د. سعد ناجي جواد*
اخراج القوات الأمريكية من العراق.. هل هو عمل جاد أم مُزايدات لمصالح سياسية.. ومن يقف مع هذا الهدف الوطني ومن يقف ضده؟ ولماذا لا يكون المطلب إخراج كل القوات الأجنبية؟
مرة أخرى قفز للواجهة الحديث عن اخراج القوات الامريكية من العراق، هذا الموضوع الذي يثار بين الآونة والاخرى من قبل الجهات المشاركة في العملية السياسية في العراق، كل حسب رغبته واهدافه وأجندته وحساباته الخاصة وبدون نتيجة تذكر. هذه المرة، فان من أثار الموضوع هو السيد رئيس الوزراء محمد شياع السوداني. ولكي يُظهر جديته في تحقيق هذا الهدف، جاء الاعلان وعلى الملا في تصريح مباشر ومفاجئ من مقره الرسمي حيث قال ان حكومته توصلت الى اتفاق يقضي بإخراج الجزء الاكبر من القوات الامريكية من العراق بحلول شهر أيلول / سبتمبر من العام القادم (2025)، على ان يتم اجلاء القوات الباقية من اقليم كردستان العراق في نفس الشهر عام 2026. ان هذا التصريح وتوقيته لا بد وان يثير علامة إستفهام مفادها ما الذي استجد لكي يتحدث السيد السوداني عن هذا الموضوع شخصيا وعلنا وبنبرة الشخص المصمم على تحقيق انجاز مهم؟
ابتداءا، ولغرض التحليل وليس التشكيك، يجب التذكير ان هذا التصريح يتناقض مع (موقف وحديث) سابقين للسيد السوداني نفسه جرى رصدهما عندما زار الولايات المتحدة في شهر نيسان/ابريل الماضي. (الموقف) هو انه في تلك الزيارة وأثناء لقاءه الرئيس بايدن لم يُثِر السيد السوداني مسالة سحب القوات الامريكية من العراق كما كان مؤملا منه. بل على العكس فانه طالب الرئيس الامريكي بالمزيد من التعاون، مما تسبب له بانتقادات كثيرة جاءت اثناء وبعد الزيارة، من التحالف الشيعي الذي كان وراء حصوله على منصبه. اما التصريح فلقد ادلى به في اليوم التالي من لقاء البيت الابيض، وجاء في معرض رده على سوْال وجه له في مؤتمر صحفي عن ماذا سيفعله مع مطالبة بعض الجهات العراقية بإخراج القوات الامريكية، حيث قال (لا توجد قوات امريكية في العراق كي تنسحب، هناك مستشارين عسكريين يحتاجهم العراق).
زيادة للغموض حول هذا الموضوع صدرت تصريحات متضاربة من قبل اثنين من مستشاري السيد السوداني ومن وزير الدفاع في حكومته. الاخير تحدث عن نفس الموضوع ونفس التواريخ، وزاد على ذلك قوله انه طرح الموضوع والتوقيتات على وزير الدفاع الامريكي الجنرال لويد أوستن عندما التقاه مؤخرا. لكنه أضاف بان الوزير الامريكي اعترض على التاريخ النهائي وطلب تأجيله الى عام 2027، وقال انه عندما رد على أوستن بعدم امكانية التمديد، سكت الاخير وترك الحديث عن الموضوع، بكلمة اخرى ان اوستن لم يوافق على ذلك. (ولتأكيد هذا الموقف أعلن الرئيس الامريكي بايدن – بعد يوم من هذه التصريحات، الاثنين 9 أيلول/سبتمبر الجاري، رفضه لهذه التواريخ والجدولة وفكرة الانسحاب الكامل). ثم عاد احد مستشاري رئيس الوزراء العراقي واكد انه تم الاتفاق على جدول الانسحاب في غضون سنتين حقا، في حين ان مستشارا اخر قال انه لا يوجد مثل هكذا اتفاق لحد الان! (بالمناسبة فان السيد السوداني يمتلك مستشارين يفوق عددهم عدد مستشاري الرئيس بايدن او مستشاري كل من حكم العراق مجتمعين منذ تأسيس النظام الوطني عام 1921 ولحد الآن). من ناحيتهم سخر أطراف الإطار التنسيقي الذي يضم الأحزاب والكتل الشيعية الموالية لايران من الاحاديث عن انسحاب القوات الامريكية وقالوا انها ضحك على الذقون.
على الرغم من ان سحب القوات الامريكية من العراق، وكذلك مطالبة واشنطن ودول التحالف التي شاركت في عملية الاحتلال بتعويضات عن الإضرار التي لحقت بالعراق، هي مطالب وطنية يجب ان تعمل عليها كل حكومة ومعها الأحزاب المشاركة في العملية السياسية، الا ان ما يجري على ارض الواقع يختلف تماما. فلقد اثبتت الاحداث انه لا يوجد اجماع بين الاحزاب السياسية الحاكمة (المتكونة من تحالف الأحزاب الشيعية والكردية والسنية) على اخراج القوات الامريكية. فالأحزاب الشيعية التي تصر على هذا المطلب، فهي تفعل ذلك ليس حرصا على استقلال العراق، لأنها كانت اول من إستعان بهذه القوات لتغيير النظام، وإنما يأتي مطلبها تنفيذا لهدف إيراني مبني على عدم ارتياح طهران لتواجد قوات لدولة تصنفها (ايران) رئيسة لمحور الشر وتعمل على زعزعة النظام فيها. وحتى هذا الإصرار يتم بنوع من الإستحياء بدليل ان عندما تم تمرير هذا الأمر في البرلمان فانه جاء بصيغة (توصية) وليس كقرار او قانون ملزم. من ناحية اخرى فان نفس القوى لا تتحدث عن النفوذ والوجود الإيراني، بنفس الطريقة، كما انها تتناول التواجد التركي بصور عرضية ومخففة وحسب مزاجها. بكلمة اخرى ان هذه الأحزاب لا تطرح فكرة سحب جميع القوات الاجنبية من العراق كهدف أساسي وإنما تفعل ذلك حسب المثل العراقي (واوي اي واوي لا) او ما يقابله بالمصري (على حسب وداد قلبي)، من اُحِبُه يبقى ومن أكرهه يخرج. اما الأحزاب الكردية، وخاصة الديمقراطي الكردستاني (البرزاني) فانه لا يرفض فقط فكرة سحب القوات الأمريكية، وإنما قام بتوفير تسهيلات كبيرة وقواعد لهذه القوات داخل اربيل وحولها، وأصبحت القنصلية الامريكية هناك المقر الأساسي للعمل الدبلوماسي الامريكي في العراق منذ ان تزايدت الهجمات المسلحة على السفارة في بغداد. اما السبب فهو واضح حيث ان الحزب يعتبر الوجود الامريكي ضامنا لحالة (شبه الاستقلال) عن بغداد التي فرضها على العراق بعد الاحتلال وبدعم أمريكي كامل. علما بان الحكومة العراقية المركزية لا تمتلك أي سلطة فعلية على حكومة الإقليم الكردي لكي تجبره على تنفيذ برنامجها وجدولها المقترح لإجبار القوات الامريكية على ترك العراق منطقة إقليم كردستان.
الأحزاب السنية هي الأخرى، وعلى ضعفها على الساحة السياسية وفي البرلمان، لا تؤيد فكرة الانسحاب الامريكي لسببين: مصلحي وطائفي، لا علاقة لهما بالمصلحة الوطنية. فهي تعتبر الوجود الامريكي (عنصر تحييد لهيمنة الأحزاب الشيعية وللنفوذ الإيراني)، ولانها تتمنى ان تقوم الولايات المتحدة بقلب الاوضاع وإعادة بعض من النفوذ السياسي لهم. وهناك من تلك الجهة، احزابا واشخاصا، ومن ضمهم بعثيين، من يتعاون مع واشنطن لهذا الغرض، متناسين ما حل بالعراق من جراء التدخل الامريكي السافر. وما يؤكد موقف الحزب الكردستاني والأحزاب السنية هذا هو عندما طُرِحَت فكرة اخراج القوات الأمريكية داخل البرلمان، انسحب اغلب النواب الأكراد والسنة من الجلسة، وصُوِّتَ على (التوصية) بالأغلبية الشيعية، كما يمكن القول ان الكتل البرلمانية الثلاثة جميعا (الشيعية والسنية والكردية) متشابهين في عدم الجدية في هذا الموضوع بدليل ان ما صدر عن البرلمان كان مجرد (توصية) وليس (قانونا ملزما!) كما ذكرنا سابقا. (بالمناسبة فان كل هذه الكتل والأحزاب لم تتدخل لإلغاء توصية رفعتها وزارة الخارجية لرئيس الوزراء تقترح فيها الغاء لجنتين مهمتين شكلتا لدراسة الأضرار التي لحقت بالعراق من جراء الإحتلال وقصف إسرائيل للمفاعل النووي، والتي يمكن ان تُقر في اية لحظة).
من لا يعرف حقيقة السياسة العراقية بعد 2003 قد يصاب بنوع من (اللخبطة) او التشويش لهذه التصريحات المتضاربة، ولكن اذا عاد المراقب الى احداث الأسابيع الاخيرة التي جرت في بغداد، والى المواقف الحقيقة للاطراف المشاركة في العملية السياسية فانه سيتمكن من الوصول الى تفسير واضح.
ابتداءا فان موقف رئيس الوزراء لا يمكن تفسيره بدون ربطه بقضيةٍ (فضيحة) وضعته وادارته في موضع حرج جدا داخليا. حيث تم الكشف عن وجود شبكة كبيرة للتنصت على قيادي الأحزاب السياسية والدينية والمجتمعية. وان هذه الشبكة كانت تعمل منذ مدة غير قصيرة، (اطلق عليها معهد واشنطن المعروف تسمية فضيحة ووتر غيت العراقية). وثبت ان الشبكة يديرها موظف في مكتب رئيس الوزراء نفسه، ومرتبطة، وهذ الأهم، بسلسلة مراجع من افراد من عائلة السوداني، والذين كان رئيس الوزراء هو بنفسه من وضعهم في تلك المناصب الحساسة، وان رئيس جهاز المخابرات العراقي (من عائلة السوداني ايضا) على علم بالعملية، او يُشرِف عليها. وهناك من زاد بالقول ان الولايات المتحدة زودت الشبكة بمعدات تنصت متقدمة. هذه الفضيحة ربما تكون السبب الذي دفع السيد رئيس الوزراء للظهور المفاجئ والحديثة عن الإنسحاب، في محاولة منه لتحسين صورته بعد ان إتُهِمَ مباشرة من أطراف مختلفة بانه هو من يقف وراء شبكة التنصت. وأنه اراد من وراء تصريحه المفاجئ استباق خطوة بدأ يدور الحديث عنها تتعلق برغبة المتضررين من عمليات التنصت لطرح الثقة به وبوزاته. خاصة وان السيد السوداني لا يمتلك اية كتلة او أغلبية خاصة به في البرلمان، والذي تسيطر عليه اطراف طالما اتهمته بعدم جديته في مسالة اخراج القوات الامريكية. بعض المراقبين يضيفون مسالة أخرى كدليل على سعي السيد السوداني على إسترضاء إيران وحلفائها في العراق، تتمثل بالطريقة التي تجاوز فيها السيد السوداني الأعراف والتقاليد والبروتوكولات الدبلوماسية عندما قام بنفسه بإستقبال السيد مسعود بزشكيان، رئيس جمهورية إيران، في المطار وإصطحبه الى القصر الجمهوري ووقع معه 14 وثيقة للتعاون الثنائي، وزاد على ذلك بأن اكد للضيف ان حكومته (ترفض بشكل قاطع أي إستخدام للأراضي العراقية لمهاجمة إيران).
السؤال الاول والأخير يبقى هو هل ستنجح افعال السيد محمد السوداني في إبقائه في منصبة؟ وهل سينجح في إخراج القوات الأمريكية وغيرها من العراق بعد ان قطع الرئيس الامريكي وادارته الشك باليقين ورفضوا فكرة الجدولة والإنسحاب، مثبتين ما هو معروف للكثير من المطلعين على الشأن العراقي، بان الولايات المتحدة لن تترك العراق، وانها احتلته لكي تبقى فيه وان القوى السياسية العراقية الحاكمة اما غير قادرة على اجبارها على الانسحاب او انها مرتاحة لوجودها. وفي ظل وضع عراقي متشرذم ومنقسم تضع القوى السياسية الحاكمة فيه مصالحها واستئثارها بالمال العام قبل كل شيء، وفي ظل عدم وجود حكومات قوية قادرة على تحقيق مصالح العراق الوطنية، فان كل ما يجري من حديث عن هذا الموضوع (او عن الإصلاح) يبقى ضحكا على الذقون وذرا للرماد في العيون وللمزايدات السياسية لاغير.
*كاتب وأكاديمي عراقي
2185 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع