سيكولوجيا استغلال العشائرية وأثرها على استقرار إقليم كوردستان

 

د. نزار گزالي
دكتوراه في علم النفس

سيكولوجيا استغلال العشائرية وأثرها على استقرار إقليم كوردستان

لماذا نتحدث عن العشائرية اليوم؟

في الأيام الأخيرة، تداولت وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو لخلافات عشائرية في إقليم كوردستان، أعقبها سيل من التعليقات والتحليلات التي عكست تحولًا خطيرًا في سيكولوجية المجتمع الكوردي.
هذه المشاهد لم تكن مجرّد “أحداث عابرة”، بل كانت بمثابة جرس إنذار، يكشف كيف يمكن لبنية اجتماعية تقليدية – كالعشيرة – أن تتحول من عامل تماسك إلى أداة تفكيك وانقسام، إذا تُركت دون وعي أو تنظيم أو تقنين.

وفي ظل التحولات المتسارعة في الشرق الأوسط، والتقاطعات الإقليمية، والتحديات الاقتصادية والسياسية التي يواجهها الإقليم، تصبح الحاجة إلى تعزيز التماسك النفسي والاجتماعي والسياسي أولوية قصوى، في مواجهة محاولات تفكيك الهوية الكوردية من الداخل قبل الخارج.

1. العشيرة كهوية نفسية (الانتماء العشائري كاستجابة نفسية للأزمات)

كل إنسان بحاجة إلى الانتماء، وهذه حاجة أكّدتها دراسات علم النفس الاجتماعي، مثل “نظرية الهوية الاجتماعية” (Tajfel & Turner, 1979).
في كوردستان، حيث تعاني بعض المناطق – لا سيما ذات الامتداد العشائري – من تراجع في الخدمات، وموضوع تأخر الرواتب، وبعض التحديات الاقتصادية الخانقة، يلجأ المواطن لا شعوريًا إلى أقرب منظومة توفر له الأمان: وهي العشيرة.

تلبّي العشيرة ثلاث حاجات سيكولوجية أساسية:
1. الأمان المادي: عبر القروض، الدعم في الأزمات، الحماية.
2. الأمان النفسي: شعور الانتماء، “أنا لست وحيدًا”.
3. الهوية: خصوصًا لدى الشباب الذين يعانون من أزمة هوية في ظل التغيرات الثقافية والعولمة.

لكن المشكلة تبدأ عندما:
* يصبح الولاء للعشيرة أقوى من الولاء للوطن، الإقليم، والقضية الكوردية.
* يتحول الانتماء إلى تعصب أعمى يبرر العنف والتخوين.
* تُستبدل قيم المواطنة بعقلية “أبناء العشيرة أولى”.

وهنا تنزلق العشائرية من وظيفة اجتماعية صحية إلى دور نفسي معيق، يكرّس الانغلاق ويُعيق بناء مجتمع مدني حديث.

2. التوظيف الخارجي للعشائرية: تفتيت الهوية من الداخل

في المناطق الهشة سياسيًا ومؤسساتيًا، تتحوّل العشيرة إلى أداة يمكن استغلالها من قِبل جهات خارجية لإشعال الفتن الداخلية، عبر:
* إحياء المظلوميات التاريخية، وتعزيز شعور “الضحية الجمعية”.
* دعم زعامات عشائرية سياسيًا وماليًا، وتشكيل ميليشيات تحت عناوين “الدفاع عن الشرف”.
* تضخيم النزاعات الصغيرة وتحويلها إلى قضايا وجودية.
* بناء كيانات موازية للدولة (محاكم عرفية، سلطة تنفيذية عشائرية).

تؤدي هذه الآليات إلى تفتيت الهوية الوطنية، وتحويل الولاءات من كيان كوردي جامع إلى دوائر مغلقة متصارعة، مما يُضعف موقف الإقليم في الداخل والخارج.

3. التأثيرات النفسية العميقة للصراع العشائري

الصراع العشائري لا يهدد الأمن السياسي فقط، بل يترك ندوبًا عميقة في سيكولوجيا الفرد والمجتمع:
* قلق دائم وخوف من الانتقام، خاصة في المجتمعات الصغيرة.
* اضطرابات ما بعد الصدمة (PTSD) لدى الأطفال والمراهقين.
* تحلل الثقة الاجتماعية، وتفشي العزلة والبارانويا.
* تعزيز خطاب “نحن مقابل هم”، مما يُغذّي عقلية الصراع ويُعيق الحوار.

كما تؤدي البيئة القائمة على الولاء القبلي إلى هجرة الكفاءات وتكريس الوساطة والمحسوبية، مما يُقوّض أي مشروع إصلاحي أو تنموي.

4. العشائرية والإعلام: خطر مضاعف على السيكولوجيا الجماعية

تلعب وسائل الإعلام – وخصوصًا الإعلام الرقمي غير المرخص (العشوائي) – دورًا خطيرًا في تأجيج الصراعات العشائرية، من خلال:
* بثّ فيديوهات تحريضية وأحداث مشوّهة.
* نشر قوائم عشائرية وتقارير مفبركة.
* استحضار سرديات الثأر والدم.
* تصوير الخلافات على أنها صراعات شرف وقومية.

هذا الخطاب يُضاعف من التوتر النفسي، ويُكرّس عقلية الانتقام، وفي بعض الأحيان يخلق أجواء تُهيّئ لتدخلات خارجية “بحجّة حماية المكوّنات”.

5. الواقع السياسي والنفسي في كوردستان: مفترق طرق حرج

إقليم كوردستان يواجه اليوم تقاطعات داخلية وخارجية ضاغطة:
* توتر مستمر مع بغداد حول الميزانية والنفط.
* تأخير الرواتب وتراجع النمو الاقتصادي.
* صراع سياسي داخلي يُضعف وحدة القرار.
* تغلغل تأثيرات إقليمية توظّف العشائرية كسلاح نفسي واجتماعي.

في ظل هذه التحديات، يصبح الولاء العشائري ملاذًا خطيرًا، يُضعف الولاء الوطني، ويُهدد الكيان والقضية الكوردية من الداخل.

6. من الولاء القبلي إلى المواطنة: خطوات استراتيجية مقترحة

لمواجهة هذا الواقع، لا بد من مشروع متكامل يشمل:
1. إصلاح التعليم:
بتعزيز مفاهيم المواطنة، والهوية الوطنية الجامعة، والتاريخ الكوردي المشترك، لا العشائري المتنازع عليه.
2. تعزيز العدالة والمؤسسات:
فكلما زادت ثقة المواطن في مؤسسات الدولة، تراجعت حاجته للبحث عن “وسيط عشائري” للحصول على حقوقه.
3. مراقبة الإعلام والتحريض الرقمي:
عبر لجنة عليا تضم الادعاء العام ووزارات الداخلية والثقافة، لضبط الإعلام ومحاسبة المحرضين على الفتنة.
4. تحويل العشيرة من عبء إلى رصيد:
بإشراك الوجهاء في مشاريع المصالحة والتوعية بدلًا من الاصطفاف.
5. حماية المدافعين عن الهوية الوطنية:
من الناشطين والمثقفين الذين يواجهون الإقصاء أو التخوين بسبب مواقفهم التنويرية.

خاتمة: نحو سيكولوجيا وطنية لحماية الكيان الكوردي

إن الحفاظ على القضية والكيان الكوردي لا يبدأ من قمم السياسة، بل من قاع الوعي الجمعي،
من سيكولوجيا المواطن، من إحساسه بالعدالة والانتماء والأمان.

العشيرة ليست عدوًا، لكنها ليست بديلًا عن الوطن والقومية.
نحن لا نلغيها، بل نُعيد توجيه طاقتها نحو دعم التعايش، لا تأجيج النزاع.

وفي لحظة إقليمية حاسمة، حيث تُبنى التحالفات وتُرسم الخرائط، يجب أن يكون الوعي النفسي الكوردي في مستوى التحدي، موحدًا، واثقًا، وراغبًا في تجاوز الانقسامات الداخلية، لأن:

الكوردي الذي يُقدّم ولاءه للعشيرة قبل وطنه، يشبه مَن يبني سجنًا بيديه ثم يطلب الحرية.”

المراجع
1. Al-Kandari, Ali, and David T. Herbert. “Tribalism, Sectarianism and Democracy in the Middle East.” Middle Eastern Studies 56, no. 1 (2020): 1–17. https://doi.org/10.1080/00263206.2019.1699246.
2. Baram, Amatzia. Culture, History and Ideology in the Formation of Ba’thist Iraq, 1968–89. New York: St. Martin’s Press, 1991.
3. Gunter, Michael M. “Iraqi Kurdistan: A Paradigm of Autonomy.” Middle East Policy 14, no. 1 (2007): 122–131.
4. Al-Tamimi, Nibras. “Tribalism, Identity and Power in Iraq: The Role of Tribes in the Kurdish and Arab Communities.” Contemporary Arab Affairs 12, no. 2 (2019): 110–128. https://doi.org/10.1525/caa.2019.122005.
5. Tajfel, Henri, and John C. Turner. “An Integrative Theory of Intergroup Conflict.” In The Social Psychology of Intergroup Relations, edited by William G. Austin and Stephen Worchel, 33–47. Monterey, CA: Brooks/Cole, 1979.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

841 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع