اسْتخدامات الذَّرَّة السِّلْميَّة، الكوبلت مثالًا

عبد يونس لافي

اسْتخدامات الذَّرَّة السِّلْميَّة، الكوبلت مثالًا

إتمامًا لمقالتي السابقة التي نشرت في 81/8/2024 تحت عنوان:
( نداء إلى تُجّارِ الحروب، ووكلاءِ الشيطان1 )، سأتناولُ بعضًا من اسْتخداماتِ الذَّرَّةِ السِّلْميَّةِ، ضاربًا لذلك مثلًا في عنصر الكوبلت (Cobalt)، وما يمكن أنْ يقدِّمَه في هذا المجال الذي يمثل غيضًا من فيضٍ بالنسبة للاسْتخدامات الاخرى للذرة، مبتعدًا - ما اسْتتطعْتُ - عن التفاصيلِ الدقيقةِ، بُغيةَ التيسير.

يوجد الكوبلت في الطبيعة مستقِرًّا غير نقي، فاذا ما اريد تنقيتُه، أُمرِرَ بمراحلَ معقَّدةٍ للتخلص مما يرافقه من شوائبِ النحاس والنيكل والكبريت والزرنيخ والقصدير.

وتعتبر جمهورية الكونغو الديموقراطية (Democratic Republic of Congo) اغنى دولة يتوافر فيها هذا العنصر، حيث تقدر نسبة الإنتاج فيها بما يقرب من %60 عالميًّا، وما يقرب من %50 من احتياطي العالم.

يدخل الكوبلت وهو في حالته المستقرة، في صناعة البطاريات المستخدمة في السيارات الكهربائية، وفي بطاريات ما يمكن حمله من تلفونات خلوية، أو أجهزة إلكترونية. ويستخدم أيضًا في السبائك، وتلوين الزجاج والسيراميك واللوحات الفنية، بالإضافة الى استخدامه في تحفيز التفاعلات الكيمياوية، إلّا أنَّ استعمالاته حالة كونه مشعا تفوق استعمالاته مستقرّا بكثير.

من الممكن تحويل الكوبلت المستقر، الى مشع، بتشعيعه في داخل المفاعلات النووية (Nuclear Reactors) ، حيث يتعرض الى سيل هائل من النيوترونات الناتجة عن الانشطار، فيتحول الكوبلت المستقر (CO59) الى الكوبلت المشع (CO60) محررا اشعة گاما كنتيجة للتفاعل بين النيوترونات والكوبلت، ويرمز لهذا التفاعل بما يلي:
Cobalt 59 + n = Cobalt 60 + γ
حيث n ترمزالى النيوترونات، و γ ترمزالى اشعة گاما.
وعندما يتحول الى حالته المشعة، يدخل في استخدامات كثيرة في مجالات الطب
والعلوم والزراعة والصناعة.

وللكوبلت ثمانيةٌ وعشرون نظيرًا مشعًّا، تشترك جميعها بنفس العدد الذري، لكنها تختلف في وزنها الذري تبعًا لاختلاف عدد النيوترونات التي تنطمر داخل انويتها2. لذا فإن للنظائر أوزانا ذرية مختلفة، وبالتالي فهي مختلفة كذلك في خصائصها الاشعاعية، وعليه فلكلٍّ منها ما يسمى بعمر النصف تتسم به. فعمر النصف للنظير CO60 مثلًا هو 5.27 سنة، وهوالأعلى من بين النظائر الاخرى.

و يعرف عمرُ النصفِ على انه الوقت الذي يستغرقه نصف النظير ليشع ثم يتحول الى نظير مختلف. لذلك بعد عمر النصف الأول، يختفي نصف اشعاع النظير، وبعد عمر النصف الثاني، يبقى ربع االنشاط الاشعاعي، وهكذا تتحول النظائر الاصلية بمرور الزمن لتكون ذات قدرات اشعاعية مختلفة عن النظير الاصل. إنَّ عملية التضاؤل الاشعاعي هذه يشار إليها علميا باسم الاضمحلال الإشعاعي (Radioactive Decay).

يتحلل الكوبلت المشع CO60 باعثا نوعين من الاشعة هما:
1. اشعة بيتا (Beta Rays or Beta Radiation β)
وهي عبارة عن الكترونات ذات طاقة عالية.
2. اشعة گاما (Gamma Rays γ)
وهي اشعة كهرومغناطيسية لا تتأثر بالمجال المغناطيسي. هذه الأشعة هي ما يستفاد منها في نواحٍ تطبيقيةٍ واسْتخداماتٍ متعدِّدة منذ مائة سنة حتى اليوم.
الآن نأتي الى ذكر بعض هذه الاستخدامات:

استخدامات الكوبلت في مجال الطب
وحدات الكوبلت الطبية متنوعة يتم بناؤها تبعًا لأغراض استعمالها ومنها:
1. الوحدات المستخدمة لأغراض التشعيع الداخلي
تكون صغيرةَ الحجم، مختومةً بدروعٍ واقية إذ تحتوي على مصدر الكوبلت عالي الجرعة. توضع آلِيًّا في داخل الورم او بجواره لمدة زمنية قصيرةٍ محسوبةٍ ومسيطرٍ¬¬¬¬¬¬¬عليها. استخدمت اشعة كاما المنبعثة عن هذه الوحدة في علاج بعض الحالات المتعلقة بسرطان البروستات والأورام التي تظهر في مناطق من الجسم كالرأس والرقبة والثدي، كما استخدمت في معالجة وبعض حالات السرطان لدى النساء.

2. الوحدات المستخدمة لأغراض التشعيع الخارجي
استخدمت هذه الوحدات في الماضي لغرض العلاج عن بعد لتحطيم انسجة الاورام السرطانية. تصمم مثل هذه الوحدات لتشمل جزءين مهمين هما:
غرفة السيطرة والمصدر الكوبلتي، اما الاولى فتبنى من خرسانة واقية واما الثاني فيوضع في حاوية رصاصية كروية مجوفة خارج غرفة السيطرة.
ان العمليات المتعلقة بتحديد مقدار الجرعة، وزمن التشعيع، وتحديد مكان المصدر داخل الحاوية، تتم في داخل غرفة السيطرة.

لقد ثبتت فاعلية استخدام الكوبلت في تحديد اماكن الخلايا المسرطنة، ومدى انتشار السرطان، وتحديد الأضرار الناجمة عن الإصابات بالسكتات الدماغية.

استخدامات الكوبلت في مجال الزراعة
استخدمت وحدات الكوبلت في إحداث الطفرات الوراثية حيث يتم تشعيع البذور جافةً او بعد نقعها بالماء، ومن ثم تزرع لتتم بعد ذلك مراقبة ما يحدث لها من تغير. ان تأثير الاشعاع قد يحدث بسرعة في المنتوج الاول وقد لا يحدث الا في الاجيال المتعافبة. ولقد تم التوصل الى نتائج طيبة في هذا المجال حيث قامت تجارب لتشعيع الحنطة والذرة والسمسم فأعطت ناتجا اوفر، ونوعا افضل، ومقاومة للامراض اكبر. وبطبيعة الحال فهناك خسارة واضحة في الكميات المستحسنة ترجع الى ان الكميات المشععة لا يمكن ان يحدث في جميعها التحسن، لكن يكفي ان نحصل على نسبة معينة منها للتكثير وتحسين النوع لغرض الانتاج والبحث.

استخدام الكوبلت في حفظ الاطعمة
لا ريب ان حفظ الاطعمة اصبح من الضرورات الحتمية الملحة في عالم اليوم، واذا كانت الطرق الاعتيادية المتبعة في حفظ الاطعمة قد قامت على اساس تعريضها الى حرارة عالية، وتحت ضغوط عالية لكي يتم القضاء على الميكروبات التي يلعب تكاثرها دورا اساسيا في تلفها، فان هناك خسارة تحدث في فقدانها بعض القيمة الغذائية، اضافة الى تغير طعمها ورائحتها.

ولتفادي هذه الخسائر استخدم الكوبلت المشع لهذا الغرض، وصار بالامكان القضاء على تلك الميكروبات بواسطة اشعة گاما المنبعثة عن هذا المصدر دون الحاجة الى التعرض للحرارة والضغط العاليين. وعليه صار من الممكن حفظ كميات كبيرة من البقليات في الظروف الاعتيادية كالبصل والبطاطا والثوم دون ان تتعرض الى الانبات او التلف. واصبح ممكنا ايضا حفظ اللحوم في درجات الحرارة الاعتيادية بعد تشعيها دون التخوف من تغير طعمها او رائحتها، وكل ذلك يعود الى اشعة گاما في قضاءها على الميكروبات.

استخدام الكوبلت في القضاء على الحشرات الضارة
نسمع من حين لاخر ان جيوشا من الحشرات داهمت بعض الحقول لتذرها قاعا صفصفا، حيث ان تكاثرها بشكل سريع يجعل مقاومتها غير ممكنة بالطرق المألوفة، لذا كانت فكرة استخدام الكوبلت في هذا المضمار حيث ِ تعقم ذكور الحشرات ( اي جعلها عقيمة غير قادرة على الانجاب) في وحدات الكوبلت، ثم يفسح لها المجال لكي تطير ومن ثم تتزاوج مع الاناث لتنتج بيوضا غيرمخصبة، وبذلك يمكن ايقاف هذا التكاثر الخطير.
بقي لنا ان نقول ان مجالات استخدام الكوبلت في الزراعة لا تقتصر على ما ذكرنا بل تتعدى ذلك الى مجالات اخرى متعددة يضيق بنا حصرها وانما الذي ذكرنا لا يعدو ان يكون امثلة.
.1 نداء إلى تُجّارِ الحروب، ووكلاءِ الشيطان
https://algardenia.com/maqalat/64511-2024-08-18-06-09-50.html

.2 تجدر الاشارة الى ان العدد الذري يعرف على انه عدد اليروتونات الموجودة في نواة كل ذرة بغض النظر ان كانت متعادلة الشحنة او متأينة، اما الوزن الذري فهو مجموع النيوترونات واليروتونات داخل النواة.

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

3140 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع