"تعطيل السلطة التشريعية بين الغياب النيابي والمساءلة القانونية" قراءة في آفاق التقاضي المدني ضد النواب المتغيبين

أ.م.د. أنور أبوبكر كريم الجاف
كلية القانون – جامعة السليمانية
إقليم كردستان – العراق

"تعطيل السلطة التشريعية بين الغياب النيابي والمساءلة القانونية" قراءة في آفاق التقاضي المدني ضد النواب المتغيبين

اقتضى البيان في هذا المقال التمييز الدقيق بين مصطلحات طالما استُعملت بتساهل في الخطاب القانوني والإعلامي وهي: الفرق بين (الغياب والتغيب) وبين (الغائب والمتغيّب) لما لهذا التمييز من أثر بالغ في ضبط الوصف القانوني لسلوك أعضاء مجلس النواب عند عدم حضورهم أو غيابهم عن جلسات المجلس وما يترتب عليه من مسؤولية قانونية ومدنية.
فالغياب في أصله اللغوي هو:عدم الحضور والاحتجاب، سواء أكان بعذر أم بغير عذر، وسواء بإرادة أو بغير إرادة . يقالُ: "غابَ الشخصُ يغيب غيبًا وغيابًا، إذا توارى عن العيون ولم يظهرْ ، فهو غائب"(1).
أما التغيّبُ فهو طلب الغياب عمدًا، إذْ هو من باب تفعّل الدال على التكلف، ويقالُ :"تغيَّب الرجلُ تغيبًا: طلبَ أن يكون غائبًا، بمعنى تعمّد ترك الحضور وغاب ، فالغيبُ: كلُّ ماغاب عنك، وجمعه غيبوب "(2) .
ولهذا جاء وصف المتغيّب بمعنى من تعمد الغياب وسعى إليه، سواء أكان بعذر أم بغير عذر، كما أشار إليه أهل اللغة فقولهم "تغيَّب عن الشيء تغيبًا، أي تعمد غيبته، وهو من باب التفعّل والتصنُّع الدال على تكلف الطلب أيضاً كما ذكرنا، وذكر الزبيدي : أنَّ الناس يقولون: غاب َفلانٌ دهراً ثم هبَّ " (3) أى قدم وحضر، وقد ينطبق ذلك على منْ هكذا فعلتهُ.
وعليه فإنّ إطلاق وصف المتغيب على النائب الذي يتعمد ترك الحضور دون عذر مشروع هو الأدق لغويًا وقانونيًا، أما وصف الغائب فهو عام لا يحمل بالضرورة دلالة التعمد أو الإرادة وهو ما يفتقر إليه السياق التشريعي المتعلق بمساءلة النواب المقصرين في أداء واجباتهم .
وإذا ثبت ذلك فنقول : لقد أرسى دستور جمهورية العراق لسنة 2005 مبدأ الفصل بين السلطات مانحًا السلطة التشريعية دورًا محوريًا في تمثيل الشعب وسنّ القوانين وممارسة الرقابة على أداء الحكومة، وذلك بموجب المادة (47) التي نصت صراحة على أن السلطات الاتحادية تمارس اختصاصاتها على أساس مبدأ الفصل بين السلطات(4) .
ويُعد مجلس النواب بموجب المادة (48) السلطة التشريعية الاتحادية العليا، ويتكون من ممثلي الشعب العراقي، تناط به مهمة تشريع القوانين والرقابة على السلطة التنفيذية(5).
لكن يعجز هذا المجلس بحسب الوقائع المتكررة عن عقد جلساته الدورية بسبب ظاهرة تغيّب أعضائه، الأمر الذي يمثل إخلالا بمسؤوليات النائب وواجباته الدستورية، فوفقًا للمادة (49/سادسًا) من الدستور فإن النائب يلتزم بأداء واجباته بأمانة وإخلاص، وأن يكون صوته في المجلس انعكاسًا لإرادة الشعب دون أن يتقلد أي منصب رسمي أو أي عمل آخر(6). وتغيبُّ النواب بلا عذر مشروع وبما يؤدي إلى تعطيل الجلسات يُعد إخلالا بيّنًا بعمله وبواجب تمثيل الشعب، بل يهدد بتقويض النظام البرلماني القائم .
فقد نظّم النظام الداخلي لمجلس النواب العراقي الصادر استنادًا إلى المادة (51) من الدستور بموجب المادة (18) منه، التزام الأعضاء بالحضور إلى الجلسات العامة واجتماعات اللجان، لذا نصَّ على نشر الحضور والغياب في نشرة المجلس الإعتيادية مع إمكانية توجيه تنبيه خطي للعضو المتغيب عند تكرر الغياب خمس مرات متتالية أو عشر مرات غير متتالية خلال الدورة السنوية دون عذر مشروع، ثم إحالة الموضوع إلى المجلس عند عدم الامتثال(7)، كما نصت ذات المادة على استقطاع نسبة من مكافأة عضو مجلس النواب في حالة غيابه، يحددها المجلسُ .
أما موضوع إقالة أو استبدال أعضاء مجلس النواب فقد نص عليه الدستور في المادة (49/خامسًا) التي أوجبت على مجلس النواب سن قانون يعالج حالات استبدال أعضائه عند الاستقالة أو الإقالة أو الوفاة دون أن يبين الدستور تفاصيل آليات الإقالة أو شروطها كما أورد الدستور في المادة (138/ج) حكمًا صريحًا بشأن إقالة أعضاء مجلس الرئاسة من مجلس النواب بأغلبية ثلاثة أرباع عدد أعضائه ، وذلك بسبب عدم الكفاءة أو النزاهة مما يبرز وجود مبدأ الإقالة في النظام الدستوري العراقي مع الحاجة إلى تشريع خاص لتطبيق هذا المبدأ على أعضاء مجلس النواب(8).
ومع تعطل عقد الجلسات البرلمانية بسبب هذا التغيب المتكرر يتعرض المواطن العراقي إلى ضرر مزدوج:
أولا: بغياب التشريعات الحيوية التي تمس حياته اليومية .
ثانيًا: بشلل السلطة الرقابية التي يفترض أن تتابع أداء الحكومة وتحاسبها .
وبناءً على ذلك يفرضُ هذا السؤالُ الجوهري نفسَهُ : هل يملك المواطن الذي تضرر من هذا السلوك النيابي الحق في إقامة دعوى قضائية لمطالبة النواب المتغيبين بالتعويض عن الأضرار التي لحقت به !؟.
إن المادة (22/ثانيًا) من الدستور العراقي قد أكدت بأنَّ العمل حق لكل العراقيين وأنَّ الدولة تكفل لهم شروطه العادلة، وأَنَّ تعطيل تشريع القوانين التي تنظم الحقوق العمالية والمعيشية هو تقصير مباشر في تحقيق هذا الالتزام، كما أنَّ المادة (30/أولا) توجب على الدولة ضمان الحياة الكريمة للمواطنين، وبما أن البرلمان هو الأداة التشريعية لتحقيق ذلك فإن تقصير النواب في أداء مهامهم بسبب التغيب أو غياب غير المبرر يُعد مخالفة توجب المساءلة.
وفي هذا الصدد تقوم نظرية المسؤولية التقصيرية المدنية المنصوص عليها في المادة (204) من القانون المدني العراقي رقم (40) لسنة 1951 المعدل على ضرورة وجود خطأ وضرر وعلاقة سببية، فإذا تحقق هذه العناصر الثلاثة أصبحت للمتضرر الحق بالمطالبة بالتعويض(9).
فالغياب المستمر وغير المشروع لأعضاء مجلس النواب عن جلساته، مع علمهم اليقيني بما يترتب على ذلك من شلل تشريعي وتأثير مباشر على حياة الناس يعد خطأ جسيمًا، والضرر المترتب سواء في تعطيل قوانين الرعاية الاجتماعية أو حقوق العمل أو الخدمات العامة، هو ضرر مؤكد مما يفتح المجال لقيام المسؤولية المدنية .
ويذهب الفقه القانوني الحديث إلى أن الحصانة البرلمانية التي نصت عليها المادة (63/ثانيًا-أ) من الدستور تقتصر على الأعمال المرتبطة بإبداء الرأي أو التصويت داخل البرلمان، ولا تشمل السلوكات التي تُعد إخلالا بالواجب الدستوري للنائب بما فيها التغيبُ المتعمد عن أداء الوظائف التشريعية(10).
ولذلك فإن دعوة الجهات القانونية للمواطنين المتضررين إلى اللجوء للقضاء لرفع دعاوى ضد النواب المتغيبين تجد أساسها الدستوري والقانوني في نصوص واضحة تعزز من مبدأ سيادة القانون وخضوع الجميع لأحكامه كما نصت المادة (14) من الدستور: "العراقيون متساوون أمام القانون...".
فإن اللجوء إلى القضاء سواء أمام المحاكم المدنية المختصة بالنظر في دعاوى التعويض، أو المحكمة الاتحادية العليا بوصفها الضامنة لحماية الدستور وفقًا للمادة (93) منه خيار دستوري مشروعٌ يعيد التوازن للمسار الديمقراطي، ويكرّس مبدأ المحاسبة، ويمنع تكرار ظاهرة الإفلات من المسؤولية واللاّمبالاة التي أضرت بثقة الشعب بمؤسساته التشريعية(11).
وأخيرًا: يقتضي الواجب الوطني والتشريعي أن يتم تفعيل كافة النصوص الدستورية والقانونية التي تفرض المحاسبة والمساءلة على الأعضاء المتغيبين، لأن تعطيل السلطة التشريعية يُعد خرقًا لحق الشعب في التمثيل النيابي الفاعل. ويجب أن يكون القضاء صمام أمان هذا الحق، عبر فتح الأبواب أمام الدعاوى المدنية ضد النواب المتغيبين، ضمانًا لاستقرار النظام الدستوري القائم، وصونًا للحقوق العامة التي لا يجوز التهاون بها.
الهوامش:
(1) ينظر لابن منظور: لسان العرب، مادة "غاب" .
(2) ينظر للفيومي: المصباح المنير، مادة "غيب" .
(3) ينظر للزبيدي: تاج العروس، مادة "غاب، وغيب" أيضاً.
(4) ينظر: لدستور جمهورية العراق لسنة 2005، المادة (47).
(5) ينظر : دستور جمهورية العراق لسنة 2005، المادة (48).
(6) ينظر : دستور جمهورية العراق لسنة 2005، المادة (49/سادسًا).
(7) يراجع : النظام الداخلي لمجلس النواب العراقي لسنة 2006، المادة (18).
(8) يراجع : دستور جمهورية العراق لسنة 2005، المادة (49/خامساً) والمادة ( 138/ ج ).
(9)ينظر : القانون المدني العراقي رقم 40 لسنة 1951 المعدل، المادة (204).
(10) ينظر : دستور جمهورية العراق لسنة 2005، المادة (63/ثانيًا-أ).
(11) ينظر : دستور جمهورية العراق لسنة 2005، المادة (93).

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

851 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع