الباميا وحكايتها .. الجزء الرابع

الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل

الباميا وحكايتها .. الجزء الرابع

من الطرائف عن الباميا أن الشاعر معروف الرُّصَافِي (1875-1945 م) كان عنده خادم اسمه (حمدان)، وهذا الخادم جمع بين البلاهة وعدم الأمانة. وفي أحد أيام عام 1930 أعطاه الرصافي خمس روبيات وقال له اطبخ لنا باميا ودبر أمور البيت بالباقي.

راح (حمدان) للسوق ورجع للرصافي وقال له صرفت الخمس روبيات كلها على جدر الباميا!! فانزعج الرصافي وقال له: ولك ما تفهمني شلون صرفت الخمس روبيات كلها على الباميا؟!

أجاب حمدان: بـانتين (أجزاء الروبية) باميا وبانتين طماطة وبانة راس ثوم وبعشر آنات لحم وبآنة فلفل وبهارات وبآنة للحمال!!

الرصافي قال له: زين هاي كلها يالله تسوي روبية .. الأربع روبيات وين صارت؟
حمدان تلعثم وقال له: اشتريت بيها فحم حتى أطبخ الباميا!!
صاح الرصافي.. ولك إذا الفحم بأربع روبيات روح حط الفحم بالجدر واشعل اللحم والباميا والطماطة .. طلعت البطانة أغلى من الوجه.

من القصائد شعبية باللهجة الموصلية عن الباميا:
أغيدا للباميا من أول الصفــاري ألح بالغجال ويقلي بطلي هالقراي
وركي من اتمطغ الدني وتقغب البغداي إتدود ايقلي ..لاتصيغين دوايي
بالشتي اتمطغ وتجيكي هذيكة الزخاي ماكو شي بالسوق غيغ الجزغة والفجلاي

 

قصيدة (الباميا الملوكي والقرع السلطاني) تسبب بنفي بيرم التونسي:
شاعر الشعب وهرم الزجل محمود بيرم التونسي (1893-1961) شاعر مصري ذو أصول تونسية، ويُعد من أشهر شعراء العامية المصرية. ولد لعائلة تونسية كانت تعيش في مدينة الإسكندرية. هجر التعليم في سن مبكر وانكب على القراءة، وخاصة الشعر، الذي شرع في كتابته بالعامية.

أسس الموسيقار زكريا أحمد شلة "أهل الهوى"، وانضم لها سيد درويش وبيرم التونسي، وكان شرط الانضمام لها أن يكون الفنان عاشقا لوطنه وفنه، لينطلق بيرم بعدها في مسيرة حافلة بشعر العامية، بأشعاره البسيطة التي تصل لرجل الشارع وإلى الحاكم على السواء. وكانت قصيدة (المجلس البلدي) أولى القصائد التي ذاع من خلالها صيته وفيها وجه انتقادات حادة للمجلس البلدي لفرضه ضرائب كبيرة على السكان، حيث يقول فيها:

قد أوقع القلب في الأشجانِ والكمدِ ... هوى حبيب يسمى (المجلس البلدي)

عشق بيرم الصحافة، فأصدر صحيفة (المسلة)، وكان يملأ صفحاتها المتنوعة بنفسه، يطبعها ويوزعها على حسابه الشخصي، واصطدم مع الرقابة التي حاولت أن توقف صحيفته، وكانت حيلته أن يكتب على رأس الصفحة الأولى "المسلة.. لا صحيفة ولا مجلة"، وطلب ساخرا من الحكمدار أن يأذن له بالإتجار في الحشيش، لأنهم يمنعون حرية الصحافة وقد يسمحون بالحشيش.

وكتب بيرم لسيد درويش عددا من الأغاني ذات الطابع السياسي التي حوت انتقادات للأسرة المالكة.

بيرم التونسي والعائلة المالكة في مصر:
تعددت أوجه الصدام بين بيرم التونسي والملك فؤاد ومن بعده الملك فاروق؛ مما أدى إلى نفيه وتشريده خارج مصر لمدة ١٨ عامًا. فحين جلس فؤاد على العرش بعد وفاة السلطان حسين كامل ظل محملًا لقب السلطان حتى صدر تصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢ الذى أعلن تحويل مصر إلى ملكية، فأصبح اسمه (الملك فؤاد)، وذلك بعد قيام ثورة ١٩١٩، واعترف التصريح بإلغاء الأحكام العرفية.
لكن هذا التصريح لم ينه التدخلات البريطانية في مصر؛ حتى أن سعد زغلول وصف تصريح فبراير بأنه نكبة وطنية كبرى.

هنا نظم بيرم التونسي مجموعة قصائد في مدح سعد زغلول ونقد الامتيازات الأجنبية، منها قصيدة (مجرم ودون) كتبها بيرم ضد السلطان فؤاد لتسلميه مصر بالتوقيع على تصريح ٢٨ فبراير، ومما قاله فيها:

ولما عدمنا بمصر الملوك ... جابوك الإنجليز يا فؤاد قعدوك
تمثل على العرش دور الملوك ... وفين يلقوا مجرم زيك ودون
ما نابك إلا عرش يا تيس التيوس ... لا مصر استقلت ولا يحزنون

ثم انتشرت أقاويل طالت ابنه الملك فؤاد من زوجة الأولى شويكار؛ واستهتارها في علاقاتها وتعيين عشيقها محافظًا للقاهرة، فنظم بيرم قصيدة (البنت ماشية)، ومما قاله فيها:

البنت ماشية من زمان تتمخطر ... والعقلة زارعة في الديوان قرع أخضر
تشوف حبيبها في الجاكتة الكاكن ... والستة خيل والقمشجى الملاكي
يا راكب الفيتون وقلبك جامي ... حود على القبة وسوق قدامي
تلقى العروسة مثل محمل شامي ... وأبوها يشبه في الشوارب عنتر
ولما جه الأمر الكريم بالدخلة ... قلنا اسكتوا خلوا البنات تتستر
نهاية يمكن ربنا يوفقكم ... مادام حفيظة الماشطة بتزوقكم


قصيدة (الباميا الملوكي والقرع السلطاني) تسبب بنفي بيرم التونسي:
ومع اندلاع ثورة عام 1919 كان بيرم من أشد المؤيدين لها، ولم يلبث بيرم التونسي أن يكتب زجلاً آخر أكثر جرأة بعد أن أُعلن عن مولد فاروق في 11 فبراير سنة 1920، ولم يكن قد مضى على زواج والده الملك فؤاد الأول (1868-1936) بزوجته الثانية الملكة نازلي بعد طلاقه لزوجته الأولى الأميرة شويكار. وقد أشيع أن الحمل في فاروق حدث قبل عقد القران، فكان الزجل الذي كتبه بيرم بعنوان (الباميا الملوكي والقرع السلطاني):

الباميا في البستان تهز القرون ... وجنبها القرع الملوكي اللطيف
والديدبان داير يلم الزبون ... صهين وقدم وامتثل يا خفيف
نزل يلعلط تحت برج القمر ... ربك يبارك لك في عمر الغلام
يا خسارة بس الشهر كان مش تمام
والناس قرون كنا نقول مأمأ ... ونأكل البرسيم بالقفة
سلطان بلدنا مرته جابت ... ولد وقال سموه فاروق
فاروق فارقنا بلا نيلة ... دي مصر مش عايز الها رذيلة


تسببت قصيدة (البامية الملوكي والقرع السلطاني) في غضب الملك فؤاد عليه، وأصدر قرارا بإبعاده من مصر، ونفيه إلى تونس بتوصية من زوج الأميرة فوقية ابنة الملك فؤاد حيث هاجمه في مقال تحت عنوان (لعنة الله على المحافظ) حيث كان آنذاك محافظًا للقاهرة.

وعندما وصل بيرم إلى تونس بحث عن أهل أبيه، ولكنهم طردوه ولم يساعدوه، وكانت الإدارة التونسية تضعه تحت المراقبة منذ وصوله، باعتباره مشاغبًا وباعث ثورات، فقرر الرحيل من تونس وسافر بيرم إلى فرنسا.

عانى بيرم الكثير في فرنسا من جوع وحرمان وعمل في أحد مصانع الحديد والصلب لقاء أجور لا تسد رمقه، ولم ينقذه من الموت جوعًا سوى عثوره على وظيفة في شركة المنتجات الكيماوية العالمية.

لم يستطيع بيرم مواصلة تلك الحياة القاسية، ولم يتصور الابتعاد عن زوجته وأولاده لأكثر من عام ونصف؛ وشعر بحنين إلى مصر، وإلى أولاد البلد الذين أعطوه الإلهام، وبدأ في البحث عن طريقة تساعده في العودة إلى مصر، فلجأ إلى اختصار اسمه في جواز السفر الجديد الذي كان يحمل ختم القنصلية البريطانية، واستطاع بهذا الجواز أن يصعد إلى السفينة، وينزل في ميناء بورسعيد، وذلك في يوم 27 مارس عام 1922، واتجه إلى الإسكندرية، وتحديدا حي الأنفوشي، متخيلًا اللحظة التي سيلتقي فيها بزوجته، ويأخذ بين يديه مولودهما الذي لم يتعرف على ملامحه بعد، فقد ترك زوجته وهي حامل، وما إن وصل إلى حي الأنفوشي حتى علم أن زوجته وضعت طفلة اسمها عايدة، وأنها طلبت الطلاق في فترة غيابه، وحصلت عليه بعد أن أثبتت أن زوجها مغضوب عليه، وليس هناك أي أمل في عودته للبلاد.

واستمر وجود بيرم في مصر لمدة 14 شهرًا، وتم اكتشاف أمر دخوله مصر متسللًا، وتم القبض عليه ونفيه إلى فرنسا، فكتب معبرا عن معاناته:

الأوله آه والثانية آه والثالثة آه
الأوله مصر قالوا تونسي ونفوني جزاة الخير وإحساني
والثانية تونس وفيها الأهل جحدوني وحتى الغير ما صفاني
والثالثة فرنسا وفي باريس جهلوني وأنا موليير في زماني

في العام 1938، تسلل بيرم إلى مصر عبر ميناء بورسعيد، واختبأ عن الأنظار حتى توسط له مدير دار الأوبرا الملكية الفنان سليمان بك نجيب، وخاطب الملك فاروق ليطلب العفو عنه، فوافق الملك.

وبعد أن جاء العفو، انفتحت أبواب الفنانين على أشعار بيرم، والتقى بالسيدة أم كلثوم، وقدما معا أجمل أغانيها في الأربعينيات والخمسينيات، وشكّل اللقاء الفني بينهما أحد مراحل الازدهار لكليهما وأثمر عن 33 أغنية من أشهر الأغنيات التي شدت بها أم كلثوم وحققت نجاحاً ساحقاً، أبرزها "شمس الأصيل"، و"الورد جميل"، و"أنا في انتظارك"، و"أهل الهوى يا ليل"، و"يا صباح الخير ياللي معانا". ثم كانت "القلب يعشق كل جميل" عام 1971 التي وصف فيها بيرم رحلته لزيارة مكة المكرمة وأداء شعائر الحج وأنشدها أم كلثوم بعد وفاته بعشرة سنين.

https://www.youtube.com/watch?v=DJ1RYHX074U&t=6s

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1237 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع