ترجمة وتعليق
اللواء الركن علاء الدين حسين مكي خماس
الطريق إلى الاستبداد الأمريكي
الاستبداد: ماذا يأتي بعد انهيار الديمقراطية
ستيفن ليفيتسكي ولوكاس أ. واي
11/ شباط -فبراير 2025
أدى انتخاب دونالد ترامب للرئاسة اول مرة في عام 2016 إلى تحفيز دفاع نشط عن الديمقراطية من قِبَل المؤسسة الأمريكية. ولكن عودته إلى السلطة قوبلت بلا مبالاة ملحوظة. فقد أصبح العديد من السياسيين والمحللين والشخصيات الإعلامية وقادة الأعمال الذين رأوا في ترامب تهديدًا للديمقراطية قبل ثماني سنوات يتعاملون مع تلك المخاوف على أنها مبالغ فيها - ففي النهاية، نجت الديمقراطية من فترة ولايته الأولى. في عام 2025، أصبح القلق بشأن مصير الديمقراطية الأمريكية أمرًا شبه عفا عليه الزمن.
التوقيت لهذا التغيير المزاجي لا يمكن أن يكون أسوأ، حيث إن الديمقراطية تواجه خطرًا أكبر اليوم أكثر من أي وقت مضى في التاريخ الحديث للولايات المتحدة. فقد تراجعت مرتبة أمريكا على مدى عقد من الزمن على مقياس الدول الديموقراطية : بين عامي 2014 و2021، خفضت منظمة "فريدوم هاوس" في مؤشر الحرية العالمي السنوي، الذي يقيّم جميع الدول على مقياس من صفر إلى 100، تصنيف الولايات المتحدة من 92 (متساوية مع فرنسا) إلى 83 (أقل من الأرجنتين ومتساوية مع بنما ورومانيا)، وما زالت في هذا المستوى.
فقد أصبحت الاجراء الدستورية التي تحد من الطغيان والتي كانت تعتبر مصدر فخر للبلاد تتجه نحو الفشل. فمثلا انتهك ترامب القاعدة الأساسية للديمقراطية عندما حاول إلغاء نتائج الانتخابات ومنع انتقال السلطة السلمي، ومع ذلك، لم يحاسبه لا الكونغرس ولا السلطة القضائية، بينما أعادت الحزب الجمهوري - بالرغم من محاولة الانقلاب - ترشيحه للرئاسة.
قاد ترامب حملة علنية استبدادية في عام 2024، تعهد فيها بملاحقة خصومه قضائيًا، ومعاقبة وسائل الإعلام المنتقدة، ونشر الجيش لقمع الاحتجاجات. ومع ذلك فقد فاز، وبفضل قرار استثنائي من المحكمة العليا، سيستمتع بحصانة رئاسية واسعة خلال فترته الثانية.
كانت الديمقراطية قد نجت من فترة ترامب الأولى لأنه لم يكن لديه خبرة أو خطة أو فريق. حيث لم يكن يسيطر على الحزب الجمهوري عندما تولى المنصب في عام 2017، وكان معظم قادة الجمهوريين لا يزالون ملتزمين بقواعد اللعبة الديمقراطية. وحكم ترامب آنذاك بالتعاون مع الجمهوريين التقليديين والتكنوقراط، الذين قيدوه وحددوا من سلطته إلى حد كبير. ولكن أي من هذه الأمور لم يعد قائما الآن. هذه المرة، أوضح ترامب أنه يعتزم الحكم مع الموالين له. فهو الآن يهيمن على الحزب الجمهوري، الذي تم تطهيره من القوى المعارضة لترامب وأصبح الحزب الآن يتقبل سلوك ترامب الاستبدادي. ومن المرجح أن تنهار الديمقراطية الأمريكية خلال فترة ترامب الثانية، بمعنى أنها ستتوقف عن تلبية المعايير القياسية للديمقراطية الليبرالية: حق الاقتراع الكامل للبالغين، والانتخابات الحرة والنزيهة، والحماية الشاملة للحريات المدنية.
مع ذلك فلن يؤدي انهيار الديمقراطية في الولايات المتحدة إلى قيام ديكتاتورية تقليدية يتم فيها تزوير الانتخابات وسجن المعارضة أو نفيها أو قتلها. وحتى في أسوأ السيناريوهات، فلن يتمكن ترامب من إعادة كتابة الدستور أو الإطاحة بالنظام الدستوري. حيث سيتم تقييده من قبل القضاة المستقلين، والنظام الفدرالي ، والجيش المهني في البلاد، والعوائق الكثيرة في إجراءات الإصلاح الدستوري. وستكون هناك انتخابات في عام 2028، وقد يخسر الجمهوريون فيها.
ونرى ان الاستبداد لا يتطلب تدمير النظام الدستوري. ان ما ينتظرنا ليس الفاشية أو ديكتاتورية الحزب الواحد، بل الاستبداد التنافسي competitive authoritarianism - وهو نظام تتنافس فيه الأحزاب في الانتخابات، لكن إساءة استخدام السلطة من قبل الحاكم تجعل الكفة تميل ضد المعارضة. وان معظم الأنظمة الاستبدادية التي ظهرت منذ نهاية الحرب الباردة تندرج تحت هذه الفئة، بما في ذلك بيرو تحت قيادة ألبرتو فوجيموري، وفنزويلا بقيادة هوغو تشافيز، والسلفادور والمجر والهند وتونس وتركيا المعاصرة. في ظل الاستبداد التنافسي، تظل البنية الرسمية للديمقراطية، بما في ذلك الانتخابات متعددة الأحزاب، قائمة. وتكون القوى المعارضة قانونية وعلنية، وتتنافس بجدية على السلطة. وغالبًا ما تكون الانتخابات معارك شرسة يضطر فيها الحكام إلى بذل جهود مظنية. وأحيانًا يخسر الحكام، كما حدث في ماليزيا عام 2018 وفي بولندا عام 2023. لكن النظام ليس ديمقراطيًا، لأن الحكام يزورون اللعبة باستخدام أجهزة الحكومة لمهاجمة الخصوم واستقطاب النقاد. نعم ، المنافسة حقيقية ولكنها غير عادلة.
سيؤدي الاستبداد التنافسي إلى تغيير الحياة السياسية في الولايات المتحدة. كما أوضحت سلسلة الأوامر التنفيذية المشكوك في دستوريتها التي أصدرها ترامب في وقت مبكر، وستزداد تكلفة المعارضة العلنية بشكل كبير: حيث قد يتعرض المتبرعون للحزب الديمقراطي للاستهداف من قبل دائرة الضرائب؛ وقد تواجه الشركات التي تمول مجموعات الحقوق المدنية تدقيقًا ضريبيًا وقانونيًا مشددًا أو تعثر مشاريعها بسبب الجهات التنظيمية. ومن المحتمل أن تواجه وسائل الإعلام المنتقدة دعاوى قضائية باهظة التكلفة أو إجراءات قانونية أخرى، بالإضافة إلى سياسات انتقامية ضد شركاتها الأم. نعم سيظل بإمكان الأمريكيين معارضة الحكومة، لكن المعارضة ستصبح أصعب وأكثر خطورة، مما قد يدفع العديد من النخب والمواطنين إلى تقرير أن النظال والمعارضة لا يستحقان العناء. ومع ذلك، قد يؤدي الفشل في المقاومة إلى تمكين الاستبداد—مع عواقب خطيرة ودائمة على الديمقراطية في العالم اجمع.
الدولة المسلحة THE WEAPONIZED STATE
قد تنتهك إدارة ترامب الثانية الحريات المدنية الأساسية بطرق تقوض الديمقراطية بشكل واضح. على سبيل المثال، قد يأمر الرئيس الجيش بإطلاق النار على المتظاهرين، كما أراد فعل ذلك خلال ولايته الأولى. كما يمكنه تنفيذ وعد حملته بإطلاق "أكبر عملية ترحيل في تاريخ أمريكا"، مستهدفًا ملايين الأشخاص في عملية مليئة بالانتهاكات، مما سيؤدي حتمًا إلى اعتقال آلاف المواطنين الأمريكيين عن طريق الخطأ .
لكن الكثير من الاستبداد القادم سيتخذ شكلًا أقل وضوحًا: مثل تسييس وتسليح البيروقراطية الحكومية ( الجهاز الإداري الحكومي) . الدول الحديثة هي كيانات قوية. توظف الحكومة الفيدرالية الأمريكية أكثر من مليوني شخص ولديها ميزانية سنوية تبلغ ما يقارب 7 تريليون دولار. يلعب المسؤولون الحكوميون دورًا حاسمًا في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فهم يحددون من يُحاكم على الجرائم، ومن تُدقق ضرائبه، ومتى وكيف تُطبق القوانين واللوائح، وأي المنظمات تحصل على وضع الإعفاء الضريبي، وأي الوكالات الخاصة تحصل على عقود اعتماد الجامعات، وأي الشركات تحصل على التراخيص المهمة، والتنازلات، والعقود، والإعانات، والإعفاءات الجمركية، والمساعدات المالية.
حتى في البلدان مثل الولايات المتحدة، التي لديها حكومات صغيرة نسبيًا وسياسات عدم التدخل، يخلق هذا النفوذ العديد من الفرص للقادة لمكافأة الحلفاء ومعاقبة الخصوم. لا تخلو أي ديمقراطية من مثل هذا التسييس بالكامل. لكن عندما تسلح الحكومات الدولة باستخدام سلطتها لحرمان المعارضة بشكل منهجي وإضعافها، فإنها تقوض الديمقراطية الليبرالية. وتصبح السياسة مثل مباراة كرة قدم يعمل فيها الحكام، وعمال الملعب، ومسؤولو النتائج لصالح فريق واحد لإلحاق الهزيمة بمنافسه.
لهذا السبب، تمتلك جميع الديمقراطيات الراسخة مجموعات معقدة من القوانين والقواعد والأعراف لمنع تسليح الدولة. وتشمل هذه المؤسسات القضاء المستقل، والبنوك المركزية، والهيئات الانتخابية، والخدمات المدنية التي تتمتع بحماية التوظيف. في الولايات المتحدة، أنشأ قانون بندلتون لعام 1883 خدمة مدنية مهنية تعتمد التوظيف فيها على الجدارة. ويُمنع الموظفون الفيدراليون من المشاركة في الحملات السياسية ولا يمكن فصلهم أو تخفيض رتبتهم لأسباب سياسية. وتتمتع الغالبية العظمى من الموظفين الفيدراليين البالغ عددهم أكثر من مليوني شخص بحماية الخدمة المدنية المشار اليها. وفي بداية الولاية الثانية لترامب، كان حوالي 4,000 فقط من هؤلاء موظفين معينين سياسيًا. كما طورت الولايات المتحدة مجموعة واسعة من القواعد والأعراف لمنع تسييس المؤسسات الحكومية الرئيسية. تشمل هذه القواعد الحصول على موافقة مجلس الشيوخ على التعيينات الرئاسية، وجعل فترة خدمة قضاة المحكمة العليا لمدى الحياة أي لايمكن عزلهم او استبدالهم الا بعد وفاتهم ، والامن الوظيفي لرئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي ( البنك المركزي الأمريكي) ، ومدة عشر سنوات لبقاء مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI في منصبه ، وخمس سنوات لمدير دائرة الإيرادات الداخلية IRS . كما يتم حماية القوات المسلحة من التسييس بواسطة ما وصفه الباحث القانوني ( زاكاري برايس) بأنه "طبقة كثيفة غير عادية من القوانين" التي تحكم تعيين وترقية وعزل الضباط العسكريين.
على الرغم من أن وزارة العدل، ومكتب التحقيقات الفيدرالي، ودائرة الإيرادات الداخلية كانت متسيّسة إلى حد ما حتى السبعينيات، إلا أن سلسلة من الإصلاحات التي أعقبت فضيحة ( ووترغيت ) أنهت فعليًا تسليح هذه المؤسسات لأغراض حزبية. وغالبًا ما يلعب الموظفون المدنيون المحترفون دورًا حاسمًا في مقاومة جهود الحكومة لتسليح الوكالات الحكومية بصلاحيات مبالغة وإجراءات إدارية وبيروقراطية مؤذية وكما سبق وشرحنا.
وفي السنوات الأخيرة، عمل هؤلاء الموظفون المدنيون غير المسيسون، كخط الدفاع الأول للديمقراطية في بلدان مثل البرازيل، والهند، وإسرائيل، والمكسيك، وبولندا، وكذلك في الولايات المتحدة خلال إدارة ترامب الأولى. ولهذا السبب، كانت إحدى التحركات الأولى التي قام بها الأوتوقراطيون المنتخبون مثل (نجيب بوكيلة) في السلفادور، و(تشافيز) في فنزويلا، و(فيكتور أوربان) في المجر، و(ناريندرا مودي) في الهند، و(رجب طيب أردوغان) في تركيا، هي تطهير وابعاد الموظفين المدنيين المحترفين من الوكالات العامة المسؤولة عن أشياء مثل التحقيق في المخالفات ومقاضاتها، وتنظيم الإعلام والاقتصاد، والإشراف على الانتخابات، واستبدالهم بالموالين. فمثلا بعد أن أصبح أوربان رئيسًا للوزراء في المجر عام 2010، جردت حكومته الموظفين العموميين من حماية الخدمة المدنية الأساسية، وفصلت الآلاف، واستبدلتهم بأعضاء موالين لحزب (فيدس) الحاكم. وبالمثل، أضعفت حزب القانون والعدالة في بولندا قوانين الخدمة المدنية من خلال إلغاء عملية التوظيف التنافسية وملء المناصب الإدارية (البيروقراطية) والقضاء والجيش بحلفاء حزبيين.
ومن الجدير بالذكر ان لدى ترامب وحلفاؤه خطط مشابهة. على سبيل المثال، أعاد ترامب إحياء جهوده التي بذلها في فترته الأولى لإضعاف الخدمة المدنية من خلال إعادة "الجدول F"، وهو أمر تنفيذي يسمح للرئيس باستثناء عشرات الآلاف من موظفي الحكومة من حماية الخدمة المدنية في الوظائف التي تعتبر "ذات طابع سري، أو تحدد السياسات، أو تصنع السياسات، أو تدعو لها". إذا تم تنفيذ هذا المرسوم، فسيحول عشرات الآلاف من الموظفين المدنيين إلى موظفين "يمكن فصلهم" بسهولة واستبدالهم بحلفاء سياسيين.
عدد التعيينات الحزبية، الذي يعد بالفعل أعلى في الحكومة الأمريكية من معظم الديمقراطيات الراسخة، يمكن أن يزيد أكثر من عشرة أضعاف. لقد أنفقت مؤسسة التراث ومجموعات يمينية أخرى ملايين الدولارات لتجنيد وتقييم جيش يصل إلى 54,000 من الموالين لملء المناصب الحكومية. وقد تؤدي هذه التغييرات إلى تأثير أوسع يثني المسؤولين الحكوميين عن التشكيك في الرئيس. وأخيرًا، أدى إعلان ترامب بأنه سيقيل مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI، كريستوفر راي، ومدير دائرة الإيرادات الداخلية ISR داني ويرفل، قبل نهاية فتراتهم إلى استقالتهما، مما مهد الطريق لاستبدالهما بموالين قليل الخبرة في وكالاتهم.
وبمجرد أن تُملأ الوكالات الرئيسية مثل وزارة العدل، ومكتب التحقيقات الفيدرالي، ودائرة الإيرادات الداخلية بالموالين، فسوف تتمكن الحكومات استخدامها لتحقيق ثلاثة أهداف معادية للديمقراطية: التحقيق مع الخصوم وملاحقتهم قضائيًا، استقطاب المجتمع المدني، وحماية الحلفاء من الملاحقة القضائية.
الصدمة والقانون SHOCK AND LAW
من أكثر الوسائل وضوحًا لتسليح الدولة بالصلاحيات الواسعة هي من خلال الملاحقات القضائية المستهدفة. ان جميع الحكومات الأوتوقراطية المنتخبة تقريبًا، تقوم باستخدام وزارات العدل، ومكاتب النيابة العامة، ووكالات الضرائب والاستخبارات للتحقيق مع السياسيين المنافسين وملاحقتهم قضائيًا، بالإضافة إلى استهداف شركات الإعلام، والمحررين، والصحفيين، وقادة الأعمال، والجامعات، وغيرهم من النقاد. في الديكتاتوريات التقليدية، غالبًا ما يتم اتهام النقاد بجرائم مثل التحريض أو الخيانة أو التخطيط للتمرد، لكن الأوتوقراطيين المعاصرين يميلون إلى ملاحقة النقاد بتهم أكثر اعتيادية، مثل الفساد، والتهرب الضريبي، والتشهير، وحتى انتهاكات طفيفة لقواعد غامضة نادرًا ما تُنفذ. إذا بحث المحققون بما فيه الكفاية، يمكنهم عادة العثور على مخالفات بسيطة مثل دخل غير مُبلغ عنه في الإقرارات الضريبية أو عدم الامتثال للوائح غير مفروضة عادةً.
وقد أعلن ترامب مرارًا عن نيته ملاحقة خصومه قضائيًا، بما في ذلك النائبة الجمهورية السابقة (ليز تشيني) وأعضاء آخرين في اللجنة النيابية التي حققت في هجوم 6 يناير 2021 على مبنى الكابيتول الأمريكي. وفي ديسمبر 2024، دعا الجمهوريون في مجلس النواب إلى تحقيق من مكتب التحقيقات الفيدرالي مع ليز تشيني. وقد أُحبطت جهود إدارة ترامب الأولى لتسليح( بالمعنى الذي اشرنا اليه) وزارة العدل إلى حد كبير من الداخل، ولهذا السبب سعى ترامب هذه المرة إلى تعيين أشخاص يشاركونه هدفه في ملاحقة أعدائه المزعومين. وقد أعلنت مرشحه ترامب لمنصب المدعي العام، ( بام بوندي) أن "المدعين العامين االذين لاحقوا ترامب سيُلاحقون قضائيًا"، كذلك فان من اختاره لمنصب مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI، كاش باتيل، دعا مرارًا إلى ملاحقة خصوم ترامب قضائيًا. وكان باتيل قد نشر في عام 2023، كتابًا يحتوي على "قائمة أعداء" من المسؤولين العموميين المستهدفين.
ولأن إدارة ترامب لن تتمكن من السيطرة على المحاكم، فإن معظم المستهدفين من الملاحقات القضائية الانتقائية لن ينتهي بهم الأمر في السجن. لكن الحكومة ليست بحاجة إلى سجن منتقديها لإلحاق الضرر بهم. حيث سيتعين على المستهدفين من التحقيقات أن يكرسوا وقتًا وجهدًا وموارد كبيرة للدفاع عن أنفسهم؛ وسينفقون مدخراتهم على المحامين، وستتعطل حياتهم، وستتأثر مسيراتهم المهنية، وستتعرض سمعتهم للتشويه. وعلى الأقل، سيعانون هم وعائلاتهم من أشهر أو سنوات من القلق والليالي التي لا ينامون فيها.
ولن تقتصر جهود ترامب لاستخدام الوكالات الحكومية لمضايقة خصومه على استخدام وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالي. بل يمكن استخدام مجموعة متنوعة من الوزارات والوكالات الأخرى ضد النقاد. على سبيل المثال، تستخدم الحكومات الأوتوقراطية بانتظام سلطات الضرائب لاستهداف المعارضين من خلال تحقيقات ذات دوافع سياسية. ففي تركيا مثلا ، دمرت حكومة أردوغان مجموعة "دوغان يايين" الإعلامية، التي كانت صحفها وشبكاتها التلفزيونية تُبلغ عن فساد الحكومة، من خلال اتهامها بالتهرب الضريبي وفرض غرامة باهظة قدرها 2.5 مليار دولار أجبرت عائلة دوغان على بيع إمبراطوريتها الإعلامية لمقربين من الحكومة. كما استخدم أردوغان عمليات تدقيق ضريبية للضغط على مجموعة "كوش"، وهي أكبر تكتل صناعي في تركيا، للتخلي عن دعمها للأحزاب المعارضة.
ويجدر بالذكر هنا القول ان بإمكان إدارة ترامب استخدام سلطات الضرائب ضد المنتقدين. وقد سبق وقامت إدارات كينيدي وجونسون ونيكسون جميعها بتسييس مصلحة الضرائب الأمريكية قبل فضيحة ووترغيت في السبعينيات التي أدت إلى إصلاحات. يمكن أن يؤدي تزايد اعداد الموظفين المعينين من الموالين سياسيا إلى إضعاف تلك الضمانات، مما يجعل المتبرعين الديمقراطيين في مرمى النيران. وبما أن جميع التبرعات الفردية للحملات تُفصح علنًا، سيكون من السهل على إدارة ترامب تحديد واستهداف هؤلاء المتبرعين؛ بل إن الخوف من مثل هذا الاستهداف قد يثني الأفراد عن التبرع للسياسيين المعارضين من الأساس.
وقد يتم تسييس حالة الإعفاء الضريبي أيضًا. فمثلا ، عمل ريتشارد نيكسون عندما كان رئيساً على رفض أو تأخير منح حالة الإعفاء الضريبي للمنظمات ومراكز الأبحاث التي اعتبرها معادية سياسيًا. وكذل تحت حكم ترامب، يمكن تسهيل مثل هذه الجهود بفضل تشريع مكافحة الإرهاب الذي أقره مجلس النواب في نوفمبر 2024، والذي يمنح وزارة الخزانة سلطة سحب حالة الإعفاء الضريبي من أي منظمة تشتبه في دعمها للإرهاب دون الحاجة إلى الكشف عن أدلة تبرر هذا الإجراء. ونظرًا لأنه يمكن تعريف "دعم الإرهاب" بشكل واسع جدًا، قد يستخدم ترامب، وفقًا لكلمات النائب الديمقراطي لويد دوجيت، هذا التشريع "كسيف ضد أولئك الذين يعتبرهم أعداءه السياسيين".
ومن الؤكد تقريبا ان تستخدم إدارة ترامب وزارة التعليم ضد الجامعات، التي تُعتبر مراكز للنشاط المعارض وتستهدفها عادةً الحكومات الاستبدادية التنافسية. ان وزارة التعليم توزع مليارات الدولارات من التمويل الفيدرالي الى الجامعات، وتشرف على الوكالات المسؤولة عن اعتماد الكليات، وتفرض الامتثال لقوانين الباب السادس والباب التاسع، التي تحظر على المؤسسات التعليمية التمييز على أساس العرق أو اللون أو الأصل القومي أو الجنس. وعلى الرغم من أن هذه الصلاحيات نادرًا ما تم تسييسها في الماضي، فقد دعا قادة جمهوريون إلى استخدامها ضد المدارس النخبوية.
كذلك، يستخدم الأوتوقراطيون المنتخبون بانتظام دعاوى التشهير وأشكالًا أخرى من الإجراءات القانونية لإسكات منتقديهم في وسائل الإعلام. فعلى سبيل المثال، في الإكوادور عام 2011، فاز الرئيس (رافائيل كوريا) بدعوى قضائية بقيمة 40 مليون دولار ضد صحفي كاتب عمود وثلاثة مدراء في صحيفة رائدة لنشرهم افتتاحية وصفته بـ"الديكتاتور". وعلى الرغم من أن الشخصيات العامة نادرًا ما تفوز بمثل هذه الدعاوى في الولايات المتحدة، فقد استخدم ترامب مجموعة متنوعة من الإجراءات القانونية لإضعاف وسائل الإعلام، مستهدفًا ABC News، وCBS News، وThe Des Moines Register، وSimon & Schuster. وقد أثمرت استراتيجيته بالفعل. حيث اتخذت ABC في ديسمبر 2024، قرارًا صادمًا بتسوية دعوى تشهير رفعها ترامب، حيث دفعوا له 15 مليون دولار لتجنب محاكمة كان من المرجح أن ينتصروا فيها. وأفادت التقارير أن مالكي CBS يفكرون أيضًا في تسوية دعوى أخرى رفعها ترامب، مما يظهر كيف يمكن للإجراءات القانونية الباطلة أن تكون فعالة سياسيًا.
لا تحتاج الإدارة إلى استهداف جميع منتقديها مباشرة لإسكات معظم المعارضة. قد تكفي شن بضع هجمات بارزة لتكون بمثابة رادع فعال. فالإجراءات القانونية ضد (ليز تشيني) ستجذب اهتمام السياسيين الآخرين، ودعوى قضائية ضد صحيفة نيويورك تايمز أو جامعة هارفارد سيكون لها تأثير مخيف على عشرات وسائل الإعلام أو الجامعات الأخرى.
فخ العسل HONEY TRAP
الدولة المُسلحة بالصلاحيات الاستثنائية ليست مجرد أداة لمعاقبة الخصوم؛ بل يمكن أيضًا استخدامها لكسب الدعم. تستخدم الحكومات في الأنظمة الاستبدادية التنافسية سياسات اقتصادية وقرارات تنظيمية بشكل روتيني لمكافأة الأفراد والشركات والمنظمات الصديقة سياسيًا. يمكن لقادة الأعمال، وشركات الإعلام، والجامعات، والمنظمات الأخرى أن يكسبوا بقدر ما يمكنهم أن يخسروا من قرارات مكافحة الاحتكار، وإصدار التصاريح والتراخيص، ومنح العقود والتنازلات الحكومية، وإعفاء اللوائح أو الرسوم الجمركية، ومنح حالة الإعفاء الضريبي. وإذا اعتقدوا أن هذه القرارات تُتخذ بناءً على أسس سياسية بدلاً من أسس تقنية، فسيكون لديهم حافز قوي للانحياز إلى الحاكمين الحاليين.
ويظهر احتمال الاستمالة بشكل أوضح في قطاع الأعمال. اذ تعتمد الشركات الأمريكية الكبرى بشكل كبير على قرارات الحكومة الأمريكية المتعلقة بمكافحة الاحتكار، والرسوم الجمركية، واللوائح التنظيمية، وكذلك على منح العقود الحكومية. (في عام 2023، أنفقت الحكومة الفيدرالية أكثر من 750 مليار دولار، أي ما يقارب 3% من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، على منح العقود). وبالنسبة للطامحين إلى الحكم الاستبدادي، يمكن أن تكون القرارات السياسية والتنظيمية أدوات قوية لجذب دعم قطاع الأعمال.
هذا النوع من المنطق التوريثي ساعد الحكام المستبدين في المجر وروسيا وتركيا على تأمين التعاون من القطاع الخاص. وإذا أرسل ترامب إشارات موثوقة بأنه سيتصرف بطريقة مماثلة، فستكون العواقب السياسية بعيدة المدى. وإذا اقتنع قادة الأعمال أن من الأكثر ربحية الامتناع عن تمويل مرشحي المعارضة أو الاستثمار في وسائل الإعلام المستقلة، فإنهم سيغيرون سلوكهم. بل ان سلوكهم في الواقع، بدأ بالفعل في التغير. وقد وصفت الصحفية كاتبة العمود في نيويورك تايمز، ميشيل غولدبيرغ، ذلك التغير بـ"الاستسلام العظيم"، the Great Capitulation حيث بدأ المديرون التنفيذيون الأقوياء الذين كانوا ينتقدون في السابق سلوك ترامب الاستبدادي بالاندفاع للقاءه، ومدحه، ومنحه المال. وتبرعت مؤسسات أمازون، وغوغل، وميتا، ومايكروسوفت، وتويوتا بمليون دولار لكل منها لتمويل تنصيب ترامب، وهو أكثر من ضعف تبرعاتها السابقة لتنصيبه.
وفي أوائل يناير، أعلنت شركة ميتا أنها ستتخلى عن عمليات التحقق من الحقائق الخاصة بها—خطوة تفاخر ترامب بأنها "ربما" جاءت نتيجة تهديداته باتخاذ إجراءات قانونية ضد مالك ميتا، مارك زوكربيرغ . وقد اعترف ترامب نفسه بأنه في ولايته الأولى كان "الجميع يقاتلونني"، أما الآن "الجميع يريد أن يكون صديقي".
وبدأ نمط مشابه يظهر في قطاع الإعلام. حيث تمتلك معظم وسائل الإعلام الرئيسية في الولايات المتحدة—ABC وCBS وCNN وNBC وواشنطن بوست—شركات أم أكبر تديرها. وعلى الرغم من أن ترامب لا يمكنه تنفيذ تهديده بسحب تراخيص الشبكات التلفزيونية الوطنية لأنها ليست مرخصة على المستوى الوطني، فإنه يمكنه الضغط على وسائل الإعلام عن طريق الضغط على الشركات الأم المالكة لها. فعلى سبيل المثال، تُدار صحيفة واشنطن بوست بواسطة (جيف بيزوس) ، الذي تنافس شركته الكبرى، (أمازون)، على عقود فيدرالية كبيرة. وبالمثل، يمتلك صحيفة لوس أنجلوس تايمز (باتريك سون شيونغ) ، الذي يبيع منتجات طبية تخضع لمراجعة إدارة الغذاء والدواء. وقبيل الانتخابات الرئاسية لعام 2024، قام كلا الرجلين بإلغاء خطط صحفهما لدعم (كامالا هاريس).
نظام الحماية PROTECTION RACKET
أخيرًا، يمكن أن تخدم الدولة المُسلحة كدرع قانوني لحماية المسؤولين الحكوميين أو الحلفاء الذين ينخرطون في سلوك مناهض للديمقراطية. على سبيل المثال، قد تتغاضى وزارة عدل موالية عن أعمال العنف السياسي المؤيدة لترامب، مثل الهجمات على الصحفيين، ومسؤولي الانتخابات، والمتظاهرين، أو السياسيين والنشطاء المعارضين، أو التهديدات ضدهم. كما يمكن أن ترفض التحقيق مع مؤيدي ترامب في محاولات لترهيب الناخبين أو حتى التلاعب بنتائج الانتخابات.
حدث هذا من قبل في الولايات المتحدة. فخلال فترة إعادة الإعمار وما بعدها، شنّت جماعة كو كلوكس كلان ومجموعات مسلحة بيضاء أخرى متحالفة مع الحزب الديمقراطي حملات إرهابية عنيفة في جميع أنحاء الجنوب. قاموا باغتيال سياسيين سود وجمهوريين، وإحراق منازل السود وأعمالهم وكنائسهم، وارتكاب تزوير انتخابي، وتهديد وضرب وقتل المواطنين السود الذين حاولوا التصويت. هذه الموجة من الإرهاب، التي ساهمت في ترسيخ قرابة قرن من حكم الحزب الواحد في الجنوب، كانت ممكنة بفضل تواطؤ السلطات المحلية والولائية، التي كانت تتغاضى عن العنف بشكل روتيني وتفشل في محاسبة مرتكبيه بشكل منهجي.
شهدت الولايات المتحدة ارتفاعًا ملحوظًا في العنف اليميني المتطرف خلال إدارة ترامب الأولى. زادت التهديدات ضد أعضاء الكونغرس بأكثر من عشرة أضعاف. وكانت لهذه التهديدات عواقب: وفقًا للسيناتور الجمهوري ميت رومني، فإن الخوف من عنف مؤيدي ترامب ردع بعض أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين عن التصويت لإقالة ترامب بعد هجوم 6 يناير 2021.
ووفقًا لمعظم المعايير، انخفض العنف السياسي بعد يناير 2021، ويرجع ذلك جزئيًا إلى إدانة وسجن مئات المشاركين في هجوم 6 يناير. لكن عفو ترامب عن جميع المتورطين تقريبًا في التمرد عند عودته إلى السلطة أرسل رسالة مفادها أن الفاعلين العنيفين أو المناهضين للديمقراطية سيحظون بحماية تحت إدارته. مثل هذه الإشارات تشجع التطرف العنيف، مما يعني أنه خلال الولاية الثانية لترامب، من المرجح أن يواجه منتقدو الحكومة والصحفيون المستقلون تهديدات أكثر تواترًا وهجمات صريحة.
ان هذا كله ليس جديدًا تمامًا بالنسبة للولايات المتحدة. فقد سبق للرؤساء أن سلّحوا الوكالات الحكومية من قبل. على سبيل المثال، استخدم مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI ، ج. إدغار هوفر، الوكالة كسلاح سياسي لصالح ستة رؤساء خدمهم. كما استخدمت إدارة نيكسون وزارة العدل ووكالات أخرى ضد "الأعداء" المفترضين.
ولكن الفترة المعاصرة تختلف بطرق مهمة. أولًا، ارتفعت المعايير الديمقراطية العالمية بشكل ملحوظ. ووفقًا لأي مقياس معاصر، كانت الولايات المتحدة أقل ديمقراطية في الخمسينيات مما هي عليه اليوم. ان العودة إلى ممارسات منتصف القرن العشرين بحد ذاتها ستشكل تراجعًا كبيرًا في الديمقراطية. بل الأهم من ذلك، فأن تسليح الحكومة القادم بالصلاحيات الواسعة ، من المرجح أن يتجاوز بكثير ممارسات منتصف القرن العشرين. قبل خمسين عامًا، كان الحزبان الرئيسيان في الولايات المتحدة متنوعين داخليًا، معتدلين نسبيًا، وملتزمين على نطاق واسع بقواعد اللعبة الديمقراطية. اما اليوم، فقد أصبحت هذه الأحزاب أكثر استقطابًا، وتخلّى الحزب الجمهوري الراديكالي عن التزامه طويل الأمد بالقواعد الديمقراطية الأساسية، بما في ذلك قبول الهزيمة الانتخابية والرفض الواضح للعنف. علاوة على ذلك، يتبنى جزء كبير من الحزب الجمهوري الآن فكرة أن مؤسسات أمريكا، من البيروقراطية الفيدرالية والمدارس العامة إلى وسائل الإعلام والجامعات الخاصة، قد أفسدتها أيديولوجيات اليسار. وهذا يتماشى مع ما يلاحظ في الحركات الاستبدادية التي غالبًا ما تتبنى فكرة أن مؤسسات بلادها قد تم تخريبها من قبل أعداء؛ ان القادة المستبدون مثل أردوغان وأوربان ونيكولاس مادورو في فنزويلا يروجون بشكل روتيني لمثل هذه الادعاءات.
ان هذا المنظور العالمي يبرر—بل ويحفز—نوع التطهير والهيمنة الذي يعد به ترامب. وبينما عمل نيكسون بشكل سري على تسليح الدولة وواجه معارضة من الجمهوريين عندما ظهرت تصرفاته للعلن، فإن الحزب الجمهوري يشجع اليوم علنًا مثل هذه الانتهاكات. وأصبح تسليح الدولة بالصلاحيات الواسعة والإجراءات القسرية، استراتيجية جمهورية. ان الحزب الذي كان يتبنى ذات مرة قول الرئيس رونالد ريغان بأن "الحكومة هي المشكلة"، يحتضن الآن بحماس الحكومة كسلاح سياسي. وقد تعلم الجمهوريون استخدام السلطة التنفيذية بهذه الطريقة من( أوربان ) المجري . لقد علم أوربان جيلًا من المحافظين بأن الدولة يجب ألا تُفكك، بل تُستخدم لتعزيز القضايا اليمينية ضد الخصوم.
لهذا السبب أصبحت المجر الصغيرة نموذجًا للعديد من مؤيدي ترامب. ان تسليح الدولة ليس ميزة جديدة في الفلسفة المحافظة—بل هو سمة قديمة للاستبداد.
المناعة الطبيعية NATURAL IMMUNITY
قد تؤدي إدارة ترامب إلى تقويض الديمقراطية، لكنها من غير المحتمل أن ترسخ الحكم الاستبدادي بشكل كامل. فالولايات المتحدة تمتلك عدة مصادر محتملة للصمود. على سبيل المثال، المؤسسات الأمريكية أقوى من تلك الموجودة في المجر وتركيا ودول أخرى ذات أنظمة استبدادية تنافسية. وجود قضاء مستقل، وفيدرالية، ونظام برلماني بمجلسين، وانتخابات نصفية—وهي عناصر غير موجودة في المجر، على سبيل المثال— ان هذه المؤسسات من المرجح أن تتمكن ان تحد من مدى استبدادية ترامب.
كما ان ترامب ، أضعف سياسيًا من العديد من الأوتوقراطيين المنتخبين الناجحين. عادة ما يقوم القادة الاستبداديون بأكبر قدر من الضرر عندما يتمتعون بدعم شعبي واسع: فقد حظي بوكيلي، وتشافيز، وفوجيموري، وفلاديمير بوتين من روسيا بتأييد تجاوز 80% عندما قاموا بتحركات لتعزيز سلطتهم الاستبدادية. هذا الدعم الشعبي الساحق يساعد القادة في الحصول على الأغلبية التشريعية الكبرى أو الانتصارات الكاسحة في الاستفتاءات اللازمة لفرض إصلاحات ترسخ الحكم الاستبدادي. كما أنه يساعد في ردع التحديات من الخصوم داخل الحزب، والقضاة، وحتى من معظم المعارضة.
وفي المقابل، القادة الأقل شعبية يواجهون مقاومة أكبر من الهيئات التشريعية، والمحاكم، والمجتمع المدني، وحتى من حلفائهم. وبالتالي، فمن المرجح أن تفشل محاولاتهم للاستيلاء على السلطة. الرئيس البيروفي بيدرو كاستيو والرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول، على سبيل المثال، كانت نسبة تأييدهم أقل من 30% عندما حاولوا الاستيلاء على السلطة بطرق غير دستورية، وفشلا كلاهما. وكان معدل تأييد الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو أقل بكثير من 50% عندما حاول تنظيم انقلاب لإلغاء نتائج الانتخابات الرئاسية في بلاده لعام 2022. وقد هُزم أيضًا وأُجبر على مغادرة المنصب.
اما بالنسبة لترامب فلم يتجاوز معدل التأييد 50% خلال ولايته الأولى، ومن المحتمل أن يؤدي مزيج من عدم الكفاءة، والتجاوزات، والسياسات غير الشعبية، والاستقطاب الحزبي إلى تقليص دعمه خلال ولايته الثانية. ان القائد المستبد المنتخب الذي يتمتع بنسبة تأييد تبلغ 45% يشكل خطرًا، لكنه أقل خطورة من الذي يتمتع بدعم 80%..
المصدر الاخر للصمود الديوقراطي هو المجتمع المدني . وأحد الأسباب الرئيسية لاستقرار الديمقراطيات الغنية هو أن التنمية الرأسمالية تعمل على تشتيت الموارد البشرية والمالية والتنظيمية بعيدًا عن الدولة، مما يخلق قوة موازية في المجتمع. فلا يمكن للثروة أن تعزل القطاع الخاص بالكامل عن الضغوط التي تفرضها الدولة المُسلحة. لكن كلما كان القطاع الخاص أكبر وأغنى، أصبح من الصعب السيطرة عليه بالكامل أو إجباره على الخضوع. بالإضافة إلى ذلك، يتمتع المواطنون الأثرياء بمزيد من الوقت والمهارات والموارد للانضمام إلى منظمات مدنية أو معارضة أو إنشائها. وبسبب اعتمادهم الأقل على الدولة في معيشتهم مقارنة بالمواطنين الفقراء، فإنهم في وضع أفضل للاحتجاج أو التصويت ضد الحكومة. وبالمقارنة مع الأنظمة الاستبدادية التنافسية الأخرى، فإن قوى المعارضة في الولايات المتحدة منظمة جيدًا، وممولة جيدًا، وقادرة على المنافسة الانتخابية، مما يجعل من الصعب استقطابها أو قمعها أو هزيمتها في صناديق الاقتراع.
لذلك، ستكون المعارضة الأمريكية أصعب تهميشًا مما كانت عليه في دول مثل السلفادور، والمجر، وتركيا.
ثغرات في الدرع CHINKS IN THE ARMOR
حتى لو كان هناك مجرد ميل بسيط لتهيئة الساحة السياسية لصالح جهة ما، فقد يؤدي ذلك إلى شل الديمقراطية الأمريكية. تتطلب الديمقراطية معارضة قوية، وهذه المعارضة القوية تحتاج إلى قاعدة كبيرة ومتجددة من السياسيين، والنشطاء، والمحامين، والخبراء، والمتبرعين، والصحفيين.
ان الدولة المسلحة بالصلاحيات الكبيرة تهدد هذه المعارضة. وعلى الرغم من أن منتقدي ترامب لن يتم سجنهم أو نفيهم أو حظرهم من السياسة، إلا أن التكلفة المتزايدة للمعارضة العلنية ستؤدي بالكثير منهم إلى الانسحاب من الساحة السياسية. في مواجهة تحقيقات من مكتب التحقيقات الفيدرالي، أو تدقيقات ضريبية، أو جلسات استماع في الكونغرس، أو دعاوى قضائية، أو مضايقات عبر الإنترنت، أو احتمال فقدان فرص عمل، قد يقرر العديد من الأشخاص الذين يعارضون الحكومة عادة أن المخاطرة أو الجهد لا يستحق العناء.
هذا الانسحاب الذاتي قد لا يجذب الكثير من الانتباه العام، لكنه يمكن أن يكون ذا تأثير كبير. في مواجهة التحقيقات الوشيكة، ينسحب السياسيون الواعدون—سواء كانوا جمهوريين أو ديمقراطيين—من الحياة العامة. يتوقف المديرون التنفيذيون الذين يسعون للحصول على عقود حكومية أو إعفاءات جمركية أو قرارات مكافحة احتكار مفضلة عن التبرع لمرشحي الحزب الديمقراطي، أو تمويل مبادرات الحقوق المدنية أو الديمقراطية، أو الاستثمار في وسائل الإعلام المستقلة. المؤسسات الإعلامية التي يخشى مالكوها من الدعاوى القضائية أو مضايقات الحكومة تقيد فرقها الاستقصائية وصحفييها الأكثر جرأة. يفرض المحررون الرقابة الذاتية، ويخففون العناوين، ويختارون عدم نشر قصص تنتقد الحكومة. ويقوم قادة الجامعات الذين يخشون التحقيقات الحكومية، أو تقليص التمويل، أو الضرائب العقابية على الوقف باتخاذ إجراءات صارمة ضد الاحتجاجات في الحرم الجامعي، أو إزالة أو تخفيض مكانة الأساتذة الصريحين، أو التزام الصمت في مواجهة الاستبداد المتزايد.
ان الدول المسلحة تخلق مشكلة عمل جماعي صعبة للنخب السياسية التي، من الناحية النظرية، تفضل الديمقراطية على الاستبداد التنافسي. السياسيون، والمديرون التنفيذيون، ومالكو وسائل الإعلام، ورؤساء الجامعات الذين يعدلون سلوكهم في مواجهة التهديدات الاستبدادية يتصرفون بعقلانية، حيث يفعلون ما يرونه الأفضل لمؤسساتهم من خلال حماية المساهمين أو تجنب الدعاوى القضائية المدمرة أو الرسوم الجمركية أو الضرائب. لكن مثل هذه الأفعال للحفاظ على الذات تأتي بتكلفة جماعية. عندما ينسحب الأفراد إلى الهامش أو يفرضون الرقابة الذاتية، فتضعف المعارضة المجتمعية. ويصبح المشهد الإعلامي أقل نقدًا. وينخفض الضغط على الحكومة الاستبدادية. قد يكون استنزاف المعارضة المجتمعية أسوأ مما يبدو. يمكننا أن نلاحظ عندما ينسحب اللاعبون الرئيسيون—عندما يتقاعد السياسيون، أو يستقيل رؤساء الجامعات، أو تغير وسائل الإعلام برامجها وموظفيها. ولكن من الصعب رؤية المعارضة التي ربما ظهرت في بيئة أقل تهديدًا لكنها لم تتجسد أبدًا—المحامون الشباب الذين يقررون عدم الترشح للمنصب؛ الكتاب الطموحون الذين يقررون عدم أن يصبحوا صحفيين؛ المبلغون المحتملون الذين يقررون عدم الكشف عن المخالفات؛ والمواطنون الذين يقررون عدم الانضمام إلى احتجاج أو التطوع في حملة.
البقاء في المواجهة HOLD THE LINE
أمريكا على وشك الدخول في مرحلة من الاستبداد التنافسي. بدأت إدارة ترامب بالفعل في تسليح المؤسسات الحكومية واستخدامها ضد الخصوم. الدستور وحده لا يمكنه إنقاذ الديمقراطية الأمريكية. حتى أفضل الدساتير تصميمًا تحتوي على غموض وثغرات يمكن استغلالها لأغراض مناهضة للديمقراطية. في النهاية، نفس النظام الدستوري الذي يدعم الديمقراطية الليبرالية الأمريكية الحديثة سمح لما يقرب من قرن من الاستبداد في الجنوب خلال حقبة جيم كرو، والاعتقال الجماعي للأمريكيين من أصل ياباني، وعصر المكارثية. في عام 2025، تحكم الولايات المتحدة على المستوى الوطني من قبل حزب يتمتع بإرادة أكبر وقوة أكثر لاستغلال الغموض الدستوري والقانوني لأغراض استبدادية مقارنة بأي وقت في القرنين الماضيين. سيكون ترامب عرضة للانتقاد. ان الدعم العام المحدود لإدارته والأخطاء الحتمية ستخلق فرصًا للقوى الديمقراطية—في الكونغرس، في قاعات المحاكم، وفي صناديق الاقتراع. لكن المعارضة يمكنها الفوز فقط إذا بقيت في اللعبة. قد تكون المعارضة في ظل الاستبداد التنافسي مرهقة. ومنهكة بالمضايقات والتهديدات، قد يميل العديد من منتقدي ترامب إلى الانسحاب من الساحة. هذا الانسحاب سيكون خطيرًا. عندما تهيمن الخوف أو الإرهاق أو الاستسلام على التزام المواطنين بالديمقراطية، يبدأ الاستبداد الناشئ في ترسيخ جذوره.
التعليق على المقال المترجم "الطريق إلى الاستبداد الأمريكي"
من قبل المترجم ل ر علاء الدين حسين مكي خماس
المقال الذي تمت ترجمته يقدم تحليلاً دقيقاً وناقداً للتحولات السياسية والاجتماعية في الولايات المتحدة تحت إدارة ترامب، مع التركيز على كيفية تآكل الديمقراطية الليبرالية وتحولها إلى استبداد تنافسي. فيما يلي أهم النقاط التي يمكن التعليق عليها:
1. قوة التحليل وأهمية الطرح
المقال يعكس فهماً عميقاً للاستبداد التنافسي، وهو مفهوم حديث نسبياً لوصف أنظمة الحكم التي تبدو ديمقراطية ظاهرياً لكنها في الواقع تدار بأساليب استبدادية. الربط بين تجارب دول مثل المجر وتركيا وفنزويلا وبين الوضع السياسي في الولايات المتحدة يعطي المقال بُعداً عالمياً ويبرز أهمية النظر إلى الديمقراطية الأمريكية ضمن سياق دولي.
2. التهديد المؤسسي للديمقراطية
يشير المقال بوضوح إلى خطر تسييس المؤسسات الحكومية وتسليحها لخدمة أجندة سياسية. تسليط الضوء على ممارسات مثل إضعاف الخدمة المدنية، واستغلال القضاء، واستخدام الأجهزة الحكومية لمهاجمة المعارضين، هو نقطة رئيسية تشرح كيف يمكن للاستبداد أن ينمو داخل نظام ديمقراطي ظاهرياً.
3. الاستبداد التنافسي: نموذج واقعي
تقديم المقال لمفهوم "الاستبداد التنافسي" كبديل عن الأنظمة الاستبدادية التقليدية يُبرز التحولات التي يشهدها العالم الحديث. فالاستبداد لم يعد يعتمد على القمع العنيف فقط، بل يستغل الأدوات القانونية والمؤسسية لتضييق الخناق على المعارضة مع الحفاظ على واجهة ديمقراطية.
4. مصادر الصمود الديمقراطي
التأكيد على نقاط القوة المؤسسية للولايات المتحدة، مثل النظام الفيدرالي والقضاء المستقل، يعطي بريقاً من الأمل في مواجهة الاستبداد. ولكن المقال يشير أيضاً إلى أن هذه القوة ليست كافية ما لم تكن هناك معارضة قوية ومنظمة.
5. دور المعارضة والمجتمع المدني
يشير المقال إلى خطر "الانسحاب الذاتي" للنخب السياسية والاقتصادية والإعلامية نتيجة الضغوط والتهديدات. هذا التحليل يعكس واقعاً مريراً في العديد من الأنظمة الاستبدادية، حيث تصبح المعارضة محدودة وضعيفة بسبب الخوف من الانتقام أو فقدان الامتيازات.
6. البعد التاريخي والسياسي
يربط المقال بين الحاضر والماضي، مستشهداً بفترات مثل حقبة "جيم كرو" والمكارثية لتوضيح أن الديمقراطية الأمريكية ليست محصنة ضد التراجع. هذا الربط التاريخي يعزز مصداقية المقال ويضيف بُعداً تحليلياً مهماً.
النـــــــقد
- افتقار المقال إلى بدائل واضحة: رغم الإشارة إلى أهمية المعارضة والمجتمع المدني، لا يقدم المقال استراتيجيات عملية لمواجهة هذا التحول نحو الاستبداد.
- تركيز كبير على ترامب: على الرغم من أن ترامب يمثل شخصية محورية في التحليل، إلا أن التركيز المفرط عليه قد يطمس الجوانب البنيوية الأعمق التي تسهم في تراجع الديمقراطية.
الخلاصة
المقال يقدم تحذيراً قوياً من التهديدات التي تواجه الديمقراطية الأمريكية، مسلطاً الضوء على الديناميكيات السياسية التي يمكن أن تحول النظام الديمقراطي إلى نظام استبدادي تنافسي. وهو يبرز أهمية اليقظة السياسية، والمقاومة المجتمعية، والإصلاحات المؤسسية لحماية الديمقراطية.
472 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع