البحث عن البصرة في البصرة

د.حامد الحمود

البحث عن البصرة في البصرة

زرت البصرة مؤخرا بعد انقطاع دام 33 عاما بسبب الغزو وغزو آخر وفترة عدم استقرار دامت عشرين عاما. وقد شجعني على ذلك انطباع كويتيين حضروا فيها مباريات ضمن دورة الخليج العربي لكرة القدم. وللبصرة حضور بارز في الذاكرة العربية، بل انه يمكن الادعاء أن التاريخ العربي المكتوب بدأ من البصرة. فازدهر عصر التدوين فيها، وبرز فيها علماء اللغة وعصر التدوين من الخليل بن أحمد إلى أبي الأسود الدؤلي وإلى سيبويه. وعاش في البصرة الجاحظ وبشار بن برد وعشرات الشعراء والأدباء.

لكن البصرة بالنسبة لي هي أكبر من ذاكرة ثقافية تشكل من قراءة الأدب والتاريخ. فكنت أتردد عليها كثيرا في أول الستينيات، عندما كان عمري بين التاسعة والرابعة عشر. وكان انبهاري كبيرا لرؤية شط العرب، هذه الكتلة المائية العذبة المبهرة، خاصة لطفل قادم من الصحراء. لكن معظم تواجدي فيها كان عادة في منطقة تمتد حول شارع الوطني، حيث سينما الوطني والرشيد والحمراء والسندباد الصيفي، والتي شاهدت فيها الفيلم الهندي «أم الهند» حوالي عام 1960. والسينما في البصرة لم تكن دورا للهو فقط، وإنما كانت جزءا من الإرث الثقافي لهذه المدينة. وعندما نتذكر تاريخ دور السينما في البصرة، وتاريخ عرض الأفلام فيها، لا بد أن نتذكر تومان البصري، وكان رجلا عادة ما كان يسير متقدما لوحة اعلانية خشبية يحملها اثنان عليها صور وإعلانات لفيلم معين. وكان اثناء جولاته في الشوارع يتحدث عن بطولات شخصيات الفيلم. وأعتقد أنه كان يستأجر من اكثر من دار سينما للقيام بهذه الحملات الإعلانية. وأذكر أنه بعد أن يدور بين الأزقة والشوارع، كان يضع لوحة الإعلان الكبيرة على مدخل جسر سوق الهنود أو سوق المغايز ليترك لنفسه وقتا أطول لعزف الناي والحديث عن بطولات شخصيات الفيلم.

هذا ما كان يجذب الأطفال والشباب في البصرة، لكن إن كنت من النخبة، فمحال أوروزدي باك التي كانت تبيع ارقى الماركات العالمية ليست ببعيدة، وكذلك هي المحال الأخرى والمكتبات والمطاعم ودور اللهو على شارع الوطني. وفي زيارتي الأخيرة هذه، كنت أبحث عما استمر في ذاكرتي وما زال متواجدا في الواقع، فأخذت جولة على الكورنيش ماشيا بمحاذاة الشط متطلعا الى الضفة الشرقية من الشط التي غابت عنها غابات النخيل الكثيفة التي كانت تميز البصرة عن المدن الأخرى والتي تكفلت الحرب العراقية الايرانية وارتفاع ملوحة شط العرب بالقضاء عليها. انعطفت يسارا عند ملتقى شط العرب مع شط العشار إلى ساحة أسد بابل، لأشاهد عبر النهر جامع المقام والذي أنشأه العثمانيون في منتصف القرن الثامن عشر. وبمحاذاة النهر تمشيت إلى مدخل سوق الهنود الذي تحول إلى سوق شعبي يبيع الأرخص والأقل نوعية. هذا بعد أن كانت تباع فيه أفضل الأقمشة والأحذية للنساء والرجال. ثم رجعت إلى الشارع الوطني وتمشيت فيه إلى نهايته، وبعد أن انعطفت يمينا، وجدت كنيسة وكنت متفائلا بأن أجدها مفتوحة، لكني صدمت أنها لم تكن مغلقة فقط، وإنما بني بالطابوق على بابها، فلم تعد ترى الباب، وإنما جدارا من الطابوق. وطوال تجوالي كنت استعيد صور النساء في البصرة التي عهدتها طفلا واقارن بين الماضي والحاضر. فكنّ اما سافرات او يلبسن العباءة. ولم اتوقع ان تكون نساء البصرة حاليا اكثر التزاما بالحجاب من نساء طهران.

وما ان تجولت بالسيارة في البصرة والعشار، فلا بد أن تعجب بشبكة الطرق التي أنشئت في العقدين الأخيرين، كما أنه لا بد أن تنفر من البناء العشوائي وغياب التنسيق العمراني. وما زالت الشعارات المرحبة بالزوار من دول الخليج موجودة، فانتشرت لوحات إعلانية وكتابات على الجسور تعلن ترحيب أهل البصرة، مثل: مية هلا بيكم، وبصرة السياب ترحب بكم، والبصرة ديرتكم. ينافس هذه الإعلانات الترحيبية لوحات ترفع صورا لقاسم سليماني وأبو مهدي المهندس. وعلمت ان هذه هذه اللوحات التي وضعتها الميليشيات الإيرانية انتشرت اكثر قبل بداية دورة الخليج العربي لكرة القدم لتذكر الزوار العرب بالنفوذ الإيراني في البصرة. فهناك صراع رمزي بين انتماء البصرة العربي الخليجي، والنفوذ الإيراني فيها. لكني وجدت أن مشاعر أهل البصرة هي أقرب كثيرا لنا، وما لوحات سليماني والمهندس إلا تذكير قسري بالنفوذ الإيراني في هذه المدينة العزيزة على كل العرب.

ويبدو أن الاكتشافات النفطية خلال العقود الأربع الأخيرة، وكون موانئ العراق على الخليج تقع من ضمن حدودها الإدارية، تحولت البصرة إلى مدينة ذات كثافة سكانية عالية. فالبصرة التي كنت أعرفها يقل سكانها عن المليون، أما البصرة الحالية بنواحيها وأقضيتها وقراها فتبلغ حوالي الخمسة ملايين نسمة. والهجرة من الناصرية والعمارة والسماوة هي من أهم أسباب زيادة نفوسها. لكن الحروب وعدم الاستقرار ونهب الدولة من قبل السياسيين لم يسمح للبصرة أن تتطور لكي تعتني بهذه الكثافة السكانية العالية. الزبير التي ارتبط بها تاريخيا وعاطفيا تحولت إلى مدينة يزيد سكانها على نصف مليون، وانتشرت بها العشوائيات على أطرافها حتى تحولت إلى واحدة من أبشع المدن في العالم. فالزبير هي بالأساس لم يخطط هندسيا لبنائها، بل ان بعض شوارعها أخذ بالاعتبار أنها أنشئت لتسمح بمرور الجمال والحمير وليس للسيارات. ولم تهدم البيوت ويعاد تخطيطها وإنما هدمت وبني في محلها بيوت اسمنتية على نفس مخططها القديم، مما قضى على أي مسحة جمالية فيها.

ويبدو أن البصرة والعشار اللتين أنشئتا على غرب شط العرب، وصلا إلى كثافة سكانية عالية، فأخذت البصرة تمتد إلى شرق شط العرب عبر جسرين حديثين انشئا حديثا. ويبدو ان هناك رضا نسبيا عن محافظها الحالي، الذي بذل جهودا لإنجاح دورة الخليج العربي لكرة القدم. والأمن مستقر في البصرة، فلم اسمع لا من مقيم ولا من زائر عن حوادث مخلة بالأمن. وقد ساعد على تحقيق ذلك نشأة طبقة ثرية جديدة ساعدت بالتنسيق مع الدولة والميليشيات على حفظ الأمن الضروري لبسط واظهار ثرائها. وهناك إشارات على إنشاء شركات تستثمر في بناء العقار للتخفيف من أزمة السكن. وأعتقد أن هناك فرصا لشركات استثمارية خليجية في هذا المجال. هذا وقد تم إنشاء أكثر من سوق مغلق (مول)، وجار إنشاء أسواق أخرى. وخلال زيارتي لأحدها وجدت من يبيع الكتب في أحد الممرات. ومن بين ما لفت نظري قصة للكاتب البصري ضياء الجبيلي تقع في حوالي سبعين صفحة، تقع أحداثها أثناء فترة احتلال الإنكليز للبصرة بعد غزو 2003. والشخصية الروائية في القصة هي لأديب يروي قصة موته. وقد لفت نظري عنوانها الذي كان «وجه فنسنت القبيح».

ولعل أهم إنجاز حققته من زياري للبصرة كان التعرف شخصيا على أصدقاء عرفتهم عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، أغلبهم أساتذة من جامعة البصرة بأقسامها العلمية والأدبية. وكنت محظوظا أن تمكنت من حضور تكريم أساتذة لاختراعات علمية مميزة. وبعد هذا الحضور، تناولنا الغداء في يخت تملكه جامعة البصرة، كان بالأصل بني خصيصا لصدام حسين وتم استلامه من الحكومة العراقية بعد سقوط النظام. وبعد الغداء، ذهبنا بالتاكسي النهري في جولة في شط العرب. وعلى ضفتي الشط بدت الضفتان شبه خاليتين من النخيل الذي كانت تتفاخر به البصرة، فكما ذكرت سابقا فإن الحرب العراقية - الايرانية وارتفاع ملوحة شط العرب تكفلا بالقضاء على هذا النخيل. وقبل ذلك زرت جامعة البصرة في كرمة علي، التي لاحظت أن فيها كثيرا من المباني التي لم تكتمل. ولاحظت ان الحرم الجامعي وكما هي البصرة كذلك فإنهما يفتقدان المساحة الخضراء.

وخلال وجبة الفطور في الفندق، لاحظت توافر أنواع من الفاكهة من الشرق والغرب، أما التمر فكان من النوع الرديء. فيبدو أن البرحي والخضراوي والبريم اختفت مع اختفاء كثير من أهل البصرة الأصليين.

كنت محرجا أن أحضر معي للأصدقاء من أهل البصرة تمرا. فكنت اعرف عن تدهور انتاج التمور في العراق لكن لم أتوقع أن يكون التمر الجيد نادرا في البصرة لهذه الدرجة. لذا اكتشفت أن التمر هدية مناسبة لأهل مدينة كانت تصدر أفضل أنواع التمور إلى العالم.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1225 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع