منارة الحدباء وقصتها - الجزء الثاني

 الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط

أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل

منارة الحدباء وقصتها - الجزء الثاني

شُيدت منارة الحدباء في عهد نور الدين محمود زنكي، لتكون جزءا من عمارة الجامع النوري الكبير الذي تم افتتاحه في الموصل سنة 568هـ (1172م). لقد طرأت بعد ذلك العديد من أعمال الترميم والإصلاح على الجامع النوري، إذ عُمّر القسم الأيمن من المصلى في عهد الحاكم حسن الطويل بين عامي 1467 – 1477م، كما جدده العثمانيون في القرن التاسع عشر وأجريت به بعض أعمال الإصلاح والترميم في عام 1940م.

وفي العام 1940م نُقل محراب الجامع النوري الأصلي إلى متحف بغداد الوطني، وهو تحفة فنية نادرة من الرخام الذي زُخرف عن طريق الحفر برسوم نباتية من طراز الأرابيسك.

تعد مئذنة الجامع النوري الكبير من أهم وأجمل وحدات الجامع النوري المعمارية، واشتهرت هذه المنارة باسم (الحدباء) لوجود ميل طفيف بها حتى طغى اسمها على المدينة. ويبلغ ارتفاع الحدباء حوالي ٥٥ مترا وهي مشيدة بالطوب الأحمر (الآجر)، على هيئة بدن أسطواني يستدق في رشاقة وجمال كلما صعدنا إلى أعلى.

لقد سقط الجزء العلوي من المئذنة وأعيد تشييده بالحجر وليس بالآجر والجص كما في باقي البدن، وهو ما ينبئ عن متانة أساسات هذه المئذنة الحدباء.

تمتاز منارة الحدباء بزخارفها الهندسية الناجمة عن تباين أوضاع قوالب الطوب الأحمر، ويمكن الصعود إلى الحدباء التي تقع في الركن الشمالي الشرقي من الجامع النوري، عن طريق سلَّمين حلزونيين يدوران داخل البدن، دون أن يرى الصاعد في أي منهما الآخر، ولا يلتقيان إلا في شرفة المؤذن الدائرية الشكل، وهي حيلة معمارية تنبئ عن عبقرية مهندس المئذنة. ويوجد بشرفة الأذان عدد من الشبابيك المعقودة التي ينفذ من خلالها الضوء لإنارة درجات السلم الصاعدة حتى الشرفة.

لقد اتخذت زخارف الآجر في هذه المئذنة هيئات هندسية رائعة وأهمها وأكثرها شيوعا هيئة المعينات التي تحوي داخلها معينات أصغر حجما. وتعكس هذه المئذنة ببدنها الأسطواني، الطابع التقليدي لعمارة العراق وبلاد فارس من بعد تشييد مدينة سامراء، والتي تعتمد على استخدام تقنيات البناء بالطوب الأحمر (الآجر).

تباينت الآراء التي حاول المعماريون من خلالها تفسير الميل الموجود بالحدباء، ويُعتقد أن ميل المئذنة باتجاه الشرق تم تحت تأثير الرياح الغربية التي تهب باستمرار على مدينة الموصل، ونظرا لخفة وزن الآجر فإن بدنها الرشيق لم يتحمل هبوب هذه الرياح وصارت المئذنة مائلة نحو الشرق ومن أجل ذلك عرفت بالحدباء.

لقد ازدهرت الموصل خلال العصر الأموي، ولكن ازدهار الموصل أصيب بانتكاسة كبرى في بداية العصر العباسي، إذ تمردت القبائل العربية النازلة بها والموالية للأمويين على الحكم العباسي الناشئ، فحاصرها يحيى بن محمد العباسي ونادي من أعلى منارة الجامع الأموي بأن من دخل المسجد كان آمنا، ثم ذبح أكثر من عشرين ألفا ممن لجأوا إلى الجامع الأموي وتم هدم أسور الموصل!!

لقد أثرت هذه الحادثة المروعة على عمارة الموصل خاصة مع تهدم أسوارها الأموية الحصينة. ولكن الموصل عادت للنمو والازدهار بعد وقت قليل، حتى كان عهد هارون الرشيد الذي قام بهدم أسوارها مجددا للقضاء على تمرد القبائل العربية النازلة بها.

ثم دخلت الموصل في حوزة الدولة الحمدانية التي عنيت بأسواقها وخاناتها وحماماتها الحجرية، وأسست فيها أول دار علم في الإسلام على يد جعفر بن محمد بن حمدان. ورغم تعثر عمران الموصل خلال النزاعات التي عمتها في عهود بني عقيل والسلاجقة، فقد استعادت ازدهارها العمراني حين اتخذها الأتابكة عاصمة لدولتهم، إذ سعوا إلى تعميرها حتى تقدمت على أيديهم لتلحق بأمهات المدن في العالم الإسلامي، وزودها أمراء الأتابكة بشتى أنواع العمائر كالمساجد والمدارس والمستشفيات وأغلب هذه العمائر تعرض للاندثار بسبب الحروب بين الصفويين والأتراك العثمانيين خلال سنوات القرن العاشر الهجري.

لقد بقيت المنارة الحدباء مائلةً وشاخصة للعِيان، دون أن تسقط، رغمَ مرور قرابة سبعة قرون على تَشييدها. وقد تحدث المؤرخ أزهر العبيدي عن قصة حقيقية لبنّاء ومعماري مسيحي، قام بترميم فجوة كبيرة في منارة الجامع الكبير في الموصل في بداية أربعينات القرن الماضي.

 

قصة ترميم منارة الحدباء:
في القرن الماضي تهدّمت أجزاء من منارة الجامع النوري الكبير، فجمعت الحكومة العراقية أمهر بنّائي المدينة وعرضت عليهم ضرورة ترميمها لمن يستطيع لقاء أي مبلغ يطلبه مهما كَبُر، وقد اعتذر الجميع لصعوبة وخطورة العمل على منارة (مئذنة) يبلغ ارتفاعها قرابة الخمسين متراً، وأجمعوا على أن الوحيد الذي ربما بإمكانه أن يقوم بذلك العمل هو البنّاء الشهير (عبودي الطنبورجي) والذي لم يكن حاضرا الاجتماع.

وعبودي الطنبورجي (1888-1970) من طائفة السريان الأرثوذكس وكان عضوا للمجلس المحلي للطائفة لسنوات عدة، وقد اُنتخب لعضوية مجلس النواب في بغداد، وكان ممثلا للعاملين في مهنة البناء في نقابة العمال، كما كان له حضور في كافة المناسبات في المجالس والدواوين لوجهاء الموصل خلال شهر رمضان المبارك والمناسبات الأخرى ويتبادلون الزيارات فيما بينهم.

استدعت الحكومة المحلية الطنبورجي وكلّفته بمهمة ترميم فجوة في بدن منارة الحدباء، وبعد دراسة دقيقة لموقع العمل وحالة الرياح واتجاه الشمس والحالة الجوية وارتفاع الفجوة، بدأ الطنبورجي مع الفريق المكلَّف في إعداد المستلزمات والمعدات المطلوبة للعملية.

وفي اليوم الموعود من سنة 1939 حضر المتصرف (المحافظ) مع موظفين من الآثار من بغداد ومن الأوقاف، وامتلأت أسطح المنازل المحيطة وحديقة الجامع النوري بالمشاهدين من النساء والرجال والأطفال. وتم تصعيد معدات البناء ثم ركب عبّودي الطنبورجي في صندوق خشبي مع مواد البناء وهو غير خائف وتم تصعيده بالحبال.

وفجأة توقف الطنبورجي عن العمل وملامح الخوف تبدو على وجهه، وإذا به يُدخل المذراة (أداة زراعية ذات مقبض طويل وشوكات طويلة ورقيقة ومدببة ومتباعدة تُستخدم لرفع وقذف "التبن" في الحصاد) داخل الفجوة بقوة وسرعة ويخرجها فإذا هي حيّة كبيرة، فطعنها وأسقطها إلى الأسفل في حديقة الجامع حيث قتلها المتفرجون. وكان عبّودي قد جلب المذراة من بنات أفكاره حيث توقّع وجود مثل هذا الأفعى الذي يعيش على أكل الطيور التي تنام ليلاً في شقوق المنارة. وتصاعدت هلاهيل النساء من أسفل المنارة وصياح الجمهور مستحسنين العمل.

واستمر العمل لحين إكمال ترميم الفجوة والنقوش كما كانت وبكفاءة عالية، وقد رفض عبّودي سحب الصندوق قبل أن يأكل لفّة الكباب التي كان قد أعدّها في عبّه (فتحة في الصدر) ليثبت للناس عدم خوفه وتحدّيه للأخطار والصعاب، واستمرّت النساء تزغرد والأطفال تهزج وتصفّق!

وانتهت عملية الترميم ورفض عبّودي الطنبورجي أن يستلم أي مبلغ ثمناً لعمله قائلاً: (أنا آخذ أجوري من صاحب البيت)، لكون المنارة صاحبها الله سبحانه تعالى، كما أعطى للعمال أجوراً مضاعفة من جيبه الخاص!

لقد تعرضت منارة الحدباء وجامع النوري للتدمير بعد تفجيرها في 21 حزيران 2017. وفي 24 نيسان 2018، وقّع كل من دولة الإمارات العربية المتحدة واليونسكو والعراق اتفاقا تُقدم بموجبه الإمارات مبلغ 50.4 مليون دولار للمساهمة في إعادة إعمار التراث الثقافي في الموصل.

لقد قادت منظمة اليونسكو مشروع إعادة البناء بالشراكة مع هيئة الآثار والتراث العراقية، وبتمويل من الإمارات، ضمن خطة لإعادة إحياء معالم الموصل التاريخية. وقد قررت اليونسكو الابقاء على القاعدة الاصلية للمنارة وتقوية اسسها وحقنها ومن ثم بناء هيكل المنارة عليها بطبقاتها السبع.

لقد أكدت أودري أزولاي، المديرة العامة لليونسكو، خلال احتفال أقيم في 5 فبراير الجاري، أن المشروع يمثّل عودة التاريخ والهوية للموصل، مشيرة إلى جمع 115 مليون دولار من 15 جهة مانحة، أبرزها الإمارات والاتحاد الأوروبي لتحقيق هذا الهدف السامي.

وكل رمضان وأنتم بخير.

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1462 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع