودْ"
إن صورة الطيور النافقة السوداء تتكرر، وتحمل معنى الخراب والانحدار الروحي، بينما الدود الزاحف يرمز إلى موت القيم وتفسخ المجتمع. يُعيد الشاعر الصورة، فيضفي عليها طابعاً شكّياً فلسفياً:
".. تساءلتُ
أكنتَ تُحاوِلُ أن ندفعَ عن روحكَ.. زحفَ الدود ؟"
في القصيدة استدعاءً متكرراً لصورة المقبرة البيضاء:
"وفي هذي المقبرة البيضاء
يقومُ الموتى في كل مساءْ
.. ينتشرون بغابة روحي"
المقبرة البيضاء ليست مكاناً واقعياً فحسب، بل هي تمثيل رمزي لعالمٍ مفرغٍ من الحياة، حيث الموتى بلا لغة ولا أسماء:
"ليس لهم لغةٌ .. لا أحلام لهم .. ليس لهم أسماءْ
موتى أحياءْ"
هذه مفارقة بلاغية تُعبر عن حالة مجتمع حي ظاهرياً لكنه ميت في داخله، وهو ما يُحوّل الغيبوبة الجسدية للشاعر إلى غيبوبة رمزية جماعية. وفي هذا المناخ، يتكرر الحديث عن "العصفور الأبيض"، رمز الأمل أو الخلاص أو الروح الطاهرة، لكنه يُصاب بجراح:
"ينزِلُ في أرضٍ طيبةٍ .. فيها جناتٌ وعيونْ
يَُدهمُهُ نسرٌ رَثٌ .. وَيُجرِحُهُ.."
النسر هنا رمز للقوة القمعية أو للخراب السياسي، يهاجم العصفور الأبيض الذي يمثل وطن الطفولة أو الحلم، لكن دمه يتحوّل إلى عاصفة تتساقط منها الأقمار والنجوم، في صورة شعرية مذهلة تجمع بين الأسطورة والانبعاث.
في مقطع بالغ الفلسفة، يسائل الشاعر فكرة الموت، محاولاً "تأنيسه" أو تصالحه معه:
"أيكونُ الموتُ أليفاً .. أيكونُ نظيفاً.. أيكون !؟"
هذا التساؤل يمثّل تجسيدًا للحظة فلسفية في مواجهة الفناء، لكن دون أن يُغادر الشاعر رمزيته، حيث يربط اقتراب العصفور الأبيض باقتراب الموت:
"فأعدو نحوهما
ورأيتُكَ في غيضكَ.. تأكُلُ أطرافكَ ديدانٌ جائعةٌ
ورأيتُكَ في فيضكَ .. محفوفاً بالجمر .."
وتستمر صور الحريق والتفسخ لتدل على انعدام الرجاء، مع تمجيد مأساوي للأمطار التي وُعد بها الوطن منذ البداية:
"مُذْ كُنتَ .. وأنتَ على وعدٍ بالأمطارْ.. فأينَ الأمطار
أين الأمطار؟"
ويختتم الشاعر قصيدته بمرثية لوطن مصلوب، تُغتصب لغته، وتُباع كرامته، وتُنهك رموزه. لافتة الصورة التي يقول فيها:
"الدبابات تعري اللغة الأولى.. تَغْتَصِبُ بيوتَ اللهْ
.. الله.. الله"
وهذه ذروة الرمزية المأساوية، حيث اللغة الأولى تمثل النقاء الإنساني والديني، والاغتصاب هو نزع قداسة الأرض والوطن.
أما البرحي والعنبر وشط الحلة والوردية، فهي رموز محلية عراقية تُستدعى في سياق الحنين والانكسار، ثم تُواجه بحقيقة مُفجعة:
"قُلتُ .. ستفتَحُ أمي الباب.. ويأتي الأصحابْ
أمي والأصحابْ
الورديةُ والبابْ
محضُ سرابْ"
ويعود المونولوج إلى ذروة الإنكار:
"كيف أقول لمن يسألني .. هذا وطني !؟"
___________________
باختصار، إن قصيدة "من نافذة في مشفى" هي تأريخ شعري لانهيار معنى الوطن، إذ تُدمج الصور البلاغية المكثفة (كالاستعارة والرمز والمفارقة) بالمونولوج الداخلي المتكرر، مما يجعلها تجربة وجودية كبرى، تتقاطع فيها الذات المجروحة مع وطن ينزف بصمت، وتُوجّه فيها القصيدة سؤالها الكبير: هل لا زال لهذا الوطن اسم؟ هل لا زال له أبناء يسمعونه؟

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

900 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع