د. وَائِلْ اَلْقَيْسِي
حنانيك لا تنزعج من صباح الخير
كان والدي "رحمه الله" يقول ان (قلوب الرجال صناديق مقفلة) وان البيوت أسرار وان خلف الأبواب الموصدة تصنع الأقدار مالا يعلمه غير صانعها .
اتذكر تفاصيل الطفولة بحلوها ومرها ، وكيف تغيرت عندما كبرنا ، فهل نحن الذين هرمنا ام تراها الأخلاق قد هرمت...
كانت اغلب العوائل والبيوتات فقيرة الحال ، تجوع وربما تعرى ، يفزز أطفالها برد الشتاء القارص ، وترتجف اطرافهم... ربما يكون العشاء ضعيفا لا يكاد يسد الرمق مما يزيد الشعور بالبرد ، معاناة بين نوم تقطعه لسعات البرد وبعض جوع يتطاول فيه الليل حتى تصبح غاية الأمنيات ان ينبلج الصبح بانتظار الفطور ...
لكن ، كم كنا اغنياء واثرياء واورستقرلطيين ومترفين حد التخمة ، بدفئ حنان الوالدين وحرصهم وسطوتهم ، وكم كان جميلا ذاك التسلسل الهرمي في قواعد الاحترام بين الأشقاء ، وذلك الشعور بالمسؤولية الذي يعلمنا اياه الأب والأم والجيران والمدرسة والحارة والبيئة ، كان الأخ الكبير ابا عندما يغيب الوالد ، وكانت الشقيقات قناديل تضيئ البيوت ، ونجوم تطرز سماء العائلة ، حتى ان بعض اهل المنطق قالوا ان العقيم هو الذي لم ينجب البنات فهنَّ الغاليات المؤنسات ، دليلا على حنانهن وبرهنّ في الوالدين والاشقاء حتى الممات...
كان زمانا اذا مات في الحي شخص ، حزن عليه اهل الحي ، حتى انهم لا يفتحون جهاز التلفاز في بيوتهم ، تضامنا في مشاركة اهل الفقيد حزنهم ومواساتهم ...
كان زمانا اذا مرض جار او قريب عادوه ووقفوا إلى جانبه وشدّوا من ازره ...
كان زمانا اذا غاب احد الصحب او الأقارب والأحباب تفقدوه وسألوا عنه واعانوه دون أن يسألهم العون ...
كان زمانا يزور الصديق صديقه والجار جاره بلا مواعيد لان القلوب عند بعضها، مشرعة ابوابها، نقية في صدقها ، طاهرة أراوحها ...
كان زمانا بلا وسائل تواصل اجتماعي ولا مواعيد ، ولم تكن شبكة الأواصر الإجتماعية خارج التغطية بل كانت شبكة هذه العلاقات موفورة الشبكة على الدوام .
حتى جاء هذا الزمان ،
وأي زمان هذا الذي جاء؟!!
صارت فيه العوائل والبيوت مجرد عشّ كعش الطيور ، فور اكتمال ريشها تطير مغادرة وكناتها ، فيبقى العش خاويا كأعجاز نخل منقعر...
تكالبت علينا صروف الدهر ، فتشتت شملنا وتفرق جمعنا وتكسرت اشرعتنا ، وطحنتنا الغربة والوحدة طحنا ، ثم عجنتنا وجعلتنا في تنور الذكريات نحترق ونئن بصمت ، ونبكي احيانا بلا دموع .
صار بعضنا يسلي النفس بوصال افتراضي على وسائل بديلة ، نسميها جزافا ب "وسائل التواصل الاجتماعي" بينما الأصح ان تُسَمى "وسائل التباعد او التناطح الاجتماعي" .
عندما نُصَبِّح برسائلنا على الأهل والأصدقاء والصحب صباح كل يوم ، وبالرغم من إنها مجرد روتين يومي نمارسه على أرقام صماء ، لكنها ليست مجرد رسائل عادية بل هي نفحات ومكاتيب نبعث فيها ومن خلالها بعض أرواحنا وحنيننا وشوقنا ووفائنا واحتياجنا لمن نتواصل معهم حتى لو بتحية الصباح حسب .
لا تنزعجوا من رسائلنا الصباحية عليكم ولا تتثاقلوا من ردِّها حنانيكم ، فعندما تغيب هذه الإطلالة عنكم ويغيب صاحبها سيكون قد رحل ومات وفقدتموه إلى الأبد ...
أوصيكم اذا انقطعت عنكم رسائل الصباح ان تسارعوا للسؤال والإطمئنان فقد يكون قد رحل صاحبها مع الراحلين ولن يعود وعندها لا ينفع الندم .
إن التكبر والتعالي هو سبب كل ما نمُر به وتمر به مجتمعاتنا تحديدا ، دون غيرها من المجتمعات الأخرى ، من مشاكل اجتماعية وأزمات وهو ذنب يكاد ان يكون كالكفر ، فهو أول ذنب عصى فيه إبليس ربه عندما تكبر وأخذته العزة بالنفس وعصى امر ربه بالسجود لآدم فلعنه الله ، ﻗﺎﻝ ﺗﻌﺎﻟﻰ " ﻗَﺎﻝَ ﻣَﺎ ﻣَﻨَﻌَﻚَ ﺃَﻻَّ ﺗَﺴْﺠُﺪَ ﺇِﺫْ ﺃَﻣَﺮْﺗُﻚَ ﻗَﺎﻝَ ﺃَﻧَﺎْ ﺧَﻴْﺮٌ ﻣِّﻨْﻪُ ﺧَﻠَﻘْﺘَﻨِﻲ ﻣِﻦ ﻧَّﺎﺭٍ ﻭَﺧَﻠَﻘْﺘَﻪُ ﻣِﻦ ﻃِﻴﻦٍ" ﺍﻷﻋﺮﺍﻑ 12، والكِبَر والكفر يوصلان إلى بعضيهما أحيانا .
إن الكِبر سببا ليُطرد المرء من رحمة الله ، فما بالك إن كان الكِبَر والتعالي على أشخاص نحبهم ويهمنا أمرهم كالأهل والأقرباء والصحب.
وقد يدفعنا ذلك الإعتداد بالنفس إلى قطيعة الرحم التي ﺗﻮﻋّﺪ ﺍﻟﻠﻪ عز وجل ﻣﻦ يفعلها ﺑﺎﻟﻠﻌﻦ ﻭﺍﻟﻄﺮﺩ ﻣﻦ ﺭﺣﻤﺘﻪ ﻳﻘﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﺰ ﻭﺟﻞ "ﻓَﻬَﻞْ ﻋَﺴَﻴْﺘُﻢْ ﺇِﻥْ ﺗَﻮَﻟَّﻴْﺘُﻢْ ﺃَﻥْ ﺗُﻔْﺴِﺪُﻭﺍ ﻓِﻲ ﺍﻟْﺄَﺭْﺽِ ﻭَﺗُﻘَﻄِّﻌُﻮﺍ ﺃَﺭْﺣَﺎﻣَﻜُﻢْ ، ﺃُﻭﻟَﺌِﻚَ ﺍﻟَّﺬِﻳﻦَ ﻟَﻌَﻨَﻬُﻢُ ﺍﻟﻠَّﻪُ ﻓَﺄَﺻَﻤَّﻬُﻢْ ﻭَﺃَﻋْﻤَﻰ ﺃَﺑْﺼَﺎﺭَﻫُﻢْ" ﻣﺤﻤﺪ.
ألم نتعلم منذ الصِغَر الحديث النبوي القائل " افشوا السلام تحابوا " فما بالنا صرنا نجزع وننزعج من تحية الصباح؟!!
حنانيك لا تنزعج من صباح الخير
1112 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع