بقلم اللواء الركن /علاء الدين حسين مكي خماس
الوطن والوطنية بين الأسطورة السياسية والواقع الاجتماعي
مقدمة
تعلّمنا منذ الصغر أن حب الوطن من الإيمان، وسمعنا الأغاني والأناشيد التي تمجّده، والقصائد التي تحتفي بالتضحية في سبيله. ترسّخ هذا المفهوم في وعينا وكبر معنا حتى بات جزءًا من هويتنا الثقافية والاجتماعية. ومع ذلك، يبقى السؤال مطروحًا: هل يقتصر حب الوطن على الشعارات والتضحيات في ميادين القتال، أم أن هناك أوجهًا أخرى أكثر عمقًا وتأثيرًا للتعبير عن هذا الحب؟ هل حب الوطن يعني فقط مواجهة الأعداء، أم أنه يشمل العمل الجاد من أجل بنائه، وتنميته، والنهوض بأبنائه دون اعتداء على أوطان الآخرين؟
الوطن ليس مجرد رقعة جغرافية، بل هو فكرة متجذرة في الوعي البشري، رمزٌ للانتماء والهوية والذكريات الجمعية. لقد كان على مرّ التاريخ باعثًا للثورات وحركات التحرر، كما كان موضوعًا محوريًا في الفلسفة والأدب والفكر السياسي. لكن متى بدأ الإنسان يشعر بالانتماء لوطن؟ هل ارتبطت هذه الفكرة بنشوء الدول القومية الحديثة، أم أنها سابقة لذلك بزمن طويل، تعود إلى المجتمعات الأولى التي لم تكن تعرف الحدود السياسية كما نعرفها اليوم؟ وكيف كان الإنسان القديم يعبر عن ولائه لأرضه؟ ومن هم الفلاسفة والمفكرون الذين بلوروا مفهوم الوطن والوطنية عبر العصور؟
هذا المقال يسعى إلى تفكيك هذه التساؤلات من خلال مقاربة فلسفية وتاريخية لمفهوم الوطن، منتقلاً إلى الأبعاد الأخلاقية والسياسية المرتبطة به في العصر الحديث. كما يناقش كيف يمكن التعبير عن حب الوطن بوسائل تتجاوز القتال والتضحية، عبر البناء، والمعرفة، والتنمية، والنقد المسؤول. وأخيرًا، يختتم المقال برؤى تأملية حول مستقبل الوطنية في ظل العولمة والتحديات الرقمية التي تعيد تشكيل مفهوم الانتماء والهوية في العصر الحديث.
مفهوم الوطن: النشأة التاريخية والفلسفية
يمكن تتبّع جذور مفهوم الوطن في أقدم المدونات اللغوية والأدبية. فكلمة وطن في اللغة العربية – على سبيل المثال – ترجع في أصلها اللغوي إلى معنى موطن إقامة الإنسان ومستقرّه ( وطنية - ويكيبيديا) . يذكر ابن منظور في لسان العرب أن الوطن هو المنزل الذي يقيم فيه المرء (وطنية - ويكيبيديا). وقد عكست معاجم العرب وحياتهم البدوية هذا المعنى المرتبط بالاستقرار والألفة؛ فاستُخدمت كلمات مثل الحِمى (أي الموضع المحمي أو مرعى القبيلة) والمَنْزِل والدِيار مرادفةً للوطن، وجاء ذكر الديار كثيرًا في سياق رثاء الأطلال والحنين إليها )وطنية - ويكيبيديا( ان وقوف الشاعر الجاهلي أمام الأطلال البالية لديار قبيلته – كما فعل امرؤ القيس الكندي في مطلع معلقته الشهيرة: «قِفا نَبْكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ» – يحمل في ثناياه بذور مفهوم الوطن بمعناه الوجداني (وطنية - ويكيبيديا). لقد سنَّ امرؤ القيس تقليد الوقوف على الآثار واستحضار الذكريات المرتبطة بالمكان، مما يدل على رسوخ عاطفة الانتماء إلى الأرض والديار في الوجدان العربي القديم )وطنية - ويكيبيديا (وليس الشعر الجاهلي استثناءً؛ فالحنين إلى الوطن ظهر أيضًا لدى أمم وحضارات أخرى في العصور القديمة. فعلى سبيل المثال، عُثر على نصوص سبئية (من جنوب الجزيرة العربية القديمة) ترد فيها كلمة «وطن» بمعنى الحدود أو نطاق الأرض (وطنية - ويكيبيديا) ، مما يشير إلى أن مفهوم المكان الخاص بالإنسان كان حاضرًا في ذهنه بوصفه شيئًا يستحق التحديد والحماية حتى قبل نشوء الدولة الحديثة.
وفي الحضارات الزراعية الأولى كوادي النيل وبلاد الرافدين، تبلورت علاقة الإنسان بالأرض كمصدر حياة وهوية. ارتبط المصري القديم بأرض كيميت (مصر) التي وهبته النيل والخير، ونقش ولاءه لها في أساطيره ونقوشه. كما أن أسطورة جلجامش في حضارة بابل تشير إلى قيمة المدينة أوروك بالنسبة لشعبها، بوصفها فضاءً حضاريًا يجسّد انتماءهم الجماعي. ولعلّ أقدم تعبير فلسفي عن فكرة الوطن نجده عند الإغريق؛ فمصطلح باتريوس (patrios) في اليونانية القديمة عنى أرض الآباء أو الأسلاف (وطنية - ويكيبيديا)، وميّز الإغريق أنفسهم عن غيرهم من الشعوب عبر هذا الانتماء المشترك إلى بوليس )المدينة-الدولة) City-State (Polis) (وطنية - ويكيبيديا) . هكذا نرى أن الشعور بالارتباط بالأرض وبالجماعة عاش فيها هو إحساس متجذر في أعماق التجربة الإنسانية، سبق بقرون طويلة ظهور المفهوم الحديث للوطنية المرتبط بالدولة القومية.
الوطن في الفكر الفلسفي القديم
لم يكن مفهوم الوطن غائبًا عن تأملات الفلاسفة القدماء، وإن ظهر بصيغ تختلف عن دلالته السياسية الحديثة. فعند الفلاسفة اليونانيين كسقراط وأفلاطون وأرسطو، برزت قيمة المدينة (بوليس) City-State (Polis) اعتبارها الإطار الأسمى الذي يحقّق فيه الإنسان فضيلته وسعادته. الإنسان عند أرسطو «حيوان سياسي (مدني) بطبعه» يحتاج إلى الانخراط في مجتمع منظم (طبيعة الاجتماع ومنشأ الحكم | دراسات عن مقدمة ابن خلدون | مؤسسة هنداوي.) وقد تبنّى الفارابي (ت 950م) – وهو من رواد الفكر السياسي في الحضارة الإسلامية – هذه النظرة حين وصف الإنسان بأنه مدني بفطرته، لا تتحقق كمالاته إلا ضمن جماعة منظمة. في كتابه آراء أهل المدينة الفاضلة يعرض الفارابي تصوّره للمدينة الفاضلة التي يتعاون أفرادها في ما بينهم لنيل السعادة والفضيلة (آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها - ويكيبيديا) . يقول الفارابي إن «المدينة الفاضلة في نظره هي التي تتحقق فيها سعادة الأفراد على أكمل وجه، ولا يكون ذلك إلا إذا تعاون أفرادها على الأمور التي تُنال بها السعادة» (آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها - ويكيبيديا. واضح هنا أن الولاء للوطن – أو للمدينة في سياق الفارابي – يتجسد عبر العمل التعاوني من أجل الخير العام. إنها رؤية مبكرة تجعل من الوطن الفاضل ذلك المجتمع المتآزر الذي يوفر لأبنائه حياة أخلاقية راقية.
وفي سياق الفكر العربي الإسلامي الوسيط، نجد إشارات أخرى إلى قيمة الانتماء إلى الأرض والجماعة. الجاحظ البصري (ت 868م) مثلًا – وهو أديب ومفكر موسوعي – يُنسب إليه رسالة عنوانها «الحنين إلى الأوطان» تناول فيها معنى الشوق إلى الوطن .وعلى الرغم من الشك في نسبة كل محتويات هذه الرسالة للجاحظ، إلا أنها تدل على أن مفهوم الوطن كموضع حنين وحب كان متداولًا لدى علماء تلك الحقبة. وتشير بعض الدراسات الحديثة إلى أن أدباء ذلك العصر شبّهوا الوطن بالأم التي تحتضن أبناءها وتغذيهم، حتى قيل إن الوطن بالنسبة للإنسان كالثدي المرضع للوليد (Land and Belonging in the Medieval Islamic World - H-Net Reviews) – في إشارة مجازية إلى أن الوطن هو مصدر الرعاية والتنشئة الأولى. وليس غريبًا إذاً أن يتجسد الوطن عندهم في صورة المكان الذي يسكُن الذاكرة ويُشكّل الهوية، حتى لو لم يكن وطنهم دولة حديثة بحدود سياسية مرسومة. لقد كان الوطن آنذاك هو الأرض والقبيلة والمدينة التي يولد فيها الإنسان ويترعرع، والتي تترك في نفسه imprintانطباع لا يمحوه الترحال. وقد أشار ابن خلدون (ت 1406م) – في مقدمته الشهيرة – إلى قوة هذا الارتباط الفطري بالأرض؛ فحين شرح ضرورة الاجتماع الإنساني وتكوين العمران، ذكر قول الحكماء أن « الإنسان مدنيّ بالطبع» أي لا بد له من العيش في جماعة (طبيعة الاجتماع ومنشأ الحكم | دراسات عن مقدمة ابن خلدون | مؤسسة هنداوي.( وهذا الاجتماع البشري عند ابن خلدون ينشئ العصبية أو التضامن الذي يربط أفراد الجماعة بعضهم ببعض، والذي بفضله تقوم الدول والإمارات. فكأن العصبية لدى ابن خلدون هي الوجه الآخر لحب الانتماء، سواء كان انتماءً لقبيلة أو لوطن بمفهومه الواسع. ومما يُنسب لابن خلدون أيضًا قوله إن «أوطان الناس تظهر في خلقهم وأخلاقهم»، بمعنى أن البيئات الجغرافية والاجتماعية تصوغ طبائع البشر. وعلى الرغم من أن ابن خلدون لم يستخدم مصطلح الوطنية بمعناه الحديث، إلا أنه أدرك قوة رابطة الانتماء إلى الأرض والجماعة في بناء الدول وديمومتها )ما دور المواطنة والوطنية في تحقيق التماسك الاجتماعي عند ابن خلدون - إجابة) (ما دور المواطنة والوطنية في تحقيق التماسك الاجتماعي عند ابن خلدون - إجابة . (وهكذا يتضح أن المفكرين المسلمين الكبار، من أمثال الفارابي والجاحظ وابن خلدون، قد عالجوا جوانب من مفهوم الانتماء إلى الوطن/الجماعة في إطار تصورهم للفرد والمجتمع والدولة، حتى وإن اختلفت مصطلحاتهم عن المصطلحات الحديثة.
أما في الفكر الآسيوي القديم، فقد تجلّى مفهوم الوطن من خلال قيم الولاء للأسرة والإمبراطور بوصفه رمز الدولة. ففي الصين الكونفوشيوسية مثلاً، كان الولاء لـالوطن/الدولة يُرى امتدادًا للولاء للأسرة؛ إذ على الفرد أن يكون مخلصًا لعائلته أولاً ثم لحاكمه ووطنه في مرتبة أوسع. ولم تكن هناك لفظة صينية تعادل تمامًا الوطنية الحديثة، لكن قيم الإخلاص والوفاء في تعاليم كونفوشيوس جسّدت نوعًا من الشعور الوطني المبكر. وكذلك في الهند القديمة، نجد في ملحمة (رامايانا) مثلاً مثالاً للأمير (راما) الذي يخوض المصاعب دفاعًا عن مملكته وأهله، مما يعكس قيمة الواجب نحو الوطن بوصفه حكمًا أخلاقيًا. هذه الأمثلة الشرقية توضح أن الشعور بالانتماء للأرض والكيان السياسي ليس حكرًا على ثقافة دون أخرى، بل هو جزء من التجربة الإنسانية الجامعة.
الوطن والدولة القومية الحديثة
على الرغم من وجود شعور عاطفي عميق بالوطن عبر التاريخ كما رأينا، فإن مصطلح الوطنية بمفهومه السياسي الحديث يعدّ تطورًا جديدًا نسبيًا. فقد ظهرت كلمة «الوطنية» بمعنى (Patriotism) في اللغة العربية خلال القرن التاسع عشر في سياق النهضة والتحديث وطنية - ويكيبيديا.
سبقتها في أوروبا تشكّل فكرة الأمة القومية منذ القرن الثامن عشر، حين بدأت الشعوب تتحدث عن الوطن بوصفه دولة ذات سيادة تجمع شعبًا ذا هوية مشتركة. أصل مصطلح Patriotism نفسه يعود إلى الكلمة اليونانية (باتريوطيس) (πατριώτης) التي استُخدمت في اليونان القديمة للتمييز بين المواطن المنتمي إلى مدينته والبرابرة الغرباء وطنية - ويكيبيديا . ولكن المحتوى الحديث للوطنية تبلور عبر مخاض طويل في أوروبا شمل حروبًا وثورات: من حروب الإصلاح الديني والثورة الهولندية في القرن السادس عشر (وطنية - ويكيبيديا)، إلى الثورات الأمريكية والفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر التي جعلت الولاء للأمة وللدولة-الأمة فوق أي ولاء آخر. وهكذا أصبحت الوطنية تعني الفخر بالانتماء إلى أمة ذات سيادة على أرض محددة، والالتزام بحمايتها والدفاع عنها. وانتقلت هذه الفكرة إلى العالم العربي مع احتكاك المثقفين بالغرب في عصر النهضة. فظهرت كتابات رواد النهضة كمثقفي الشام ومصر في القرن التاسع عشر تمجّد مفهوم الوطن بمعناه الجديد. على سبيل المثال، أنشأ بطرس البستاني في بيروت مجلة (نفير سورية) عام 1860 داعيًا جميع أبناء الوطن (سوريا) إلى الوحدة ونبذ الفتن الطائفية، مؤكدًا أن الوطن للجميع يتسع لمختلف الأديان والمشارب. وكانت تلك من أولى التعبيرات عن الوطنية بمعناها المدني في الفكر العربي الحديث.
من اللافت أن الاستخدام العربي المبكر لمفهوم الوطنية في القرن التاسع عشر لم يحمل في بدايته محتوى سياسيًا صارخًا؛ إذ استُخدم للتعبير عن مكان المولد والنشأة بشكل أساسي (وطنية - ويكيبيديا)، أي بمعنى الحنين إلى مسقط الرأس. لكن سرعان ما تطور المفهوم ليكتسب أبعادًا سياسية مع تصاعد الكفاح ضد الاستعمار. ارتبط نشوء الشعور الوطني الحديث في العالم العربي إلى حد كبير بتجربة مقاومة الاحتلال الأوروبي في مطلع القرن العشرين (الوطن أم الإنسان لتحقيق الحداثة العربية؟ | الجزيرة نت) (الوطن أم الإنسان لتحقيق الحداثة العربية؟ | الجزيرة نت. ) فالاستعمار – بسلبه الأرض وتهديده للهوية – أوجد حاجة ملحّة للتكاتف تحت راية كيان مشترك يدافع عنه الجميع، وهذا الكيان كان الوطن بمفهومه الحديث (الوطن أم الإنسان لتحقيق الحداثة العربية؟ | الجزيرة نت) وهكذا أصبحت الوطنية سلاحًا ذو حدين: فهي من جهة أداة تعبئة إيجابية ضد المستعمر، لكنها من جهة أخرى وُلدت في ظل صراع مرير، مما جعلها أحيانًا تنزع نحو الانغلاق وتعظيم الذات الجماعية في مواجهة الآخر ( الوطن أم الإنسان لتحقيق الحداثة العربية؟ | الجزيرة نت) (الوطن أم الإنسان لتحقيق الحداثة العربية؟ | الجزيرة نت) وقد أشار بعض مفكري العرب لاحقًا إلى هذه الإشكالية؛ فالمؤرخ عادل لطيفي يلاحظ أن هيمنة خطاب الوطن خلال حقبة التحرر جعلت الإنسان الفرد يبدو وكأنه مجرد وسيلة لخدمة الوطن، مما أحدث اختلالًا بين قيمة الوطن وقيمة الإنسان (الوطن أم الإنسان لتحقيق الحداثة العربية؟ | الجزيرة نت) (الوطن أم الإنسان لتحقيق الحداثة العربية؟ | الجزيرة نت) . إنه تنبيه مبكر إلى ضرورة تحقيق توازن بين الوطن كقيمة عليا والفرد كغاية بحد ذاته.
على صعيد آخر، تناول مفكرون عرب معاصرون مفهوم الوطن بنظرة نقدية تحليلية. من هؤلاء محمد عابد الجابري (ت 2010م) الذي ميّز بين الوطنية بمعناها العاطفي السياسي والمواطنة بمعناها القانوني الحديث. يرى الجابري أننا كثيرًا ما نستخدم لفظ «مواطن» اليوم باعتباره مشتقًا من وطن، في حين أن المفهوم الحديث للمواطنة (citizenship) أوسع وأعمق ( المواطِن والمواطَنة... أمس واليوم! ــــــ د. محمد عابد الجابري - العدل الحرية السلام) . يقول الجابري إن ما نعنيه اليوم بالمواطن والمواطنة «لا علاقة له بـ"الوطن" إطلاقًا» (المواطِن والمواطَنة... أمس واليوم! ــــــ د. محمد عابد الجابري - العدل الحرية السلام) ، مشيرًا إلى أن المواطنة تعني مجموعة الحقوق والواجبات المتبادلة بين الفرد والدولة، وليست مجرد الانتماء إلى أرض. ويشرح أن العرب أخذوا لفظ مواطِن ترجمةً عن اللغات الأوروبية (citoyen) بالفرنسية في العصر الحديث، لكن عامة الناس لا يزالون يربطونه لغويًا بالوطن بالمعنى التقليدي (المواطِن والمواطَنة... أمس واليوم! ــــــ د. محمد عابد الجابري - العدل الحرية السلام). هذا التحليل من الجابري يكشف تطورًا مهمًا في الوعي: فمحبة الوطن وحدها لا تكفي لبناء دولة حديثة؛ لا بد من ترسيخ مفهوم المواطنة حيث يكون كل فرد شريكًا متساويًا في الوطن يتمتع بحقوقه ويمارس واجباته. أما المفكر المصري حسن حنفي (ت 2021م)، فقد تناول إشكالية العلاقة بين الوطن والدين واليسار الإسلامي، مؤكدًا أولوية الوطن كوحدة جامعة. في مشروعه الفكري حول اليسار الإسلامي شدد حنفي على أن تحرير الأرض والوطن يسبق تحرير الفكر، إذ » للوطن الأولوية على الفرد، ولا خصومة في الوطن وإن تعددت رؤى الأفراد» ( حرية الفكر ــــــ د.حسن حنفي - العدل الحرية السلام) . ويرى أن مصلحة الجماعة الوطنية تأتي قبل مصلحة الأفراد، فلا معنى للحرية الفردية في وطن مستعمَر أو ممزق. ورغم أن بعض الليبراليين قد يعترضون بأن حرية الفرد مقدمة لأنها شرط لتحرر الوطن، يظل طرح حنفي تعبيرًا عن نزعة شائعة تعتبر الوطن قيمة مقدسة تعلو على الاختلافات الداخلية (حرية الفكر ــــــ د.حسن حنفي - العدل الحرية السلام) . كذلك قدّم عبد الوهاب المسيري (ت 2008م) مساهمات مهمة في فهم الهوية الوطنية في ظل التحديات الفكرية المعاصرة. عُرف المسيري بنقده الشامل للمادية الغربية وبحثه في منظومات القيم، وقد أشار إلى نمطين من المجتمعات: مجتمع تعاقدي يقوم على العلاقات المصلحية البحتة، ومجتمع تراحمي يقوم على التعاطف الإنساني (عبد الوهاب المسيري - ويكيبيديا). ويمكن إسقاط هذا التمييز على مفهوم الوطن: فالوطن الأمثل عند المسيري هو مجتمع إنساني «تراحمي» تسوده قيم التضامن والتكافل بين أفراده، لا مجرد عقد اجتماعي قانوني جاف. وهو بذلك يدعو إلى وطنية ذات مضمون أخلاقي رحب يتجاوز النظر إلى المواطن كرقم في عقد اجتماعي، ليُنظَر إليه كإنسان ذي كرامة يرتبط بالآخرين بروابط الشعور الإنساني العميق (عبد الوهاب المسيري - ويكيبيديا). هذه المساهمات من الجابري وحنفي والمسيري تمثل تطورًا فكريًا في النظرة إلى الوطن: من مجرد كيان ندافع عنه عسكريًا أو ننتمي إليه عاطفيًا، إلى مشروع مجتمعي يتطلب عقدًا سياسيًا أخلاقيًا يضمن كرامة الإنسان وتنميته.
الأبعاد الأخلاقية والسياسية للوطنية
مفهوم الوطن ذو أوجه متعددة؛ فهو من جهة رابطة عاطفية نبيلة تجمع أفراد المجتمع كعائلة كبيرة، وهو من جهة أخرى مفهوم سياسي حديث يرتبط بالدولة والسلطة. ومن ثم فإن الوطنية – أي حب الوطن – تطرح إشكالات أخلاقية وسياسية متنوعة. من الناحية الأخلاقية، تُعدُّ الوطنية فضيلة عند الكثير من الفلاسفة والمفكرين، فهي تعبير عن الإخلاص والوفاء. حب الإنسان لوطنه يشبه حب الابن لأمه والأرض التي نشأ عليها. وقديمًا اعتبر البعض أن حب الوطن من الإيمان، حتى لو لم يرد هذا القول حرفيًا في كتب الحديث الموثوقة، لكنه انتشر كمبدأ عام يُعلي قيمة الوفاء للوطن. لكن في الوقت ذاته، حذّر فلاسفة ومفكرون عبر التاريخ من تحول الوطنية إلى تعصّب أعمى. أشار الكاتب الإنجليزي صمويل جونسون في القرن الثامن عشر إلى أن «الوطنية هي الملاذ الأخير للأوغاد» في نقده للسياسيين الذين يتذرعون بالوطنية لتحقيق مآربهم (لمصلحة من تبهيت مفاهيم: الوطن، الوطنية، المواطنة؟! - القدس العربي). كذلك انتقد المفكر الهندي الشاعر طاغور النزعة الوطنية الضيقة التي تطغى على القيم الإنسانية الشاملة، فقال عبارته الشهيرة: «لا يمكن للوطنية أن تكون ملاذنا الروحي الأخير؛ إنما الإنسانية هي ملجأي... ولن أسمح للوطنية أن تنتصر على الإنسانية ما حييت» (Quote by Rabindranath Tagore : “Patriotism cannot be our final spiritual shelte...”. ( ما قصده طاغور هو أن الإخلاص للوطن لا ينبغي أن يتحول إلى عبادة عمياء تؤدي إلى ظلم الآخرين أو إنكار إنسانيتهم. من منظور أخلاقي عالمي، الوطن غالٍ وعزيز، لكن العدل والإنسانية ينبغي أن يبقيا أسمى من أي ولاء، حتى ولاء الوطن.
سياسيًا، لعبت الوطنية أدوارًا متباينة التأثير. فهي كانت حافزًا لتحرير الشعوب وبناء الدول الحديثة، لكنها أيضًا استُخدمت أحيانًا أداةً لتبرير هيمنة الدولة على المجتمع أو خوض الحروب التوسعية. في التجربة العربية، كانت الوطنية سيفًا مسلولاً بوجه الاستعمار، ولكن بعد الاستقلال تحولت في بعض الأقطار إلى أيديولوجيا رسمية تبرر للحكام التفرد بالسلطة باسم مصلحة الوطن العليا. فصار أي معارض لنهج السلطة متهمًا بـ"خيانة الوطن"، وكأن الوطن اختُزل في النظام السياسي. هذه الممارسات أفرغت الوطنية من مضمونها الحقيقي في أعين بعض المثقفين، وجعلتهم ينادون بضرورة نقد المفهوم وتنقيته من الشوائب. إن البعد الأخلاقي للوطنية يفرض ألا تتحول إلى شوفينية (عصبية قومية مفرطة) تحتقر الآخرين أو إلى أداة قمع داخلي. فالوطنية الصحيحة تحمل في جوهرها قيمًا عليا مثل التضحية ونكران الذات والتضامن الاجتماعي، ولا تتعارض مع الانفتاح على العالم واحترام الآخرين. وقد رأينا تاريخيًا أن الحضارات التي انغلقت على ذاتها بدعوى حماية الوطن تراجعت وذوت (الوطن أم الإنسان لتحقيق الحداثة العربية؟ | الجزيرة نت) (الوطن أم الإنسان لتحقيق الحداثة العربية؟ | الجزيرة نت)، بينما تلك التي وازنت بين الاعتزاز بالذات الوطنية والتفاعل الخلاق مع العالم ازدهرت وتطورت. لذا، يبرز دائمًا بُعد أخلاقي مهم في النقاش حول الوطنية: كيف نجعل حب الوطن قوة للبناء والخير، لا مطية للشرور والصراعات؟
حب الوطن في التطبيق المعاصر: البناء والمعرفة والتنمية
لقد تغيرت مظاهر التعبير عن حب الوطن في العصر الحديث عما كانت عليه في الماضي. فبعد أن كان الجهاد من أجل الوطن يقتصر على حمل السلاح في ساحات القتال ضد غازٍ أجنبي، اتسعت ميادين الوطنية لتشمل معارك سلمية يومية في ميادين العلم والعمل والبناء. في عالمنا المعاصر، يُعبَّر عن حب الوطن الحقيقي بالإسهام الفعال في نهضته وتنميته المستدامة. لم يعد الوطني الحق هو فقط الذي يستشهد على الجبهة، بل أيضًا الذي يحمل معول البناء والقلم والمحراث وحقيبة المعرفة. فالمعلم في مدرسته، والطبيب في مشفاه، والمهندس في ورشته، والفلاح في حقله، والجندي في ثكنته، والعامل في مصنعه – كلهم يشاركون بطرائق مختلفة في صنع وطن قوي مزدهر. إنها أوجه متعددة لوطنية إيجابية بناءة.
لقد أدركت دول كثيرة قيمة هذه الوطنية البنّاءة وعملت على ترسيخها. فاليابان وألمانيا – على سبيل المثال – بعد دمار الحرب العالمية الثانية، أعادا تعريف حب الوطن بأنه ورشة عمل كبرى: اجتهد مواطنوهما في إعادة الإعمار والنهوض العلمي والصناعي حتى صارت قوة أوطانهم تقاس بعدد براءات الاختراع وجودة المصانع قبل أن تُقاس بعدد الدبابات. وفي التجربة العربية المعاصرة أيضًا نجد نماذج مضيئة؛ فدولة كالإمارات العربية المتحدة رفعت شعار التنمية الشاملة والتسامح، وجعلت من التفاني في تطوير التعليم والاقتصاد والخدمات ميدانًا لترجمة حب الوطن عمليًا. واضحت إنجازات الدولة وسمعتها العالمية مصدرا لفخر، ليس للمواطن فحسب، مما يعزز انتماءه ، بل للعرب اجمعين، بل وحتى المقيمين من جنسيات أخرى غير عربية . هكذا صارت معايير المواطنة الصالحة في زمننا تشمل الإخلاص في العمل، واحترام القانون، والمشاركة في المبادرات الاجتماعية والتطوعية، والحفاظ على موارد الوطن ومكتسباته.
ومن أهم صور حب الوطن المعاصرة كذلك السعي إلى المعرفة والتفوق العلمي. فالعلم قوة الأمم في عصرنا، والعالم أو الباحث الذي يرفع راية بلاده في المحافل الدولية باكتشاف أو ابتكار جديد إنما يؤدي واجبًا وطنيًا لا يقل أهمية عن واجب الجندي على الثغر. من هنا باتت الجوائز العلمية والرياضية والأدبية التي يحققها أبناء أي وطن، موضع احتفاء وفخر قومي. إنها انتصارات في ميدان ناعم لكنها تعزز مكانة الوطن ورفعة شأنه. ولا ننسى أيضًا المثقف الحر الذي يمارس النقد البنّاء؛ فهذا أيضًا يحب وطنه بطريقته، إذ لولا حبه لما آلمه قصور مجتمعه وسعى إلى إصلاحه. إن النقد المسؤول ضرب من ضروب الوطنية الصادقة، لأنه يروم تصحيح الأخطاء وتقويم الاعوجاج حفاظًا على مصلحة الوطن ورفعًا لرايته بين الأمم. ولذلك قيل بحق: قد يكون صديقك من صدَقك لا من صدّقك، وبالقياس عليه يكون الوطني الحق من يصدق وطنه القول ولو كان مرًّا، لا من يجامله بالباطل. إن نقد الفساد والاستبداد والدعوة للإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي هي في جوهرها أعمال وطنية نبيلة، لأنها تسعى لجعل الوطن أجمل وأفضل لأبنائه. وهذه رسالة يكررها المفكرون التنويريّون في عالمنا العربي اليوم: الوطنية ليست هتافًا وشعارات جوفاء، بل عمل واجتهاد ونزاهة ومساءلة مستمرة بهدف تحقيق الصالح العام.
مستقبل مفهوم الوطن في ظل العولمة والتحديات الرقمية
لقد دخل مفهوم الوطن طورًا جديدًا في العصر الراهن تحت تأثير قوى العولمة وثورة الاتصالات الرقمية. فالعولمة الاقتصادية والثقافية جعلت العالم قرية كونية صغيرة، تتداخل فيها الهويات الوطنية مع انتماءات أوسع عابرة للحدود. والشبكات الرقمية (من إنترنت وفضاءات تواصل اجتماعي) خلقت مجتمعات افتراضية يتشارك أفرادها الاهتمامات والأفكار بغض النظر عن جنسياتهم وجغرافيتهم. هذا الواقع المستجد يطرح سؤالًا مهمًا: كيف سيكون شكل الوطنية في المستقبل؟ وهل سيبقى للوطن بمعناه التقليدي نفس المكانة في ضمير الإنسان، أم سيتراجع أمام ولاءات أرحب أو ربما ولاءات أكثر انقساما؟
من جهة، هناك من يرى أن العولمة تضعف الشعور الوطني، إذ يصبح الولاء للاستهلاك والثقافة العالمية الموحّدة أكبر من الولاء للخصوصية المحلية. فكثير من الشباب اليوم يرتدون نفس الملابس ويشاهدون نفس الأفلام ويستخدمون نفس التطبيقات أينما كانوا، ويشعرون بأن انتماءهم لجيل عالمي واحد يتجاوز انتماءهم لقومياتهم. أضف إلى ذلك ازدياد الهجرات والاغتراب، ما خلق هويات هجينة متعددة الأوطان. فأبناء الشتات والمهاجرون مثلاً قد يشعر الواحد منهم بأنه ينتمي إلى وطنين أو أكثر في آن واحد – وطن المولد ووطن الإقامة – أو ربما إلى «وطن إلكتروني» هو جماعة رقمية يشترك معها في الاهتمام. هذه الظواهر قد توحي بأن مفهوم الوطن التقليدي آخذ في التفكك.
غير أن الواقع أكثر تعقيدًا. فالعولمة – paradoxically – أثارت أيضًا ردود فعل قومية قوية في كثير من المناطق، كرد فعل دفاعي عن الهوية المميزة. شهدنا في العقود الأخيرة صعود حركات شعبوية تؤكد التشبث بالوطن والهوية القومية في مواجهة ما تراه تذويبًا عولميًا للشخصية المحلية. وكأن العالم كلما اتحد افتراضيًا، ازداد الناس شعورًا بضرورة التأكيد على فرادتهم الوطنية. وربما يكون المستقبل مزيجًا من الحالتين: ازدياد التعاون الكوني مع استمرار الخصوصيات الوطنية. لقد صار واضحًا أن التحديات الكبرى – مثل التغير المناخي والأوبئة والإرهاب السيبراني – لا تعترف بالحدود، مما يلزم الدول بالتكاتف على أساس المصلحة الإنسانية المشتركة. وهذا يدفع نحو بزوغ وعي جديد يمكن أن نسميه «الوطنية الكوكبية» أو العولمة ذات الوجه الإنساني: حيث يشعر الإنسان أنه مواطن في وطنه الصغير ومواطن في العالم في آنٍ واحد. أي أن ولاءه لوطنه لا يتعارض مع ولائه للأسرة البشرية الكبرى، بل على العكس يتكامل معه. وكما قال أحد المفكرين المعاصرين: الوطنية الحقة في عصر العولمة هي أن نخدم وطننا المحلي برؤية عالمية. فمثلاً، حماية البيئة في بلدك هي جزء من حماية بيئة الكوكب، وإصلاح التعليم في وطنك يساهم في تقدم الإنسانية جمعاء، لأن الأمم تتفاعل وتتبادل الخبرات.
كذلك تواجه الوطنية تحديًا من نوع جديد هو الفضاء السيبراني. فالشباب الناشطون على الإنترنت قد يجدون مجتمعًا موازيًا لهم على الشبكة يشعرون نحوه بالانتماء الشديد، ربما أقوى من شعورهم بالانتماء لحيّهم أو قريتهم الواقعية. لقد نشأت هويات رقمية عابرة للأوطان، وأحيانًا تتحول النزاعات الافتراضية بينها إلى توترات فعلية. كما أن الحروب السيبرانية باتت ساحة جديدة للصراع بين الدول، فيصبح المناصر الإلكتروني شكلًا جديدًا من الوطنيين الذين يدافعون عن صورة وطنهم عبر الفضاء الرقمي. هذا التطور يجعل مفهوم الوطن أكثر سيولة وتمدّدًا. فالوطن اليوم ليس فقط الأرض والتراب؛ إنه أيضًا صورة افتراضية وسمعة إلكترونية يجب الدفاع عنها في عصر المعلومات.
رغم كل هذه المتغيرات، يبقى الوطن بمعناه الأساسي حاجة نفسية عميقة للإنسان. سيظل البشر – على الأرجح – يشعرون بحنين جارف إلى الأماكن التي نشأوا فيها وإلى مجتمعاتهم الأولى، مهما أصبح العالم افتراضيًا ومترابطًا. وربما سيتخذ هذا الحنين أشكالًا جديدة؛ فقد يحنّ المرء إلى وطن طفولته حتى لو غيّر جنسيته، أو إلى وطن افتراضي كوطن الطفولة الرقمية (مجتمع لعب أو منصة تواصل اعتادها). إن مفهوم الوطن يتسع ويتطور دون أن ينسلخ عن جوهره العاطفي. ففي مستقبل تسوده العولمة، قد نجد الإنسان يحمل طبقات متعددة من الهوية: فهو ابن بلدة معيّنة، ومواطن دولة قومية، وعضو في اتحاد إقليمي (كأوروبي مثلًا)، بل وحتى كشخص منتمي الى قومية معينة لا تجمعها دولة واحدة كعربي من العراق او من مصر او سوريا او الجزيرة العربية ، وفي الوقت نفسه مواطن عالمي ينتمي إلى القرية الكونية وإلى القيم الإنسانية الشاملة. والتحدي أمام البشرية سيكون تحقيق التوازن بين هذه الدوائر الهوياتية المتداخلة، بحيث لا تطغى إحداها (كالوطنية مثلًا) فتلغي الأخرى (كالإنسانية)، بل تتناغم جميعها في تشكيل شخصية الإنسان الحديث.
خاتمة وتأملات مفتوحة
إن التأمل في الماضي والحاضر يبيّن أن مفهوم الوطن لم يكفّ عن إعادة اختراع نفسه عبر العصور. من حنين الشاعر القديم لأطلال قبيلته، إلى ولاء المواطن الحديث لدولته الوطنية، إلى تطلعات إنسان القرن الواحد والعشرين للموازنة بين انتماءاته المحلية والعالمية – يبقى الوطن قيمة أساسية وإن اختلفت تجلياتها. ولعلّ المستقبل يحمل لنا أوطانًا من نوع جديد: أوطانًا أكثر انفتاحًا وتسامحًا، تعترف بتعدد الولاءات في قلب الإنسان دون ريبة. قد يصبح الوطن فكرة أكثر روحانية تتجاوز الجغرافيا الضيقة، فيشعر الفرد أن الأرض كلها وطن للإنسانية وأن حبه لوطنه الخاص جزء من حبه لعالم أوسع. وليس هذا طرحًا مثاليًا بقدر ما هو امتداد طبيعي لمسار التاريخ البشري نحو مزيد من الترابط.
لكن في المقابل، سيظلّ الوطن بمعناه الملموس – الأرض والشعب والتاريخ المشترك – مكوّنًا جوهريًا لهوية الإنسان. وربما تكمن الحكمة في المستقبل في ما أشار إليه الشاعر الفيلسوف محمد إقبال حين قال ما معناه: الوطنية يمكن أن تكون فضيلة كبرى إذا بقيت في حدودها، لكنها قد تصبح رذيلة إن تحولت إلى صنمية تعبد الذات وتنكر الآخر. فالاعتدال والاتزان هما مفتاح الحفاظ على قيمة الوطن كقوة خير. قد نجد بعد عقود أن الأجيال الجديدة طوّرت مفهومًا أرقى للوطنية، مزيجًا من حب للفرد لأرضه وثقافته، ومسؤولية أخلاقية تجاه البشرية جمعاء. وحينها سيكون مستقبل الوطن أكثر إشراقًا وإنسانية.
في الختام، يبقى الوطن ذلك الحضن الدافئ الذي يغرس فينا أولى القيم والمعاني. حبه مغروس في القلوب بالفطرة، لكنه يزدهر بالرعاية والوعي. فإذا نحن أحببنا أوطاننا بمحبة العاقل لا بعصبية الجاهل – أحببناها بالبناء والعمل والعلم، لا بالهدم والتعصب – عندئذ سنحقق المعادلة الصعبة: وطنية تزدهر في ظل إنسانية أرحب. وكما قال Rabindranath Tagore) ( قبل أكثر من قرن: «سأرفض أي وطنية تعادي الإنسانية» (Quote by Rabindranath Tagore : “Patriotism cannot be our final spiritual shelte...”. ) فهذا القول على وجازته يفتح أمامنا أفقًا رحبًا: وطنية مستقبلية تجعل الإنسان في قلبها، وتعتبر خدمته وتنميته غاية الغايات. تلك هي الوطنية التي نأمل أن تسود في عالمنا، حتى يغدو الوطن رسالة حب وعطاء لا ساحة اقتتال وصراع، ويصبح مصدر إلهام أخلاقي يربطنا بأجمل ما في ذواتنا وما في الآخر من قواسم مشتركة. عندها فقط سنكون قد واءمنا بين حب الوطن وقيم الحق والخير والجمال التي تخص بني الإنسان كافة. (Quote by Rabindranath Tagore) : “Patriotism cannot be our final spiritual shelte...”) المواطِن والمواطَنة... أمس واليوم! ــــــ د. محمد عابد الجابري - العدل الحرية السلام(
المصادر العربية والشرقية:
ابن منظور. (2003). لسان العرب. دار المعارف، القاهرة.
الفارابي. (1991). آراء أهل المدينة الفاضلة. تحقيق وتعليق: ألبير نصري نادر. دار المشرق، بيروت.
الجاحظ. (1988). رسالة الحنين إلى الأوطان. تحقيق حسن السندوبي. مكتبة النهضة المصرية، القاهرة.
ابن خلدون. (2005). المقدمة. دار الفكر، بيروت.
الجابري، محمد عابد. (1992). نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي. المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء.
حنفي، حسن. (2000). اليسار الإسلامي. دار الفكر العربي، القاهرة.
المسيري، عبد الوهاب. (2002). العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة. دار الشروق، القاهرة.
لطيفي، عادل. (2016). الوطنية في العالم العربي الحديث. دار الطليعة، بيروت.
المصادر الفلسفية والتاريخية الغربية:
Aristotle. (1996). The Politics. Translated by Carnes Lord. University of Chicago Press.
Plato. (2008). The Republic. Translated by Desmond Lee. Penguin Classics.
Benedict Anderson. (2006). Imagined Communities: Reflections on the Origin and Spread of Nationalism. Verso Books.
Samuel Johnson. (1775). The Patriot. Oxford University Press.
Ernest Renan. (1882). Qu'est-ce qu'une nation? Presses Universitaires de France.
Rabindranath Tagore. (1917). Nationalism. Macmillan.
المصادر المعاصرة حول العولمة والوطنية الحديثة:
Castells, Manuel. (2010). The Rise of the Network Society. Wiley-Blackwell.
Gellner, Ernest. (1983). Nations and Nationalism. Cornell University Press.
Hobsbawm, Eric. (1990). Nations and Nationalism since 1780: Programme, Myth, Reality. Cambridge University Press.
Held, David. (1995). Democracy and the Global Order: From the Modern State to Cosmopolitan Governance. Stanford University Press.
Appadurai, Arjun. (1996). Modernity at Large: Cultural Dimensions of Globalization. University of Minnesota Press.
1109 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع