بقلم احمد فخري
قصة (منتهى القسوة) - الجزء الاول
<الساعة 10 صباحاً منطقة كوينزواي لندن>
جلس نجيب بمقهى (ڤيڤالدي) الذي اعتاد ارتياده كل يوم وراح يترشف قهوته المفضلة انتظاراً لقدوم صديقه المقرب فريد. ظل جالساً يتفحص جميع رواد المقهى من الزبائن رأى امرأة شقراء جميلة في عقدها الرابع تجلس على طاولة الى جانبه مع طفلتين بسن 3 او 4 سنوات. تطلع اليها جيداً ثم صار كعادته يحوك حولها قصة من صميم مخيلته الخصبة ليترائى له كيف ان تلك المرأة قامت باختطاف الطفلتين من الروضة وجائت بهما الى المقهى لتشتري لهما المثلجات حتى تكسب ودهما. بعدها ستأخذهما الى مكان بعيد وتحبسهما بداخل غرفة باردة مظلمة ثم تتصل بذويهما كي تطلب الفدية مليون جنيه لا بل مليوني جنيه استرليني. على الطاولة المجاورة لها جلس رجل مسن طويل القامة ابيض البشرة كبياض الثلج احترق رأسه شيباً وتراكمت على وجهه التجاعيد. تلك التجاعيد تكابد من عدم قدرتها على مقاومة الجاذبية الارضية. وكأن القبر يستدعيه الى الاسفل. كان ذلك الرجل يحمل الملامح اليونانية او التركية او حتى العربية. قدّر صاحبنا عمره باواخر الثمانينات. كان يتناول قطعة من الكيك المغطى بالفراولة ويتلفت يمين يسار وكأنه يقترف ذنباً ما بعده ذنب. هذا يدل طبعاً ومن دون شك انه مصاب بمرض السكر. واليوم قرر ان يطلق العنان لخطاياه كي تنال منه بعد ان خرت مقاومته ليستمتع بالوجبة المحرمة ذات المذاق الحلو دون مراعاة لصحته. فهو ببساطة ما عاد يملك الصبر على الممنوعات وليكن ما يكون.
تخدم بذلك المقهى نادلة شابة في سن العشرين او الواحد والعشرين، تغطي وجهها سمرة برونزيةً جميلة وبشرة ناعمة يشع منها الشباب والرشاقة والنظارة والجمال. آه يا شباب آه، اين انتَ واين غدوتَ يا صاحبي؟ كيف تركتني بوحل الشيخوخة ورحلت بهذه السرعة العجيبة؟ بالامس فقط كنتُ في العشرينات من العمر استمتع بشبابي واقطف من ثمار الحياة كل ما ارمو اليه من سعادة وحيوية وطاقة. فلماذا اثقلتني بالشيخوخة المقيتة؟ لماذا انا الآن في عقدي الثامن؟ اين ذهبت تلك السنين بسرعة الضوء؟ ايعقل انني شبيهٌ لهذا الرجل الذي يجلس امامي الآن؟ انه لأمر لا يصدق! انا لا اشعر بالشيخوخة وهي تثقلني وتحد من حركتي. مع العلم اني لا أزال احس بالشباب يغمر روحي. فبالامس فقط كنت بمقتبل العمر. ولكن ربما لو نظر الي الملأ ولاحظوا كبر سني لوضعوني بنفس خانة هذا الرجل العجوز الذي امامي.
وبينما هو سابحٌ بافكاره سمع صوت صديقه فريد يأتيه من وراء ظهره ويقول،
فريد : هل تأخرت عليك يا نجيب؟
نجيب : اجل، اجل، تأخرت كثيراً. 14 دقيقة ونصف بالتحديد.
فريد : انا اعتذر منك كثيراً عزيزي، فالشواغر بمواقف السيارات حول هذه المنطقة تكاد تكون معدومة. بقيت افتش كثيراً حتى رأيت سيدة عجوز تخرج بسيارتها من موقع قريب من المقهى فتلقفته على عجالة وصففت سيارتي فيه ثم جئتك مهرولاً باقصى سرعة.
نجيب : لا عليك يا عزيزي، فانا كنت امازحك وحسب. وماذا يعني لو تأخرت ربع ساعة او حتى ربع يوم؟ انسيت اننا نلعب بالوقت الضائع؟ الزمن الآن صار يلعب فينا بدلاً من ان يدعمنا. أتذكر تلك الايام الجميلة التي قضيناها سوية في الجامعة؟
فريد : وهل اقدر على نسيانها؟ لقد كانت حقاً احلى ايام حياتي. يا سلام... انها السبعينات وآخ من السبعينات. كم كانت جميلة ومثيرة ومسلية.
نجيب : وكل تلك الحسنوات الجميلات بالحرم الجامعي من زميلاتنا الفاتنات اللواتي ملأن حياتنا غبطة وبهاءاً وسعادة. هل تذكر فرودي تلك الفتاة التي كان اسمها جان ماكنتوش؟
فريد : جان ماكنتوش، جان ماكنتوش، لا، لا اذكرها ابداً. هل كانت طالبة في قسم الادب الانجليزي؟
نجيب : كلا يا متزهمر يا عجوز. انها تلك الفتاة الشقراء التي تشبه قطعة البقلاوة، كان لديها شعر كضفائر الذهب المبروم. الفتاة التي تنافسنا عليها ثم نلتها انا بفطنتي ودهائي بآخر المطاف.
فريد : اجل، اجل تذكرتها الآن. لكنك يا سافل يا خسيس فزت بها فقط لانك إتبعت اسلوباً ملتوياً خبيثاً كي تفوز بقلبها.
ضحك نجيب باعلى صوته وقال،
نجيب : كانت تلك الكبوات الشبابية اسلوب حياة وتحدي بالنسبة لنا. فالذي يفوز بقلب الفتاة هو من يفوز بالجائزة الأولى أتذكر يا صديقي؟
فريد : اجل اذكرها جيداً. والآن اخبرني كيف تسير الامور معك في مسكنك الجديد؟ هل انت راضٍ عن الشقة التي عثرت لك عليها؟
نجيب : الشقة لا بأس بها وافكر في شرائها من مالكها. ولكن... بصراحة تصلني اصوات وضوضاء كثيرة من سكان العمارة. انهم يُقْلِقون راحتي بكل الاوقات يا صديقي ولا يسعني التركيز على الكتابة.
فريد : وماذا تبغي منهم؟ هل تريد ان تصبح دكتاتوراً على جيرانك لتفرض عليهم نظام الولاء والطاعة؟ اسمع يا عزيزي، عليك ان تتعايش معهم لانك محظوظ جداً. فقد تمكنت من العثور على تلك الشقة بذلك الموقع المميز وبتلك المنطقة الحيوية بعد شق الانفس. اليوم انت لا تجد عناءاً في التسوق لان متاجر المواد الغذائية باتت قريبة من مسكنك وتستطيع شراء كل ما تحتاج اليه بسرعة فائقة وبوقت قياسي، سيراً على الاقدام. خصوصاً وانك لا تملك سيارة بعد اليوم وتعتمد على ساقيك في التسوق.
نجيب : لعن الله الشرطة، قالوا ان حالتي لا تسمح بقيادة السيارة وذلك بسبب ضعف نظري. مع اني ارى بشكل جيد حتى ولو كنت ارتدي نظارات طبية.
قهقه فريد بصوت عالٍ وقال،
فريد : وتسمي نظارتك هذه، نظارة طبية؟ عزيزي، ما تضعه على وجهك ليست نظارة. بل هي قعر قارورة ببسي كولا. فدائرة المرور لم يمنعوك من قيادة السيارة سداً، الا لان ذلك من مصلحتك ومصلحة باقي الناس في الشارع يا فتى.
نجيب : يا سلام عليك. تتحدث وكأنك شاب في مقتبل العمر.
فريد : انا اصغر منك سناً يا صديقي. ام انك نسيت ذلك؟
نجيب : هذا صحيح. انت اصغر مني بشهرين فقط. فلا تفرح كثيراً لأننا بلغنا الشيخوخة سويةً.
فريد : دعك من هذا الحديث المحبط الآن واخبرني، اين وصل مبيع كتابك الجديد الذي نشرته مؤخراً؟
نجيب : لقد بيع منه 85000 نسخة والناشر يفكر في الطبعة ثانية. يبدو ان الكتاب لقي نجاحاً كبيراً وجنيت منه الكثير من العائدات والحمد لله.
فريد : انت نشرت تسعة كتب لحد الآن وكلها كانت تنزل الى الاسواق فتنفذ مباشرةً بعد وصولها رفوف المكتبات لانك كاتب مرموق محترف وتملك حبكة رائعة في الكتابة. لقد اصبح لديك الكثير من القراء والمتابعين. اتعرف ماذا يَطْلِقُ عليك العرب هنا في لندن؟ انهم يسمونك نجيب محفوظ العراق.
نجيب : يا لسخرية القدر! انا لم اعد عراقياً بعد اليوم، فقد سقطت عني الجنسية العراقية منذ اكثر من 20 سنة. انا الآن بريطانياً بكل المقاييس. حتى قصصي اكتبها باللغة الانكليزية ولغتي العربية اصبحت في خبر كان.
فريد : لا تنسى انك تخصصت بالادب الانجليزي عندما كنت تدرس بالجامعة وهذا منحك القدرة الهائلة على الكتابة والتعبير الادبي بالانكليزية. ولكن اخبرني عزيزي، لماذا تتخصص بكتابة قصص الجريمة وحسب؟ فانت كما اعرفك انساناً رومانسياً جداً ولديك حس انساني كبير.
نجيب : عندما كنت صغير السن في العراق واقصد بفترة الابتدائية، كنت معجباً بالكاتبة الانجليزية (اغاثا كريستي) والكاتب الروسي (تولستوي) و(ثيودور دستوفسكي). فكل قصصهم كانت على هذا الضرب لذلك اجد متعة كبيرة وانا اكتب القصص الاجرامية.
فريد : لكن الجريمة لديها الكثير من الملابسات والارتباطات القانونية اليس كذلك؟ من اين لك بكل تلك المعلومات؟
نجيب : كلامك صحيح، ولهذا قمت بقراءة الكثير من الكتب والمصادر التي تزودني بالدراية اللازمة لاثراء معرفتي بالجريمة وطرق محاربتها من الناحية البوليسية والقانونية. واهم الكتب التي قرأتها هو كتاب (مقدمة في العدالة الجنائية) للكاتب جون وورال وكتاب (القانون الدستوري ونظام العدالة الجنائية) للكاتبة كارين هس. و(أساسيات البحث في علم الجريمة والعدالة الجنائية) لرونيت باخمان وراسل شوت. اما من الناحية الطبية فقرأت (علم النفس الجنائي: البحث والممارسة السريرية والتطبيقات) بقلم ماثيو هوس و(أطلس ملون للطب الشرعي وعلم الأمراض) بقلم تشارلز كاتانيز، وغيرهم من عمالقة الكتاب في العلوم الجنائية. تلك الكتب منحتني رؤىً واسعة حول سايكولوجية المجرم وطرق تنفيذ الجريمة وطرق محاربتها واساليب الكشف عنها بالعلوم الطبية والعملية الحديثة.
فريد : الآن عرفت سر نجاحك فيما تكتب يا صديقي. على العموم، ساحاول ان اتحدث مع مسؤول العمارة التي انتقلت اليها للتو لان عندي علاقة ودية معه وساطلب منه ان يُبَلّغ سكان العمارة كي ينقصوا من الضجيج فيمنحوك بعضاً من الهدوء والسكينة كي تفيض بقريحتك في التأليف.
نجيب : شكراً فريد، والآن دعني اعود الى بيتي فلقد خطرت لي فكرة قد تكون الفاصلة في حلحلة القصة الحالية التي اكتبها.
فريد : وما هي الفكرة؟
نجيب : قلت لك مراراً وتكراراً، لا استطيع ان اتباحث معك او اي شخص آخر حول قصصي اثناء الكتابة.
فريد : حسناً ولكن دعني اكون اول من يقرأها قبل قيامك بتسليمها الى دار النشر.
نجيب : عزيزي ابو ناتاشا، هذا وعد مني.
فريد : هل تريدن ان اوصلك الى بيتك بسيارتي؟
نجيب : كلا، ذلك ليس ضرورياً. فالمسافة بالكاد بضع مئات من الامتار. والرياضة جيدة بالنسبة للشباب الذين في سننا هاهاها. اراك لاحقاً عزيزي.
فريد : سؤال اخير قبل ان تغادر. لماذا لم تقدم على الكتابة عندما كنت بالجامعة؟
نجيب : وقتها كنت مشغولاً في التنافس مع اصدقائي البغيضين في صيد الفتيات الفاتنات. استودعك الله.
فريد : لا احد يقدر على لسانك. استودعك الله نجّوبي.
خرج نجيب من المقهى وهو يفكر فقط بتفاصيل ومجريات القصة الحالية كي يجد لها مخرجاً من حالة الركود والانحباس الذهني الذي وقع فيها. وصل العمارة فرأى ثلاث سيارات شرطة تحيط الساحة التي تقع فيها عمارته. كذلك وقفت معهم سيارة اسعاف. فعلم ان الازعاج سيستمر بهذا السكن المشؤوم وسوف لن يحظى بالسكينة والراحة كما كان يصبو اليه حينما انتقل قبل شهرين. وضع المفتاح الامني الخاص بالباب الخارجي ليفتحه ويدخل بممر العمارة الطويل ثم تفحص صناديق الرسائل. ادخل مفتاحه بالصندوق المخصص له رقم (407) ونظر بداخله فوجده خالياً. عاد واحكم اغلاقه من جديد ثم سار نحو مصعد العمارة الوحيد فدخله وضغط على الزر رقم (4) كي يأخذه الى الطابق الرابع. بدأ الباب بالانسدال لكن شخصاً ما وضع يده بين الدفتين ليعيقهما، فدخل المصعد واعتذر منه ليقول، "آسف اريد ان اركب المصعد معك". تفحص نجيب وسأله،
الرجل : هل انت الاستاذ فتح الله؟
نجيب : اجل انا نجيب فتح الله. هل سبق وان تعارفنا؟
الرجل : كلا، انا النقيب ديفد كونَلي.
نجيب : إذاً انت نقيب بالجيش.
ديفد : كلا، بل انا رجل شرطة. انا محقق.
نجيب : لم اكن اعلم ان لدينا ساكنٌ بالعمارة يعمل بالشرطة؟
ديفد : انا لست ساكناً بالعمارة. لقد جئت اليوم لاحقق بجريمة وقعت في الطابق الخامس.
نجيب : هل وقعت عملية سطو بعمارتنا؟
ديفد : لا بل هي جريمة قتل. أبامكاني ان اخذ من وقتك بضع دقائق؟
نجيب : اجل بالتأكيد تستطيع فعل ذلك. تفضل عندي بشقتي لنتحدث اكثر. قل لي حضرة المحقق ما المشكلة واي شقة وقعت فيها الجريمة؟
قالها وهو يضع المفتاح بباب شقته ويدخل معه المحقق قال،
ديفد : الجريمة حدثت في شقة رقم 507. الواقعة تماماً فوق شقتك.
نجيب : هل علمتم عن زمن وقوع الجريمة.
ديفد : كلا، الخبراء الجنائيون يقومون الآن بجمع المعلومات. ولكن اخبرني سيد فتح الله، اين كنت البارحة مساءاً؟
نجيب : كنت بداخل شقتي لماذا تسأل؟
ديفد : الم تسمع اي اصوات او اي شيء يثير الريبة؟
نجيب : بالحقيقة انا اسمع الكثير من الضجيج يصلني من متساكني العمارة وبالاخص اصوات الاطفال التي لا تخبوا ولا تهدأ حتى ساعات متأخرة من الليل. مع ان العادة جرت في بريطانيا ان ينام الاطفال مبكراً. لكنني اعلم يقيناً ان غالبية سكان العمارة هم من الاجانب. وذويهم لا يحرصون على حث الاطفال على النوم المبكر.
ديفد : إذاً انت تعرف جيرانك؟
نجيب : بتاتاً. لم يسبق لي التحدث مع اي واحد منهم لاني انتقلت مؤخراً الى هنا.
ديفد : متى انتقلت؟
نجيب : انتقلت هنا بشهر فبراير من هذا العام ونحن... نحن... اجل نحن في شهر ابريل الآن اي انتقلت قبل شهرين تقريباً.
ديفد : ولماذا انتقلت الى هنا؟ اين كنت تسكن سابقاً؟
نجيب : كنت اسكن بمنطقة (كامدن تاون) بشمال لندن لكنني كنت اعاني من كثرة السكّيرين الذين يسببون ضجيجاً أكبر حين تنفتح قريحتهم في الغناء. فغالبية سكان المنطقة هم من الايرلنديين وانت تعرف الايرلنديين وهوسهم الجنوني نحو تناول الخمر والسكر والعربدة. انهم فضيعين ومثيرين للشفقة.
ديفد : انا ايرلندي يا سيد نجيب لكنني لا احب الافراط في تناول الخمر.
نجيب : آسف حضرة المحقق انا لم اقصدك انت بالذات. سامحني على التلميح.
ديفد : سيد فتح الله، ماذا تعمل؟
نجيب : انا اديب وعملي هو تأليف الكتب. آخر كتب لي بعنوان (الوحش) الذي نشر قبل فترة وجيزة. وهو حالياً بالمكتبات.
ديفد : اريد ان اعرف إن كان بامكانك مصاحبتي الى مركز شرطة پادنغتون گرين غداً للتوقيع على اقوالك.
نجيب : اوقع على اقوالي بماذا؟ انا لم اقل لك اي شيء يستحق التوقيع. هل انا مشتبه به؟
ديفد : لا ابداً. لكنني اجمع المعلومات عن الجريمة لاكوّن صورة عامة عن محيط الجريمة.
نجيب : اتقصد مخطط ارتباط الجريمة crime link chart.
ديفد : يبدو انك ملم بالعمل البوليسي.
نجيب : ومن هو او هي المجني عليها؟
ديفد : انه شاب في الرابعة عشر من العمر. اعتقد انه من اللاجئين السوريين الجدد.
نجيب : يا الهي. ذلك امر فضيع. لم يكن لدي علم بذلك.
ديفد : اراك لاحقاً سيد نجيب.
نجيب : وهو كذلك.
خرج المحقق من شقة نجيب فتبعه نجيب واغلق الباب ورائه ثم عاد الى الصالة يفكر بما قاله المحقق وراح يُعِدُّ لنفسه فنجان قهوة ثم جلس على الكرسي الوثير ليواصل العمل على القصة التي بدأها قبل فترة وجيزة. لكنه وجد نفسه يفكر بالجريمة التي حدثت في الشقة رقم 507. نظر الى السقف وبدأ الفضول يتغلب عليه حتى انتصب وارتدى معطفه من جديد ثم صعد الى الطابق الخامس ليجد شريطاً اصفراً يمنع المتطفلين مثله من الدخول الى الشقة ورأى كذلك عنصر شرطة واقفٌ الى جانب الباب يحرسه. لم يجرؤ على فعل شيء بل عاد ادراجه وهو يفكر بالجريمة المروعة.
وفي مركز الشرطة رجع المحقق ديفد لاصقاً هاتفه المحمول على اذنه يتحدث مع مديره (بيتر حنا) حين سمعه يسأل،
بيتر : هل اجريت مقابلات مع سكان العمارة يا ديفد؟
ديفد : العمارة فيها 28 شقة. تمكنت من التحدث الى 5 منهم فقط.
بيتر : وماذا عن الباقين؟
ديفد : احد الشقق تعيش فيها عائلة ذهبت في رحلة الى جزر الكناري اسبوعاً كاملاً قبل وقوع الجريمة. والساكن الثاني يقبع بمستشفى (سانت ميريز) بسبب حادث سير منذ خمسة ايام والثالث امرأة طاعنة في السن نقلت الى دار العجزة قبل شهرين لتصبح شقتها خالية. اما الرابعة فهي شابة بالعشرينات من العمر سافرت لزيارة والدتها بسكوتلندا عشرة ايام قبل وقوع الجريمة ولم ترجع بعد.
بيتر : اريد معلومات كاملة عن تلك الشابة.
ديفد : حاضر، سافعل ذلك سيدي.
بيتر : وماذا عن باقي سكان العمارة؟
ديفد : اغلبهم قالوا بانهم لم يلاحظوا اي شيء ليلة وقوع الجريمة. واليوم تحدثت مع الرجل الذي يسكن بالشقة الواقعة تحت مسرح الجريمة مباشرةَ. هذه الشقة يسكنها كاتب بريطاني مشهور ولديه الكثير من الكتب المنتشرة بالمكتبات.
بيتر : هل اصله من مانشيستر؟
ديفد : كلا، اصله من العراق لكنه يحمل الجنسية البريطانية، اسمه... اسمه... اجل اسمه نجيب فتح الله.
بيتر : عن ماذا يكتب؟
ديفد : لا اعلم سيدي. لم يخطر ببالي ان اسأله.
بيتر : أريدك أن تتحرى وتكتشف ذلك.
ديفد : حسناً سيدي. ولكن احتاج الى مساعدة من بعض العناصر الاضافيين.
بيتر : بامكانك الاستعانة باثنان من المنتسبين الجدد. لانهم بالتأكيد سأموا من توزيع المخالفات المرورية. وكذلك، سوف اخصص لك ثلاث محققين آخرين وهم جاك دوكليش، وجورج لنكنسن، واميت ديفيز.
ديفد : جيد جداً سيدي.
بيتر : ستتولى متابعة التحقيق بنفسك بهذه القضية لانك ستترأس فريق التحقيق من الآن فصاعداً.
ديفد : حاضر سيدي.
بيتر : كذلك بغيت ان اسألك عن شيء مهم للغاية. اين هي عائلة المجني عليه؟ اقصد ابوه، امه، اخوانه...الخ
ديفد : لا احد يعلم ذلك بعد. يبدو ان الصبي كان جالساً وحده في الشقة وقت وقوع الجريمة. لذلك وضعنا شرطياً خارج الشقة يترصد مجيئ عائلته.
بيتر : حسناً ديفد، واصل عملك.
اغلق ديفد الخط مع مديره ودخل المصعد ثم ضغط على الزر رقم (3) ليذهب الى مكتبه بالطابق الثالث. فور وصوله قسم التحقيق الجنائي رأى احدى الشرطيات الجدد تحييه وتقول،
كورا : مساء الخير سيدي. هل اعد لك قهوتك؟
ديفد : لا يا كورا ولكن اريدك ان تنادي زميلك عمّار وتأتي معه الى مكتبي فوراً.
كورا : عمّار ذهب قبل قليل الى شارع (اجوير رود) في دوريته المعتادة سيراً على الاقدام.
ديفد : إذاً اريدك ان تستدعيه وتحضران سوية الى مكتبي على جناح السرعة.
كورا : حاضر سيدي ساستدعيه الآن باللاسلكي.
تركها ديفد ودخل مكتبه فرأى كماً كبيراً من الاوراق فوق سطح مكتبه. البعض منها كانت اوراق رسمية والباقي فواتير غير مدفوعة ومعها رسالة شخصية واحدة. تفحصها فوجد عليها اسمه ولكن بخط مألوف لديه تماماً. انه خط زوجته اوليڤيا. استغرب كثيراً وقال لنفسه، "ما هذا الجنون؟ قبل ايام ذهبت زوجتي اوليڤيا لترى عمها الذي يحتضر في مدينة كورك بايرلندا الجنوبية. فلماذا تبعث لي برسالة ورقية؟ هل فقدت هاتفها النقال من جديد يا ترى؟". فتح الرسالة على عجالة وقرأ،
عزيزي ديفد،
أكتب اليك هذه الرسالة بعد تفكير طويل ومعاناة شديدة. أنا أعلم أن ذلك قد يكون صعبًا عليك كما هو صعب عليّ، لكنني لا أستطيع الأستمرار في هذا الوضع بعد الآن. لم أعد أحتمل أن أكون بمفردي في المنزل طوال الوقت بينما تقضي انت كل يومك في العمل. صحيح أنا أحترم عملك وأقدّر تفانيك فيه، لكنني لا أستطيع أن أستمر بهذا الروتين الممل، بحيث أعيش بمفردي دون دعم أو رفقة.
منذ فترة طويلة وأنا أشعر بأن هناك فجوة تتسع بيننا على مرور الزمن، وهذا يؤلم قلبي بشدة. لقد حاولت أن أكون صبورة وأتقبل الوضع، لكنني أصبحت أفتقد الاتصال والتواصل الحقيقي الذي كان يميز علاقتنا بعد اربع سنين من الزواج. لذلك، وبعد تفكير عميق، قررت من الأفضل لنا أن نأخذ مسارًا منفصلًا. ستتلقى قريبًا اتصالًا من محاميّ (پادي نيلسون) الذي سيتواصل معك قريباً لاستكمال إجراءات الطلاق.
أرجو منك أن تسامحني وتتفهم قراري هذا، وأتمنى لك كل الخير في حياتك القادمة. اما أنا فأحتاج إلى التغيير، وأنت أيضًا بحاجة إلى حياة أكثر راحة دون الشعور بمسؤولية إضافية.
مع خالص تمنياتي لك،
اوليڤيا
خرجت دمعة من عينه لتسيل على وجنته وتسقط على ورقة الرسالة التي بيده فتُغرِقْ كلمة (اوليڤيا) لكنه شعر بصدق ان زوجته محقة بما طلبت. فالشرطي لا يملك من حياته سوى عمله وليس لديه متسع من الوقت يكفي لاشخاص آخرين يشاركونه بحياته الاجتماعية. لذا فهي على حق بكل ما قالت. وبما انها لم تتمكن من الانجاب لاسباب طبية بحتة خارجة عن ارادتها، فهي الآن بحالة احباط تام وتخبط عاطفي كبير. خصوصاً وانها تواجه حداداً على عمها الذي فارق الحياة بالأمس فقط. اوليڤيا محقة في طلب الطلاق وانا لم اقف الى جانبها في السابق كي اكون الزوج المثالي الذي كانت تصبو اليه. انها انسانة رقيقة وفنانة موهوبة. فرسوماتها تملأ جميع ارجاء البيت، ولكن ليس بمقدوري ان اتخلى عن وظيفتي الآن وانا بلغت الاربعين من العمر. ماذا تريدني ان اعمل مثلاً؟ بياع في متجر ملابس داخلية نسائية؟ ام ربما سائق تاكسي؟ او حتى بواب في مدرسة اطفال؟ على العموم انا لن ازيد من شقائها وسوف اوافق على كل شروطها كي تنال حريتها وتستعيد حياتها التي تصبو اليها".
بهذه الاثناء قطع سلسلة افكاره نقرٌ على الباب تلاه شق صغير في الباب وصوت الشرطية كورا تقول،
كورا : لقد حضر عمّار سيدي. اتأذن لنا بالدخول؟
ديفد : لا، انتظرا قليلاً بالخارج لو سمحتما. ساستدعيكما خلال ثوانٍ.
كورا : حسناً سيدي.
عادت فاغلقت الباب خلفها. صار ديفد يمسح دموعه وعدل من هندامه ثم جلس خلف المنضدة وصاح بصوت متهدج، "ادخـــــــل". فدخل الشرطيان كورا وعمّار بالزي الرسمي. نظر اليهما ثم ابتسم ابتسامة فاترة ولوح بيده كي يجلسا على الاريكة قال،
ديفد : لقد سمعتم بالجريمة التي وقعت في 55 كافندش سكوير اليس كذلك؟
كورا : اجل سيدي.
عمّار : كل من بالمركز سمع بها.
ديفد : اليوم تحدثت مع المفوض السيد بيتر حنا بخصوص القضية الجديدة التي وكلت اليّ وطلب مني ان اترأس فريق عمل يساعدني في التحقيق بها. وبما ان لدي ثلاثة محققين متمرسين بالقسم وهم الملازم جاك دوكليش، الملازم اول جورج ولنكنسن والملازم اول اميت ديفيز. لذلك قررت ان اشركّكما معنا كي تتمكنا من اكتساب خبرة بالتحقيق الجنائي وذلك قد يساعد على ترقيتكما مستقبلاً. فما رأيكم؟
كورا : بالتأكيد سيدي، شكراً. هذا كرم منك سيدي.
عمّار : شكراً جزيلاً. نحن مستعدون لتنفيذ اي مهمة تكلفنا بها سيدي.
ديفد : دعنا لا نضيع المزيد من الوقت فانا اريد ان تعملا مع الفريق بشكل مكثف كي نحاول ان نحل القضية باسرع وقت ممكن. سابدأ بكِ انتِ يا كورا، اريدك ان تذهبي الى المكتبة القريبة من هنا بشارع (پرَيد) وتشتري كتاباً بعنوان (الوحش) للكاتب البريطاني نجيب فتح الله. وبعد ان تعودي به الى هنا اريدك ان تقرأيه جيداً وبتمعن كبير من الجلد الى الجلد ثم تعطيني ملخصاً شفاهياً بما ورد فيه.
كورا : حاضر سيدي.
ديفد : اما انت يا عمّار وبما انك من اصول عربية وتفهم اللغة جيداً فاريدك ان تتحدث مع الغالبية العربية من سكان العمارة التي وقعت فيها الجريمة وتحاول ان تثري معلوماتنا عن القضية.
عمّار : أمركَ سيدي.
ديفد : والآن هيا تحركا بسرعة.
خرجت كورا وعمّار من مكتب رئيس فريق التحقيق يغمرهما الشعور بالفخر والاعتزاز لان هناك امل في ترقيتهما وتعلمهما اساليب التحقيق الجنائي من محققين متمرسين لديهم خبرة كبيرة بحل القضايا التي عملوا عليها في السابق. وبعد مرور يومين دخل ديفد مكتبه، وفور اغلاقه الباب ورائه سمع رنين هاتفه الارضي من على المنضدة فرفع السماعة ليسمع صوت الطبيب الشرعي روبن ماكدوف يقول،
روبن : يا ديفد، بامكانك ان تأتي الآن. لقد انتهيت للتو من تشريح جثة المجني عليه يزن.
ديفد : انا في طريقي اليك فوراً.
اغلق الخط مع الطبيب وخرج مسرعاً الى المراب ليركب السيارة الرسمية المخصصة اليه وانطلق بها باتجاه المشرحة في منطقة مايداڤيل. وبعد قيادة دامت 10 دقائق دخل مبنى الطب الشرعي ليصعد الى الطابق الرابع. فتح باب المشرحة ليرى صديقه الدكتور روبن جالساً على كرسيه يترشف قهوة سوداء من كوب خزفي ابيض فسأله،
ديفد : اخبرني، اتحرق لاسمع الاخبار، هل جد جديد؟
روبن : الماء ما زال ساخناً. اعمل لنفسك قهوة وتعال الى هنا فانا أريدك أن تكون رصينًا حتى تتمكن من استيعاب ما ساقوله.
ديفد : تباً للقهوة الآن. اخبرني يا روبن ماذا وجدت؟
روبن : هذه جثة الصبي يزن قصار، العمر 14 سنة، تم تعليقه من قدميه ليتدلى بجسده بعد ان ربطت يداه للخلف وهو مقلوب رأسٌ على عقب ثم قام الجاني بتعذيبه بشكل بشع لا يصدق. يبدو ان الجاني كان يضربه بقضيب حديدي على رأسه وصدره وظهره. فقد وجدنا آثار صدأ فوق مكان الضربات. الطفل مات من اثر التعذيب بعد فترة طويلة. ليس هناك دليل على ان الجاني اعتدى عليه جنسياً لان فتحة الشرج سليمة.
ديفد : يا الهي، انه مجرد طفل. كم من الحقد يحمل ذلك المختل عقلياً حتى يستطيع فعل كل ذلك؟
روبن : البلد مليئ بالمختلين عقلياً يا صديقي. مهمتنا هي العثور عليهم ووضعهم خلف القضبان.
ديفد : هل تمكنت من تحديد وقت الوفاة؟
روبن : اجل لقد كانت ما بين الثامنة والعاشرة من مساء يوم الاحد.
ديفد : هل تمكنت من معرفة محتويات معدته؟
روبن : اجل، عثرت على الكثير من بقايا رقائق البطاطا والمشروبات الغازية والشكولاطا.
ديفد : يبدو انه كان وحيداً بالمنزل يتابع التلفاز وقت...
فجأة بدأ هاتفه النقال يرن فاخرجه من جيبه واستجاب له ليسمع صوت الشرطي بورس المكلف بحراسة شقة المجني عليه يقول،
بورس : سيدي اعتقد ان عليك الحضور الى هنا حالاً. لقد وصلت عائلة المجني عليه الى الشقة وبيدهم حقائب سفر. انهم يصرون على الدخول الى داخل شقتعهم لكنني منعتهم وحاولت اخبارهم بما وقع للمجني عليه لكنهم لا يجيدون التحدث بالانكليزية على ما يبدو. ما عدى بعض الكلمات لابنتهم، ماذا افعل؟
ديفد : انتظر مني مكالمة هاتفية. ساعود واتصل بك لاحقاً.
اغلق ديفد الخط مع العنصر بورس واتصل بهاتف الشرطي عّمار ليسأله،
ديفد : اين انت يا عمّار؟
عمّار : انا في طريقي الى البناية التي وقعت فيها الجريمة لانفذ ما كلفتني به سيدي.
ديفد : ممتاز. انا بامس الحاجة اليك. ساحضر بعد قليل الى هناك وسالتقيك خارج المبنى.
عمّار : حسناً سيدي سانتظرك خارج باب مبنى رقم 55.
اغلق الخط مع عمّار وسأل الطبيب قائلاً،
ديفد : هل هناك المزيد من المعلومات؟
روبن : اجل هناك الكثير. لكنك ستجدها بالتفصيل في تقريري الذي حررته اليوم وسارسله لك على بريدك الالكتروني.
ودع ديفد صديقه الطبيب ووعده بزيارة ثانية ليحصل منه على المزيد من المعلومات الشفهية ثم خرج مسرعاً وركب سيارته ليتجه بها الى العمارة التي وقعت فيها الجريمة. وفور وصوله هناك وجد العنصر عمّار واقفاً امام باب المبنى ينتظره فقال له،
ديفد : يبدو ان عائلة المجني عليه قد وصلت للتو من السفر وهم لا يجيدون التحدث بالانكليزية. لذلك ساحتاج لمساعدتي في الترجمة.
عمّار : بالتأكيد سيدي. ساترجم لك كما تريد.
ديفد : دعنا ندخل إذاً.
اتصل ديفد بالشرطي بورس هاتفياً وطلب منه فتح باب العمارة الخارجي فضغط بورس على الزر الالكتروني ليسمع ازيز المفتاح فينفتح الباب ويدخل ديفد وعمّار. وفور وصول المصعد الى الطابق الخامس انفرج باب المصعد وخرجا منه فوجدا العائلة تقف امام باب الشقة رقم 507 ومعها حقائبها. نظر ديفد الى رب الاسرة وقال من خلال ترجمة عمّار،
ديفد : انا المحقق ديفد كونَلي من مركز شرطة پادنغتون گرين. لقد كلفت بالتحقيق بالقضية.
رب الاسرة : انا اسمي محمد القصار. لماذا يمنعنا هذا الشرطي من الدخولنا الى منزلنا ولماذا وضعوا الشريط الاصفر على الباب. لحظة، لحظة، اي قضية تتحدثون عنها؟ هل وقع مكروه لابني يزن؟ اين هو؟
ديفد : يبدو انك لا تعرف ما جرى لابنك سيدي. يؤسفني ان اخبرك بان ابنك تعرض لعملية اعتداء ادت الى وفاته. ونحن الآن في صدد التحقيق بالجريمة.
محمد : ماذا تقول يا حضرة الضابط ماذا تقول؟ انا لا اصدق. ابني مات؟ يا الهي. هذا مستحيل.
صار الاب يصرخ منادياً باعلى صوته ويقول، "يزن، يزن، اين انت حبيبي، انا بابا يا يزن. تعال يا ابني، اخرج من الشقة اريد التحدث اليك". هنا بدأت والدة يزن بالصراخ والعويل وصارت اخت يزن تصرخ بصوت عالِ ومخيف. الكل يلهج باسم يزن- يزن- يزن.
نظر عمّار الى ديفد وقال،
عمّار : يبدو انهم بحالة صدمة شديدة لانهم لم يكونوا على علم بموت الولد.
ديفد : حاول ان تهدئهم كي نستطيع التحدث اليهم فلدي مليون سؤال وسؤال اريد طرحه عليهم.
عمّار : مهما حاولنا سيدي فمصابهم جلل ويجب علينا تركهم كي ينفسوا عن شعورهم بالحزن العميق على فقدان ولدهم.
ديفد : سنتركهم لا محال ولكن على الاقل اريد ان اعرف اين كانت العائلة وقت وقوع الجريمة؟
عمّار : حسناً سأسأل رب الاسرة الآن.
جلس والد المجني عليه على الارض وراح يبكي بحرقة لكنه سمع السؤال من عمّار فتوقف عن البكاء قليلاً وكفكف دموعه ثم قال،
محمد : لقد كنا في زيارة اقارب لنا في مدينة برمنگهام. انها عائلة سورية من اربد استقرت هناك عندما لجئوا الى بريطانيا. ذهبنا لزيارتهم قبل اسبوع لكن ابني المرحوم يزن رفض المجيئ معنا وفضل البقاء بالدار وحده فتركناه بالشقة وتركنا معه المال الكافي والطعام اللازم كي يبقى وحده بتلك المدة.
ديفد : وكيف تتركون طفلاً بهذا السن وحده؟ ان ذلك مخالفٌ للقانون.
محمد : كنا نعتمد على المرحوم كثيراً لانه يتصرف كالرجال. لذلك تركناه وحده.
ديفد : على العموم سوف نتحدث بهذا الموضوع بالتفصيل فيما بعد. الآن سنترككم تدخلون الشقة لان فريق البحث الجنائي اخبرني قبل قليل بانهم اكملوا رفع البصمات والحمض النووي من جميع غرف وردهات الشقة. اريد ان ابدي اسفي على مصابكم الجلل يا سيد محمد.
محمد : ماذا يسعني ان اقول سوى انا لله وانا اليه راجعون.
خرج كل افراد الشرطة من الشقة وتركوا العائلة المنكوبة مثقلةً بحزنها وعادوا الى المركز. وفور دخول المحقق ديفد قسم الجنايات بالطابق الثالث رأى الشرطية كورا جالسة خلف منضدتها تقرأ كتاباً فسألها،
ديفد : هل هذا هو الكتاب الذي طلبت منك شراءه؟
كورا : اجل سيدي. لقد بدأت أقرأه قبل قليل.
ديفد : حسناً واصلي القراءة. ولكن اخبريني، متى ستنتهين منه؟
كورا : لا اعلم بعد سيدي ربما يوم واحد او يومين.
ديفد : حاولي ان تقرأيه وتكمليه باسرع وقت ممكن لان لدينا الكثير من العمل.
كورا : حاضر سيدي. اعدك باني سابذل قصارى جهدي.
دخل مكتبه ورفع سماعة الهاتف ليتحدث مع نائب المدعي العام ويلي كروفارد قال،
ديفد : لقد عدت للتو من منزل المجني عليه.
ويلي : وهل استجد معك شيئ؟
ديفد : كلا، ليس لدينا مشتبه به بعد. لكننا نعمل على مدار الساعة يا ويلي.
ويلي : حسناً ولكن دعني احذرك من شيء مهم. فالوزارة كلها مستنفرة بشكل لا يوصف لان الضحية هذه المرة طفل صغير من المهاجرين. لذلك هم يريدون الامساك بالجاني باسرع وقت ممكن ومهما كلف الثمن.
ديفد : صدقني يا ويلي نحن نعمل على مدار الساعة كما اسلفت.
ويلي : حسناً ابقني في الصورة يا ديفد.
ديفد : بالتأكيد، وداعاً.
اغلق الخط مع نائب المدعي العام وضرب على منضدته بغضب شديد ثم قال، "يجب علينا أن نحقق تقدما، والا فسنكون في ورطة ما بعدها ورطة، خصوصاً لو شم الاعلام رائحتها، فسوف نصبح محط انظار الجميع". ارتدى معطفه وخرج من المكتب متجهاً نحو المصعد الكهربائي فمر من مكتب الشرطية كورا ليلاحظ انها منحنية الرأس منهمكة بالقراءة. ابتسم وقال، "هذه الفتاة مجتهدة حقاً ". ركب سيارته وأقتادها الى منزله بمنطقة هامستيد هيث.
وفي اليوم التالي دخل مكتبه وتوجه مباشرة نحو آلة القهوة ليعمل فنجاناً مركزاً من القهوة التي يحبها كثيراً (اكسبريسو). امسك بالفنجان وجلس خلف المنضدة ليفتح ملف القضية وراح يراجعه. فجأة سمع طرقاً على الباب. اذن بالدخول فرأى الشرطية كورا تدخل وهي متجهمة، نظر اليها وسألها،
ديفد : لماذا احمرت عيناك يا كورا؟ هل تعانين من مرض؟
كورا : كلا سيدي، لكنني لم انم منذ البارحة. سهرت الليل كله وانا جالسة على مكتبي حتى انتهيت من قراءة الكتاب.
ديفد : فعلت خيراً يا كورا، وماذا استنتجتِ؟ اسردي لي زبدة القصة لو سمحتِ.
كورا : وجدت انها قصة رائعة ورهيبة بنفس الوقت لكن تفاصيلها سوف تصدمك سيدي.
ديفد : كيف ذلك؟ وضحي كلامك اكثر رجاءاً.
كورا : بينما كنت اقرأ احداث القصة شعرت وكأن الكاتب يصف الجريمة التي بين يدينا تماماً. واقصد بها قضية (55 كافندش سكوير) انظر الى صورة الغلاف سيدي.
ديفد : يا الهي. ما الذي اراه هنا؟ انها اكثر صورة مؤلمة رأيتها في حياتي. البارحة زرت الدكتور روبن الذي قام بتشريح جثة المجني عليه وقد اكد لي انه كان معلقاً من قدميه وجرى تعذيبه بشكل وحشي بشع لا يُصَدّقْ. هذه الصورة تكاد تصف حالته تماماً وقت وقوع الجريمة. والآن احكي لي القصة باختصار لو سمحتِ.
كورا : القصة تتحدث عن شخص مهمش يعيش في ڤنزويلا يدعى (كارلوس كونا) يسكن وحيداً في شقة رخيصة بضواحي العاصمة كراكاس. في طفولته كان كارلوس يتعرض للكثير من الضرب على يد والدته عندما كان ينسى ترتيل الصلاة قبل تناول الطعام او قبل النوم بحيث كانت تعلقه من قدميه وتضربه بعصاً غليضة تتسبب له في عقد نفسية جمّة. بين الحين والآخر صارت تراوده افكار جهنمية رهيبة فيترائى له مشهد بمخيلته وهو يقتل امه ويقطعها ارباً ويضعها بداخل صندوق حديدي محكم الاغلاق ثم يرميها في البحر ليغطس للقاع. لكنه لم يجرؤ على تحقيق امنياته تلك. وحتى بعد وفاة امه كان يكبت بداخله غضباً شديداً وحقداً لا محدوداً. ولما كان يخرج الى الشارع لاي سبب من الاسباب، كان اطفال الحي يسيرون خلفه ويمطرونه بالحجارة مستهزئين به ويرتلون (ها هو الابله، ها هو الابله). وعندما يرجع الى منزله كان يبكي طويلاً ثم يُقسِمُ بانه سينتقم من أولئك الشياطين الصغار الذين صاروا يعذبونه كما كانت تعذبه والدته. لذا صار يخطف اطفال الحي الواحد تلو الآخر عندما يراهم بمفردهم ويعذبهم بهذه الطريقة وهنا اقصد انه يعلقهم من اقدامهم ويظل يضربهم بقضيب حديدي حتى الموت ثم بعد ذلك ينقلهم بسيارته القديمة الى مكب نفايات المدينة ليتخلص منهم هناك.
انتاب ديفد قلق كبير فسألها،
ديفد : هل كان يعذبهم بعصى خشبية ام قضيب حديدي. تذكري جيداً يا كورا.
كورا : بقضيب حديدي سيدي، انا متأكدة.
ديفد : يجب ان نتحقق من كاتبنا هذا. اين عمّار؟
كورا : عمّار يجلس خلف منضدته سيدي.
ديفد : لحظة واحدة لو سمحتِ.
رفع سماعة الهاتف وطلب عمّار كي يحضر الى مكتبه. وما هي الا دقائق وسمع طرقاً على الباب ودخل فقال له،
ديفد : ماذا كانت ملاحظاتك بعد ان تحدثت مع سكان العمارة؟
عمّار : جميعهم اثنوا على والد الضحية السيد محمد وقالوا انه رجل صالح لكنه كان يستقبل الكثير، الكثير من الزوار من ابناء بلده باغلب ايام الاسبوع. زواره لا ينقطعون ابداً.
كورا : وهل تحدثت مع اشخاص آخرين؟
عمّار : اجل تحدثت مع مسؤول العمارة وسألته عن جميع المتساكنين فكان جوابه ايجابياً جداً. قال بان عائلة محمد طيبة جداً ويدفعون الايجار بالوقت المحدد ولا يسببون له اي مشاكل.
ديفد : ماذا كان رأيه بالمتساكن في شقة رقم 407؟
فتح عمّار دفتره الصغير وصار يبحث به ثم قال،
عمّار : انه الكاتب نجيب فتح الله سليم. اجل اخبرني مسؤول العمارة انه رجل هادئ جداً وقد استأجر الشقة قبل وقت قصير عن طريق مكتب السيد فريد شماش.
ديفد : ومن هو فريد شماش؟
عمّار : قال ان فريد شماش هو السمسار العقاري الذي تحصل على الشقة للكاتب نجيب فتح الله.
كورا : هل تريدني التحدث اليه سيدي؟
ديفد : كلا، انا ساتحدث معه بنفسي. هل تعرفون عنوانه؟
كورا : انه رقم 112 شارع اجوير رود سيدي.
ديفد : ساذهب الآن.
عمّار : ماذا تريدنا ان نفعل بعد ذلك؟
ديفد : ساعلمكم بالهاتف إن احتجت اليكم.
اطل من الشباك فوجد المطر يهطل بغزارة لذا ارتدى معطفه المطري ونزل الى الشارع ليسير قليلاً حتى وصل الى مكتب فريد شماش بشارع اجوير رود. قرأ اسم المكتب (مكتب المتروپول لبيع وتأجير العقارات). دخل من الباب الزجاجي فرأى سيدة سمراء جميلة تعمل على حاسوبها فسألها عن فريد شماش، اشارت براحة يدها كي يدخل الى قلب المكتب حيث جلس رجل مسن خلف الزجاج في عقده الثامن احترق رأسه شيباً، يرتدي نظارة طبية وبدلة رمادية انيقة يمسك بسيجارة ينفث من دخانها. طرق عليه الباب فأذن له ثم دخل وسأله،
ديفد : السيد فريد شماش؟
فريد شماش : اجل انا هو، تفضل كيف استطيع خدمتك؟
ديفد : انا النقيب ديفد كونَلي من شرطة بادنغتون احقق بقضية الجريمة التي وقعت بعمارة 55 كافندش سكوير، هل سمعت بها سيدي؟
فريد شماش : اجل سمعت بها من خلال الاعلام اليوم. فقط، انه لامر مؤسف حقاً.
ديفد : هل كنت تعرف عائلة المجني عليه؟
فريد شماش : اجل لقد اتصل بي مكتب مساعدة اللاجئين وطلب مني ان اجد شقة لعائلة السيد محمد القصار من سورية قال ان العائلة وصلت الى بريطانيا قبل 9 اشهر فعثرت لهم على الشقة رقم 507 بالطابق الخامس في عمارة 55 كافندش سكوير.
ديفد : هل قمت بتأجير جميع الشقق بتلك العمارة؟
فريد شماش : كلا، البعض منها فقط.
ديفد : هل تعرف المؤجر بشقة رقم 407 السيد نجيب فتح الله سليم؟
فريد شماش : اجل اعرفه معرفة جيدة منذ السبعينات من القرن المنصرم فقد تخرجنا من نفس الجامعة وتربطنا علاقة صداقة حميمة.
ديفد : هل تعلم انه كاتب؟
فريد شماش : اجل انه كاتب مرموق، تنفذ جميع كتبه فور ان تنشر وتنزل الى المكتبات.
ديفد : ماذا درس الاستاذ نجيب؟
فريد شماش : نجيب درس الادب الانكليزي.
ديفد : وهل درست الادب الانكليزي معه انت ايضاً؟
فريد شماش : كلا، انا درست الصحافة. لكننا كنا نرتاد نفس الجامعة. ونلتقي كثيراً بالمقصف او وقت الخروج من الجامعة.
ديفد : هل تعرفه بشكل عائلي؟
فريد شماش : لماذا كل هذه الاسئلة؟ هل هو مشتبه به؟
ديفد : كلا اطلاقاً. انا فقط اريد تكوين فكرة عامة عن جميع سكان العمارة والسيد نجيب واحداً منهم. والآن اخبرني هل تعرف عائلته؟
فريد شماش : نجيب ليس له عائلة هنا في لندن. انه رجل اعزب ولم يسبق له الزواج. كان دائماً ينتقدني لانني تزوجت ثلاث زيجات فاشلة ويقول بان النساء لا يأتي منهن سوى المشاكل.
ديفد : هل كان مثلياً؟
فريد شماش : لا ابداً. كان يتنافس معي بايام الصبا للحصول على اجمل الفتيات. لكنه لم يقدم على الزواج بحياته.
ديفد : بما انك عثرت له على الشقة، فبحسب رأيك هل هو سعيد بالسكن فيها؟
فريد شماش : اجل ان الشقة التي انتقل اليها مؤخراً كبيرة وممتازة ولديها اطلالة جميلة وموقع ممتاز لانها قريبة جداً من الاسواق وبامكانه السير على الاقدام ليشتري جميع ما يلزمه من مواد غذائية وغيرها.
ديفد : إذاً هو جداً سعيد بحصوله على الشقة.
فريد شماش : اجل ولكن... بما انه كاتب فانه بحاجة الى الكثير من الهدوء كي يركز على التأليف. لكنه كان يشكو من الضوضاء التي يثيرها اطفال متساكني العمارة.
ديفد : هل بالعمارة اطفال كثر؟
فريد شماش : اجل هناك طفل بنفس طابقه في الشقة رقم 402 لكنهم انتقلوا الآن الى مسكن جديد قبل اربعة ايام. وهناك طفل رضيع في الطابق السابع. وهناك ايضاً الطفل المسكين الذي تعرض لجريمة القتل كما تعرف، والكثيرين غيرهم.
ديفد : والآن اخبرني سيد فريد، ماذا تعرف عن شخصية السيد نجيب؟
فريد شماش : نجيب انسان رقيق جداً ولديه الكثير من القلق حول بلده الام العراق لانه يمر باوقات عصيبة على ايدي المليشات المارقة التي تدمر البلد.
ديفد : اعتقد انني اكتفيت بتلك المعلومات. ساتصل بك ثانية إن احتجتُ اليك.
فريد شماش : ساقدم لك كل المساعدة إن استطعت سيدي.
ديفد : اسعدت صباحاً سيد فريد.
خرج المحقق من مكتب فريد شماش وقد تسلح بالكثير من المعلومات عن الكاتب نجيب، مما جعله على يقين بان الكاتب نجيب هو المشتبه الاساسي في الجريمة. لذا قرر ارسال المحقق اميت لزيارة عائلة القتيل والتحدث الى جميع افرادها كلٌ على حدة كي يشكل صورة افضل في ظل المعلومات التي تلقاها للتو من السمسار فريد. رجع الى مقره واستدعى فريق التحقيق جميعاً فدخل المحققون الخمسة مكتبه فقال لهم،
ديفد : آن الاوان ان نحرز تقدماً ملحوظاً بقضيتنا. فاليوم علمت من السيد فريد شماش وهو صديق مقرب للكاتب نجيب فتح الله وهو نفسه السمسار الذي عثر له على الشقة، بان الكاتب نجيب يسكن مباشرة تحت عائلة السيد محمد، كان يتذمر من الاصوات التي يصدرها المجني عليه وهذه اول اشارة ترقى لان تكون دافعاً للجريمة نستطيع الاستناد عليها كي نركز تحقيقاتنا المستقبلية. لذلك يا ملازم اول اميت اريدك ان تذهب اليوم الى شقة المجني عليه بصحبة مترجم لتتحدث مع جميع افراد العائلة الثلاثة وتحاول ان تعرف اي شيء عن شخصية المجني عليه يزن.
اميت : حاضر.
ديفد : وانت يا ملازم اول جورج اطلب منك ان تتحدث مع سكان العمارات المجاورة لعمارة المجني عليه رقم 55.
جورج : حاضر سيدي.
ديفد : انتَ يا جاك بما انك خبير بالحواسيب فاريد منك ان تبحث بكل ما يتعلق بالكاتب نجيب فتح الله سليم وتحاول العثور على اي سوابق له خارج البلاد وداخل البلاد، إن كانت جناية او حتى جنحة بسيطة افهمت؟
اميت : فهمت سيدي.
ديفد : اما انتَ يا عمّار فاريدك ان تسافر مع زميلتك كورا الى مدينة برمنكهام وتتحدثان مع العائلة التي زارتها عائلة المجني عليه. بامكانكما الانطلاق غداً صباحاً لان الطريق قد يستغرق بضع ساعات.
عمّار : حاضر سيدي.
كورا : سنرحل غداً سيدي.
ديفد : والآن اريد ان اعلمكم جميعاً بان اي معلومة جديدة يجب ان تتشاركوا بها مع جميع اعضاء الفريق على الفور كي نتمكن من تكوين استنتاجات نوعية صحيحة تدفع التحقيق الى الامام. اما انا فسوف انطلق الآن الى مكتب النائب العام السيد ويلي كروفارد لاضعه في الصورة عن آخر مستجدات التحقيق. هيا اخرجوا.
وزع رئيس فريق التحقيق ديفد جميع المهام على اعضاء فريقه بكل الاتجاهات كي يتأكد من ان الكاتب نجيب فتح الله سليم سيكون هدفه في توجيه تهمة القتل.
هل سينجح رئيس فريق التحقيق ديفد كونَلي باقناع نائب المدعي العام بعد التشاور معه كي يصدر مذكرة القاء القبض على الكاتب نجيب فتح الله سليم والتحقيق معه بشكل مكثف، ام ان لديه افكار اخرى؟ وهل سيتضح لهم ان الكاتب العراقي نجيب هو القاتل الحقيقي للمجني عليه الطفل يزن؟ واذا كان كذلك فهل لديه ضحايا آخرين غيره بمكان آخر ببريطانيا او خارجها؟. سنعرف كل ذلك بالجزء الثاني والاخير من هذه القصة.
1098 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع