الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل
في رحاب سورة الكهف.. الجزء الأول
سورة الكهف من السور ذوات الفضل في القرآن الكريم، ذُكرت في أحاديث كثيرة، ومن أهم فضائلها ما ذُكر أن قراءتها في يوم الجمعة نورٌ ما بين الجمعتين.
في سورة الكهف ينتصف عدد حروف القرآن الكريم، وهذه السورة المباركة تتناول أربعة قصص مختلفة عن القصص التي تعرضها السور الأخرى؛ إحداها قصة أصحاب الكهف.
كهف الرقيم هو الكهف الذي رقد فيه الفتية المؤمنون الفارون بدينهم من الملك الروماني دقيانوس الذي حكم في القرن الميلادي الثالث. وبالنظر إلى الدلائل التاريخية والأثرية واستنادا إلى ما ذُكر في القرآن الكريم، يُرجح الباحثون أن يكون كهف أهل الكهف هو كهف الرقيم الذي تم اكتشافه سنة 1951 في قرية (الرجيب) على بعد 7 كيلو متر شرق العاصمة الأردنية عمّان.
لقد أعلن الأردن رسميًا في العام 1963 امتلاكه للعديد من الأدلة والبراهين التي تثبت أنَّ كهف أهل الكهف هو ذلك الواقع في قرية (الرجيب) قرب العاصمة الأردنية عمّان، وهو ما أيَّده مجمع الفقه الإسلامي ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو).
من الأدلة التاريخية التي يذكرها رجال الآثار أن العديد من الصحابة وقادة الجيوش الإسلامية قد ذكروا أن موقع الكهف الذي يوجد به أصحاب الكهف موجود بجبل الرقيم بالأردن، حيث زاروا هذا الموقع وعرفوه، ومنهم: الواقدي، والصحابي عبادة بن الصامت الذي مرّ على الكهف في زمن عمر بن الخطاب، وكذلك حبيب بن مسلمة وابن عباس وقد دخلوا هذا الكهف ورأوا عظام أصحاب الكهف.
حدثت قصة أصحاب الكهف بعد ولادة السيد المسيح عليه السلام بأكثر من قرنين في زمن الإمبراطور الروماني داقيوس (249ـ251م) الذي أشاع عبادة الأوثان. وتُسمى هذه القصة (النيام السبعة) في المصادر المسيحية، ويعود أقدم نص مكتوب لها إلى الأدب السرياني المسيحي الذي اشتُهر بين القرنين الخامس والسادس الميلادي.
اعتقد يهود ونصارى نجران أن عدد أصحاب الكهف هو ثلاثة فقط، بينما تذكر كنيسة المشرق السريانية أن عددهم كان خمسة، وتذكر نصوص سريانية أخرى أنَّ عددهم هو ثمانية.
سبب نزول سورة الكهف:
نزلت سورة الكهف في الوقت الذي عانى فيه المسلمون في مكة من الظلم والقهر، كما بيّنت السورة ما عانى منه أصحاب الكهف، فكانت هذه السورة المباركة كالفرج بعد الشدّة.
جاء في سبب نزول سورة الكهف أن قريش أرسلت النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بيثرب ليسألوهم عن رسول الله ( ﷺ) ويصفوه لهم لأنهم أهل التوراة. فقال لهم الأحبار: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن، فهو نبي مُرسل، وإن لم يفعل، فالرجل مُتقوّل:
سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم، فإنهم قد كان لهم شأن عجيب؟ وسلوه عن رجل طوّاف بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هي؟.
فجاء النضر وعقبة إلى رسول الله (ﷺ) فقالوا: يا محمد أخبرنا، فسألوه عما أمروهم به، فقال لهم رسول الله (ﷺ): أخبركم غدا عما سألتم عنه.
مكث رسول الله (ﷺ) خمس عشرة ليلة لا يحدث الله له في ذلك وحيا، ولا يأتيه جبريل، حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدا واليوم خمس عشرة ليلة، وقد أصبحنا فيها ولا يخبرنا بشيء عما سألناه. وقد أحزن رسول الله (ﷺ) توقف الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة.
ثم جاءه جبريل (عليه السلام) بسورة الكهف متضمّنة جواب سؤالهم عن أمر الفتية وذي القرنين، أما أمر الروح فقد نزل في سورة الإسراء. كما أنزل الله (سبحانه) مع الجواب توجيهًا فيه معاتبة للنبي (صلى الله عليه وسلم)، فقال تعالى: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا * إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا) (الكهف: 23-24).
قصة اصحاب الكهف:
أصحاب الكهف هم قدوة للشباب في كل زمان ومكان في التضحية والثبات، هم شباب فرّوا بالإيمان من الطغيان، وزادهم الله هدى نتيجة للثبات والصبر والفرار بالإيمان للمحافظة عليه.
وسورة الكهف هي رسالة لكل شاب في زمان الفتن والشهوات والشبهات؛ أن يثبت على إيمانه ويفر بدينه إن لم يتمكن من المحافظة عليه.
والكهف هو المغارة الواسعة، وقيل أن (الرقيم) هو اللوح الذي سُجِّلت عليه أسماؤهم؛ وقيل اسم الجبل وقيل اسم القرية. وكان الناس لا يقربون الكهف، وكان كلبهم يحرسهم مادّاً ذراعيه فيخيّل للناظر أنّهم أحياء.
وفي أحد الأيام دخل الكهف راعي غنم مع غنمه بعد أن سقطت أمطار غزيرة، فأيقظ اللَّهُ تعالى أصحاب الكهف وردّ أرواحهم إليهم بعد نومهم الطويل. ثم أرسلوا واحداً منهم إلى المدينة كي يجلب لهم الطعام.
وحين اختلط ذلك المُرسل بالناس في المدينة اكتشفوا أمرهم، وقد مات أصحاب الكهف بعد ذلك؛ وقد قام الناس ببناء مسجد في ذلك المكان.
لقد نهى الله -سبحانه وتعالى- الناس عن الجدال فيما بينهم فيما يخصّ عدد هؤلاء الفتية، وأنّ الأفضل أن يُفوّض الأمر إلى الله تعالى.
لقد ورد في بعض أشعار العرب في الجاهلية إشارات عن الكهف والرقيم يُفهم منها أنهم كانوا يعرفون موضع الكهف، مما يدل على أن الكهف كان قريبًا منهم بحيث يمرون به أو على الأقل يعرفون المنطقة التي يقع فيها، ومن هذه الاشعار ما قاله الشاعر الجاهلي أمية بن أبي الصلت الذي اشتُهر بالحنفية والتوحيد وكان من الدعاة إلى نبذ الأصنام وتوحيد الإله:
فَلَم تَسلَم الدُنيا وَإِن ظَنَّ أَهلُها ... بِصِحَّتِها وَالدَهرُ قَد يَتَجَرَّدُ
وليس بها إلا الرقيم مجاورًا ... وصيدهم والقوم في الكهف هُمَّدُ
لم يتفق المؤرخون على عدد فتية (أصحاب) الكهف: ثلاثة أو خمسة آو سبعة، كما أن أسماؤهم مختلف فيها حتى في المصادر السريانية. ويميل المؤرخون اليوم إلى الأخذ برأي القائلين أنهم كانوا سبعة، كما ثبتت الروايات اللاتينية واليونانية.
أما في القرآن الكريم فيقول تعالى: (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) أي سيقول هؤلاء القوم الخائضون في قصتهم في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) من أهل الكتاب هم ثلاثة رجال يتبعهم كلبهم؛ (وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِٱلْغَيْبِ)، أي ويقول البعض: إِنهم خمسةٌ سادسهم الكلب قذفاً بالظنِّ من غير يقين ولا علم، (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ)، أي ويقول البعض إنهم سبعةٌ والثامن هو الكلب. (قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم) أي الله أعلم بحقيقة عددهم (مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ)؛ أي لا يعلم عدتهم إلا قليل من الناس.. قال ابن عباس: أنا من ذلك القليل: كانوا سبعةً إن الله عدَّهم حتى انتهى إلى السبعة.
يُجمع المؤرخون السريان، على أن نوم أهل الكهف كان في عهد الملك داقيوس (249ـ251م)، أما استيقاظهم فكان في عهد الملك الصالح ثيودوسيس الثاني الذي حكم في الفترة (408ـ450م).
تتباين المصادر المسيحية في تحديد مدة رقود أصحاب الكهف: فهناك من يقول 196 سنة، وهناك من يزعم 188 سنة، وتدعي مصادر أخرى 370 سنة، في حين تُحدد النصوص السريانية مدة الرقاد بـ (372) سنة.
أما القرآن الكريم فيشير بشكل دقيق إلى المدة الزمنية التي قضاها أهل الكهف نيامًا؛ فقال تعالى: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا) (الكهف: ٢٥)، وفي هذا النص القرآني بلاغة عجيبة تحدّث عنها بعض علماء اللغة أمثال الدكتور فاضل السامرائي، كما يتضمن هذا النص القرآني إعجازا عدديا مثيرا.
لقد ذكرت هذه الآية الكريمة بشكل دقيق أنَّ أهل الكهف رقدوا في الكهف لمدة 309 سنوات في التقويم القمري، أي ما يعادل 300 سنة في التقويم الشمسي، ذلك لأن التقويم القمري أقصر بـ 11 يومًا من التقويم الشمسي، وهذه الأيام الإحدى عشر تكافئ 9 سنوات إضافية في التقويم القمري. وبذلك يكون القرآن قد خالف كل المراجع التاريخية اليونانية والسريانية ليعطي الوصف العلمي الدقيق.
https://www.youtube.com/watch?v=U4PJEtDmRGg
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.
1268 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع