رؤيا ملجأ العامرية

حميد سعيد

رؤيا ملجأ العامرية

كُحلُها من رمادِ مَلجَأِ العامريَّةِ.. زينتُها من دمٍ
بهِ استبدَلَتْ فِراشها الوثيرَ..
إنَّ ملجأَ العامريَّةِ..
يَمنَحُها ما تشهَّت من رِياشِ الأباطرةِ المُترَفينَ..
لَحْماً مُحرَّقاً..
مَدَّت موائدَها لبغايا المعابِدِ
يَشكُرنَ ربَّ الجنودِ
وللبابليّاتِ وعدُ الحرائقِ..
يَنْزَعُ أثداءهُنَ ربُ الجنودِ
وللبابلياتِ وعدُ الحرائقِ..
تُقطِّعُ أرحامَهُنَ عواصِفُ سودٌ
وَلْتَكُنْ عاقِراً أنانا
ولتكُنْ عاقِراً كلّ أنثى
وللبابلياتِ وعدُ الحرائقِ
لا شجرٌ تتفيَّاُ ظِلَّهُ أنانا.. ولا ثَمَرٌ طيِّبُ
لا يمامٌ على النخيلِ .. ولا سمَكٌ في الفراتِ
دِناناً من الخمرِ أسقيكَ
ما زالَ في ملجأ العامرية طفلٌ تُحاصِرُهُ النارُ
فلتأكلُ النارُ أطرافَهُ
والذينَ احتموا بأناشيدِ أجدادِهمْ
ألقِهِمْ في جحيمِ مسرّاتنا ..
أنْ نرى الآخرينَ يموتونَِ جوعاً
وللبابلياتِ وعدُ الحرائقِ
من أرخبيلِ الوعودِ.. يُقبِلُ ربُّ الجنودِ
تَطيَّبنَ بالمُرِّ..
إنَّ البَخورْ .. وَدِنانَ الخُمورِ
تُثيرُ عواصِفَهُ والرعودْ
إِنَّ ربَّ الجنودْ
يَبحثُ في ملجأِ العامريَّةِ عن سِرِّ هذي البلادْ
عن فَتاها ووارثِ حكمتها..
عن أنانا الولودِ.. وامنحنَ من أطايبِ أجسادكنَّ
وبادِلنَها بأفاويهِ مسمومةٍ..
واضطجِعنَ معَ النارِ..
وانشدنَ في مأتم القرنفُلِ من إرثِ جداتكُنَّ..
مَزاميرَ أفراحِكُنَّ

وبادِلنَ شوكَ القبورِ بزهرِ الحبورِ
على جُدُرٍ ذوَّبَتها القنابلُ..
شاهدتُ رأسين من جورنيكا
وقَلباً وليمونةً ودُمىً..
ودفاتِرَ رسمٍ..
رأيتُ نساءً يُجَمِّعنَ أشلاءَ أطفالِهِنَّ
وطفلاً..
يُجَمِّعُ أشلاءه من مخالبِ ربِّ الجنودِ
رأيتُ جنيناً يَدِبُّ على الجمرِ
يبحثُ عن رَحِمٍ.. ورأيتُ بلاداً..
تُقيمُ الصلاةَ على مِزَقٍ من ثياب حرائرها
. . . . . .
. . . . . .
مَطَرٌ يتحجَّرُ في الطرقاتِ .. ندى أسودٌ
ونداءٌ تفحَّمَ في الروحِ..
كانَ المؤذِنُ يبكي..
وبغدادُ تحفرُ أسماءَ أطفالِها
في قبابِ مساجِدِها
وعيونُ المها هدفٌ للمُغيرينَ
ما عادَ بين الرصافة والكرخِ جسرٌ..
فَمَنْ يستطيعُ العبور؟
الصبايا يَردنَ الضفافَ لملء الجرارْ
والمَها تجلبُ الماءَ كي تُطفِئ النارَ
إن الهوى غائبٌ وبَعيدُ المَزارْ
للبابلياتِ وعدُ الحرائقِ
جاءَ الخسوفُ بأجنحةٍ من نحاسٍ
سقتهُ التنانينُ ما عتَّقتْ من ذرورِ
وما عصرت من خمورْ
بينَ فجرٍ على صفحَةٍ من مسلاّت روحي..
وهذا الفجورْ
مُدثنٌ تأكلُ اللهَ من جَشَعٍ..
سأمدُّ يَداً لبنيها المُضامينَ..
أُسمِعُهم ما قرأنا..
من النبأ المتجلي بغار حراءْ
لوعودِ السماءْ
زَمَنٌ قادِمٌ..
ولنا منه أبناؤنا وقصائدُ تأني..
لنا منهُ أحبابنا الفقراءْ
وأُمٌ تُبارِكُ من وُلِدوا في ظلال العواصِفِ..
في رحم الأرضِ
ما خبأت من كُنوزٍ ومن شَجَرٍ آمنين من الجوعِ والخوفِ
مُقبِلينَ على أوَّل الندى..
وبياضِ الصباحْ
***
أخرجينا من ملجأ العامريَّةِ..
أخلي معنا فراديسَ أيامِنا
وانقذي دمنا المطمئن إلى غَدِهِ
ما تبقى من جحيمٍ على مخالب ابِّ الجنودْ
خيمةٌ..
مداخلها أغلقتها الطواوبسُ..
هذي الطواويس..
عاريةٌ.. ريشُها يغطّي جذامَ موائدِهمْ
هل يعودُ الطليقُ إلى اسمه العربيَّ
وهل يذكرُ اللهَ..
في غَفلةٍ من عواصفِ سيَّدهِ
وهل تنزل الطمأنينةُ في روحهِ..
هل ْ..
***
أشُكُّ بكل القصائدِ
هل كانَ سقراطُ حقاً
وهل شاهدَ قاتلُ أطفالنا حُلُماً..
ذاتَ ليلةِ صيف
وهل ضمّت المتاحفُ أشجارَ ماتيس
هل كان موزارت طفلاً
أشكُّ بهذي الحضارةِ..
من زهرة الشمسِ حتى نساء أفينيون
من أذن فان كوخ حتى جنونِ دالي
***
ليس سوى متحف الشمع.. والشمع..
أو دم غارثيا لوركا..
وما قتلَ السيدُ الأبيضُ من بشَرٍ تتوالى الحروبُ
بارتْ قصائدُ رامبو..
وباعَ من الأمهرياتِ ما لم يبعهُ بباريسَ
كومون باريس أو بائعات الهوى
ورسائلُ أصحابِهِ
وبكاءُ مُحبيهِ
بارت قصائدُ رامبو..
وقايضها ساكِنُ الإليزيهْ
بأسواقَ تفتحُ أبوابها للسلاحِ الفرنسيِّ
ليس سوى متحف الشمعِ.. والشمعِ
ليسَ سوى صحفِ الفضائحِ .. والعدساتِ الخفيَّةِ..
والمُخبرينْ..
أشكُّ بكل الموائدِ.. بالخبزِ والفاكهةْ
لا شكسبير كانَ.. ولا ديدمونة..
ليسَ سوى ملجأ العامريَّة..
شاهدُنا حين تقضي العصورُ.. وشاهدُها
هو بعضُ النذورْ
. . . . . .
. . . . . .
نخلتانِ على ضفةِ الروحِ برحيتان
وثالثةٌ في الجِوارِ..
بينَ الفراتِ وآلائهِ تتوضَّأُ أم البنين..
تصلي..
وتَستقبِلُ الطلْعَ.. تومِئُ للعُشبِ..
يَتبعُها .. إنه حرمُ اللهِ من تالدٍ في الضفافِ
إلى ضائعٍ في الفيافي
فلا تقنَطي .. إن بابلَ مسكونةٌ بالوعودِ..
بابلُ مسكونةٌ بالوعودْ

7-1-1995

**********

شاعر .. شاهد على الحرائق التي تفترس الدنيا

الدكتور نجمان ياسين

مرة قلت عن الشاعر الحق حميد سعيد انه شاعر يغرد خارج السرب ولكنه يظل قريبا منه..وهاهو هذا الشاعر يقف على قمة الدنيا ويشهد على الحرائق التي تفترس روح الانسان في عصرنا الصديء..هاهو حميد سعيد يؤكد بمهارة مقولة سقراط التي قالت ان الشاعر كتلة نار أبدية التوهج.
ليس للمرء وهو يقرأ هذه القصيدة التي تكتب التاريخ الروحي الا ان يمسك قلبه وهو يشهق امام شهادة من اجمل واعمق شهادة شعرية تكشف وتفضح وتدين المتبجحين بحضارة الغرب..شهادة ذات مرجعيات معرفية ثرية تبرهن ان الشاعر الكبير مثقف كبير..اجل نحن امام شاعر جوال العقل يميز بذكاء بين ابداع الكبار ادبا وفنا وبين الساسة القتلة الذين يهرسون ورد الحدائق وينتهكون كل ماهو انساني..وشاعرنا اذ يفعل ذلك يتقن كيف يفصح عن الفكرة عبر الصورالشعرية التي تتناسل وتتوالد لتضعنا امام واحدة من اكبر جرائم الغرب ممثلة بمذبحة العامرية ..هذا هو الشاعر النبيل وهذا هو الشعر النبيل الذي يغني حميد سعيد فيه والسكين على الرقبة..يغني شاعرنا فيه وهو في حمأة الجحيم مدركا ان الأمل وردة بمقدورها أن تتفتح في قلب السعير..حقا ان الشاعر الطهور يحقق شرف الموقف الفكري وكبرياء الفن في الشعر تأكيدا لفكرة ان كل شاعر حقيقي يجلب معه قواعده الخاصة في الكتابة ..وحميد سعيد أتحفنا بواحدة من اعمق القصائد في شعرنا الحديث..تحية للمبدع صديقي واخي حميد سعيد الذي اوقفنا في قصيدته بين يدي مرحلة من مراحل جنون التاريخ..وأجج الشوق فينا لنعيد التوازن الى عالمنا..

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

509 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع