ابراهيم الزبيدي
في الدول ذات العاهات المستديمة التي تشبه العراق الديمقراطي الجديد في الجهل والتخلف والتعصب والفساد غالبا ما يكون الوصول إلى منصب القيادة من نصيب الأكثر مالا أو سلاحا، أو الأشطر في البلف والتمثيل وتضليل الجماهير بالخطاب الديني أو العنصري المتطرف.
ويظن البعض بأن هذه حالة تشاؤمية زائدة عن حدها، ولكن الواقع العراقي الحالي لا يسمح بغير ذلك.
وفي مثل هذه الدول لا أمل في الاعتماد على وعي الناخبين وقدرتهم على تحكيم المصالح الوطنية العليا واختيار الحاكم الأصلح الأكثر صدقا وأمانة وقدرة على حماية هذه المصالح وتحقيقها. وذلك لأن الأكثرية من الناخبين ثلاثة. إما أميٌ لا يقرأ ولا يكتب ويساعده في ملء استمارة الاقتراع واحدٌ من حماية السيد الرئيس، أو جاهلٌ متعصب مغسول المخ، دينيا أو قوميا، أو جائعٌ يبحث عن فرصة لإعانة أسرته المعدمة بأي ثمن حتى لو كان رأس الوطن العزيز.
أما الناخب المتعلم والمتنور القادر على الاختيار الصحيح، والثابت على وطنيته الصادقة، والمتحرر من قيود الطائفة والعرق والجنس والدين، فهو ضائع في هذه الملحمة الدامية، يصيح ولا من مجيب. هذه هي القاعدة، وما عداها شوارد عابرة. والأقرب إلينا من الأمثلة حافظ أسد وبشار وصدام حسين وحسني مبارك وزين العابدين وعلي عبد الله صالح وعمر البشير، وغيرُهم كثيرون، جاءوا بالقوة، وجلسوا بالقوة، وأزيحوا بالقوة كذلك، ولكنهم كانوا جميعا منتخَبين من الجماهير العريضة، وبنِسبٍ تجاوزت حدود المعقول.
مناسبة المقال تلك الطلعة العجيبة الغريبة للسيد نوري المالكي في الناصرية، وخطابُه العصبي المثير للشفقة وتهديدُه نصفَ شعبه بـ (بحور من دم). فقد أعطى بهذا الخطاب دليلا قاطعا جديدا على سوء حظ العراقيين المحرومين من رئيس يملأ مكانه، فلا يكون الكرسي قيمته الوحيدة، بل هو الذي يزيد كرسيه شرفا وهيبة، يقود مواطنيه بالحب والعدل والنزاهة والصدق والرجولة لا بإرهابهم وقمعهم وخنق أصواتهم بقوة جيشه وأمنه ومليشياته ومخابراته وقضائه المُسير بأوامر الباب العالي.
فالسيد نوري المالكي، وهو الزعيم المؤتمن على وحدة المكونات، والمُطالَب بتبريد الجبهات، وترميم العلاقات، وتلطيف الخواطر، أثبت أنه لا زعيم ولا يحزنون. فقد كشف لنا أنه لا يختلف كثيرا عن غيره من (السياسيين) الطارئين على السياسة والوافدين إليها من دكاكين العطارة والسباكة وقطع غيار السيارات، ومن أكشاك السكاير وإبر الخياطة، والطائفيين الذين لم يكونوا ليجدوا موطيء قدم في القصر الجمهوري أو تحت قبة البرلمان لولا الطائفية وأجواؤها الفاسدة. فالسيد الرئيس لم يتعفف ولم يترفع عن استخدام سلاح النعرة الطائفية لتحريض طائفته على قتال خصومه السياسيين في الطائفة المقابلة، لا من أجل مصالح وطنية حقيقية ولكن من أجل مصالح انتخابية خائبة.
فقد استغل كلاما عابرا قاله واحد من شركائه في المحاصصة هاجم فيه (فقط) "عملاءَ إيران وحسن نصر الله"، فخرج على شاشات التلفزيون العراقية والعربية والعالمية لا ليهاجم صاحب ذلك الكلام وحزبه وحاشيته، وحده، بل ليشتم طائفته كلها، بمن فيها من ملايين بريئة لا تعجبها ولا تشرفها المهاترات التي أشاعها سياسيو آخر زمن. ففي أي دولة وفي أي زمان يدعو قائدُ وطنٍ نصفَ شعبه لذبح نصفه الآخر، ويُذكي نيران أحقادٍ أوشكت أن تموت، ويقطعُ صلة رحم بين طائفتين شقيقتين لا غنىً لإحداهما عن الأخرى؟؟.
لم يكن يليق برئيس وزراء العراق أن يرد، بنفسه، على أحد مواطنيه، مهما أساء، وخصوصا بهذه اللغة الفاسدة، بل كان الأكثر مهابةً له شخصيا ولمنصبه الكبير أن يسكت ويسامح ويترفع ويمد جسور المودة مع المخالفين له في الرأي والسياسة والعقيدة قبل المشايعين والمحازبين، أو أن يدع الردح وتهديد الناس بـ(بحور الدم) لنواب حزبه ومنافقي فضائياته وإذاعاته وجرائده، وهم كثر، ويبقى هو شامخا جبلا لا تهزه ريح.
إن شعبنا من زمن طويل تعوَّد على خيبة حظه بحكام يقفزون في غفلة فيركبون على ظهره، مع أن واحدَهم أصغرُ من أن يقود عنزتين، ولكن أن تصل الأنانية والعدوانية والعنجهية وغرور القوة لدى أحدهم إلى هذا الحد فهو ما لم يكن في حساب شعبنا، وما لم يتوقعه من رئيس أو زعيم.
شيء آخر. من الذي أعطى المالكي وحزبه، ومعه إيران ذاتها، حقَ امتلاك الطائفة واحتكارَ تمثيلها وتهديدَ الناس بلسانها، وهو، ومَن والاه، ليسوا سوى نتوء ناشز وصغير فيها؟.
واسمحوا لي أن أدخل في صلب المسألة وأسمي الأشياء بأسمائها. فقد استمعت ودققت كثيرا، وبعمق وهوادة، في أقوال السيد أحمد العلواني لأكون عادلا وغير منحاز، فوجدت أنه حين هاجم حسن نصر الله قال عنه (كذاب). وأنا وغيري مئاتٌ، وربما آلافٌ، من الكتاب والمحللين والسياسيين ورجال الدين العراقيين واللبنانيين والعرب، شيعة وسنة، هاجمنا حسن نصر الله، ودمغناه بالكذب والاحتيال. فهل نكون نحن أيضا من المارقين ويحق علينا عقابُ الرئيس المالكي بـ (بحور الدم؟).
أما حكمنا على (السيد) بالكذب فلم يكن تجنيا ولا رجما بالباطل بل لأنه ظل ينكر وجود مقاتليه في سوريا شهورا عديدة، ثم حين تكشفت الأمور وافتُضح السر عاد وكذب مرة أخرى وزعم أنهم هناك لحماية مقام السيدة زينب من التكفيريين، في حين أن مقاتليه كانوا في كل دمشق، وفي درعا وحمص وحماة وحلب واللاذقية، وليس حول مقام السيدة وحده. وهذا عيب على الإنسان العادي البسيط غير المتعلم وغير المتدين، فكيف على رجل دين يضع على رأسه عمامة سوداء تعلن انتسابه إلى سيد المرسلين؟
أما هجوم العلواني على (عملاء إيران) وتهديدُهم " بقطع رؤوسهم دون رحمة" فذلك منطق عادي ليس بمستغرَب ولا عجيب في عراقنا الديمقراطي الجديد الذي اعتادت جموعُه السياسية المتحاصصة المتناحرة على التحاور فيه بالشتائم المقذعة، والمفخخات، والسكاكين، والكواتم، وعلى الهوية.
وحتى حين توقع العلواني أن " يزال مقام السيدة زينب في دمشق ويُتهم السُنة بإزالته" لم يشتم المقام بل توقع أن يحدث له ما حدث لضريح الإمامين علي الهادي والحسن العسكري في سامراء، فتشتعل فتنة جديدة تندم عليها الطائفتان، مثلما ندمتا في السابقة، بعد انكشاف أسرارها الفاضحة.
وفوق هذا وذاك فإن أحمد العلواني فردٌ لا يمثل إلا نفسه وقلةً من أفراد حمايته باعتباره نائبا في برلمان العملية السياسية التي أخفى المالكي ملفات عديدة وخطيرة موثقة عن عمليات إرهاب قام بها مسؤولون كبار في الدولة حرصا على سلامتها واستمرارها، فخذوه وحاكموه، حضوريا أو غيابيا، أو فاغتالوه كما فعلتم بسواه، ولكن لا تصبوا على حريق حريقا، وعلى خراب خرابا، وأنتم تعلمون.
والأكثر إثارة للذهول بيانٌ وزعه المكتب الإعلامي للسيد رئيس الوزراء يعلق فيه على "الأعمال الإجرامية الجبانة التي قامت بها المجموعات الإرهابية التكفيرية" أكد فيه "أن التمسك بالوحدة الوطنية ورصّ الصفوف هما السبيل لإلحاق الهزيمة بهذا المخطط الإجرامي الخطير".
ترى أمن أجل هذا الهدف النبيل أطلق السيد المالكي خطابه الأخير في الناصرية مهددا جموع المعتصمين في المحافظات الغربية قائلا: "بيننا وبين هؤلاء بحرٌ من الدم، لأنهم يريدون إعادة العراق كما كان أسيرا بيد قوة ضالة"؟؟، أم إنه يعني، فقط، رصَّ صفوف أتباعه المتطرفين مسلحي مليشياته المتناثرة، وإطلاقَهم لذبح أطفال الطائفة الأخرى ونسائها ورجالها المتظاهرين احتجاجا على (بهدلة) القانون بدولة القانون؟
وإذا كان هذا هو منطق الزعيم السياسي المسؤول المنادي برص الصفوف والمتمسك بالوحدة الوطنية، فكيف يراد لمنطق المواطن الساذج أن يكون؟
لا أمل في تحقيق العدالة والديمقراطية والسلام في العراق إلا برحيل هذه القيادة الفاشلة، وهذه الشلة، كاملة، من السياسيين الذين يعيشون على حراسة الخراب وتعميق الفرقة واستمرار الاقتتال، ويعلمون بأنهم بدون هذا العداء الطائفي والعنصري والديني والمناطقي المشتعل بين أبناء الوطن الواحد لن يصبحوا رؤساء ولا وزراء ولا سفراء ولا مرافقين ومستشارين أصحابَ ملايين.
وأخيرا، هل إلى هذا الحد هان عليك وطنك وأهلك؟، وهل يستاهل طموحك لدورة ثالثة قطرةً واحدة، لا بحورا من دماء مواطنيك، أيها السيد الرئيس؟
1022 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع