الدكتور رعد البيدر
ما قبل عاصِفَةُ الصَحراء ... بَينَ المَخفي والمَكشوف
{ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } [الأنبياء:18]
نُمَهِدُ للقارئ الكريم ؛ بأننا نَكتُبُ عن نطاقٍ زمني سَبقَ قيام الحرب التي سُميَّت بـ (عاصفة الصحراء ، أو حرب الخليج الثانية ) او " ام المعارك " وفقاً لرغباتِ كُل من أطلقَ التسمية التي تَروقُ لهُ ، ويَسمعُ لها صدىً يُشبِعُ رَغَباتهِ.
بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على الاجتياح العراقي للكويت ما زالت بعضُ الخفايا والاسرار عن تَوَتُر علاقات البلدين ، لم يطَّلِع عليها احد ، والكثيرُ منها اسرار دُفِنَت مع الذين ارتَحَلوا الى رَحمةِ وحسابِ ربٍ كريم لا يَخفى عليه شيءٌ في الارضِ ولا في السماء - كلُ طرفٍ يدعي ان الحقَ معهُ والباطلُ مع الطرف الآخر؛ فَيَرميهِ باتهامات تُدمِغُهُ لتُزهِقه ، وقد وَعَدَ الله الكاذبين بالوَّيلِ مِما يصفون.
يُخطئ مَن يظنُ اننا بكتابة ونشر المقال نَنكَأُ الجُروح ؛ بل على العكس نُداوي الحقيقة المَجروحةِ بالافتراءِ والتضليل ( التآمُر ) الذي سَبَقَ اجتياح العراق للكويت ، وما اعقبهُ من احداثٍ ارتبَطَت بعلاقات البلدين مع بَعضِهما ، وبعلاقاتهما مع دولٍ أخرى ، ومع منظماتٍ دولية و إقليمية ، وشخصياتٍ مَعروفة - وقفَت مع هذا الطرف او ذاك ، او اختارت الحياد دونَ أن تَتَدَخَل .
لعاصفةِ الصحراء جذورٌ، مِثلما لها قشور؛ سَنَتَطَرَقُ لعمق جذورها. أما قشورها فهي (الأكاذيب) التي أشاعَها الأمريكان ، ومَن تعاونَ مَعَهُم من ( الأعراب ) وغَيرهِم ؛ لأمورٍ ارتبَطَت بالخوفِ على كراسي حُكمِهم من الزَوال ، أو لتَحقيق مَنافِع - نَظير مَواقف ابتعَّدَت فيها ( ضمائرهم ) عن خِشيّة رب السماء وقيَّم الإنسانية ، مُتناسين قول الله تعالى في الآية ( 30 ) من سورة آل عمران : ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ).
اوجبت الضَرورة أن نتوسع بغايتنا من المَقال لنُحقق التكامل مع مقال سابق كتبناه عن كتاب " أم المعارك - حرب الخليج عام 1991 الحقيقة على الأرض" لمؤلفه استاذنا المرحوم الفريق الركن صلاح عبود ... وبذات الوقت نُمَهد بتوسع لمقال لاحق في النية الكتابة عنه - ليتكامل مع أربع حلقات من برنامج " خفايا في كتاب " الذي بثت قناة التغيير الحلقة الأولى منه يوم الجمعة يوم 19 حزيران 2024 ، مستضيفةً الدكتور ناجي صبري الحديثي وزير خارجية العراق الأسبق قبل وخلال فترة احتلال العراق في 9 نيسان 2003 ، و ستُبَث الحلقة الرابعة و الأخيرة منه مساء يوم الجمعة القادم 9 آب 2024 – بمشية الله . مُعظم ما سنعرضه في السياق اللاحق من المقال يخص دور الولايات المتحدة و تحركاتها السرية و العلنية لسنوات سبقت استعراض تحركاتها السياسة والعسكرية - التي أسمتها " بعملية درع الصحراء " المحصورة من 7 آب 1990 إلى بدء العمليات العسكرية لدول التحالف ضد العراق في 17 كانون ثاني 1991 . بإمكان القارئ الرجوع إلى مقال سابق لنا من الرابط التالي :
https://www.algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/60055-2023-08-30-11-52-22.html
تُشير الكثير من الدراسات ، البحوث العسكرية ، الوثائق ، و رسائل و أطاريح جامعية غربية بشكل عام ، والأمريكية منها بشكلٍ خاص إلى مَضامين واضِحَة – تَتنَوعُ في توجهاتها و تَخصُصاتها - قد تَختلفُ في الصياغة التعبيرية ، لكنها لا تختلفُ في تفسير المعنى العام - بأن الولايات المتحدة الأمريكية كان لها نوايا قديمة بافتعال أزمة وإدارتها بما يُصطلحُ عليه " الإدارة بالأزمة " وهو أحد مصطلحات عِلم إدارة الأزمات . وعلى قدر علاقة المُصطَلَح بمقالنا ؛ فإنهُ يعني ( افتعال ) أزمة على مُستوى محلي ، إقليمي ، دولي - مُعيَّن ؛ لتحقيق مصالح شخصية ، أو مصالح لدولةٍ ما ، تَتمَثل بتحريك أطراف الأزمة بما يَخدِمُ الأهداف الاستراتيجية والمصالح المُتوخاة لمُفتَعِل الأزمة - بصرف النظر عن كونه شخصا أو هيكلا إداريا ( مؤسسة ) أو دولة ، أو مجموعة دول مُتَّفِقة فيما بينها على تنسيق خطوات و إجراءات مُحددة، وإجراء التعديلات عليها لِتُلحِقَ ضَرَرَاً بجهةٍ مُستَهدَفة .
بما اننا نكتبُ عن مُجرياتِ أحداثٍ تاريخية قريبة - تعاقَبَ وقوعها حَدثاً تلو الآخر، وأمسَت واضحة الاسباب والنتائج ؛ لذا فلو قُمنا بإسقاط الحقائق التي تكشفت على الواقع الذي تَصَرَفَت به الولايات المتحدة الأمريكية ؛ لَتَبَيَّنَت ( مطامع و زَيف ادعاءات و مغالطات ) الإدارات الأمريكية المُتعاقبة - يُقابلها صِدق الطروحات التي أشارت لها الكثير من المصادر الغربية ، وسننتقي عينات منها ؛ لضمان عدَم التوَّسُع المُمِل ... تاركين للقارئ قناعته الشخصية - بعيداً عن جدلٍ لا يُعيدُ أياماً خَلَّت .
عَرضَ الفريق الركن صلاح عبود في الفصل الثاني من كتابه المشار إليه سلفاً - نصوصاً من مصادر غربية لا تخلو من الحقائق ، وأخرى لا تخلو من المغالطات - منها انهُ في أيلول من عام 2012 قد أطَّلَع على كتاب باللغة الانجليزية اسمهُ (The Mother of all Battles) أم المعارك للكاتب الأمريكي " كيفن وودز". اقتَبَسَ مؤلفه مضامين جزئية من كتاب " مذكرات قائد فيلق في أم المعارك " للفريق الركن صلاح عبود ، يُستَدَلُ من ذلك على تيسر القناعة التامة عند الكاتب " كيفن وودز" بما كتبهُ القائد العراقي . ونُفَسِرُ الاقتباس بِحُسن النيَّة ؛ إذا اشار الكاتب الامريكي لمصدر المعلومة، وبخلافهِ يُعتَبَرُ ( سَرِقَة ) ، وتجاوزاً على الأمانة العلمية ، وعلى حق الملكية الفكرية للكاتب الاصلي .
في كتابهِ " النارُ هذهِ المَرة .. جرائم الحرب الأمريكية في الخليج " The Fire This Time,U.S Warcrimes in The Gulf . أشارَ المُحامي " رامزي كلارك " وزير العَدل الأمريكي الأسبق ، وأحد دُعاة حقوق الإنسان الذين عُرِفَوا بشدة معارضتهِم لحشد القـوة العسـكرية الأمريكيـة في الخليج العربي ( 1990 ) ولأساليب إدارة العـدوان ، وانتخاب الأهداف في العُمق العراقي ، وفي مَسرَح العمليات عام (1991) - ونتائجها الكارثية من الناحية الإنسانية والأضرار التي نَتجَت عن استخدام أسلحة مُحَرَّمَة دولياً ، سيئة التأثير صحياً على جيل الحرب ، ظهرت نتائجها بتكاثر الإصابات السرطانية ، ولن تنجو منها الأجيال القادمة .
رَتَبنا الاقتباسات بالنص ( الكامل ) ، أو بتَصَّرُف ( تطوير الاقتباس بإضافات توضيحية ) وفقاً لتعاقُبِها الزمني وليسَ كما وَرَدَت في صفحات الكتاب ؛ لضمان الترابط الموضوعي والتاريخي ، وإظهار السبب والأثر ( النتيجة ) لتحقيق الوضوح .
تطَّرَقَ " كلارك " إلى خصوصية الظروف الجيوبوليتيكية في منطقـة الخليـج العـربي ، وبيَّنَ مَلامِح بدايات تَطَّـور اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية بشأن المنطقة ، وطبيعة ومدى أي مستوى من التهديدات التي يُمكنُ أن تؤثر على المصـالح الأمريكيـة في الإقليم ، بما فيها قدرات التَّحَكُم في المـوارد الاقتصادية لا سيما الثروات النفطية بأسبقية عالية … مما يعني مَنِع تنامي القدرات العسكرية لأية دولة خليجية - خارج حدود السماح الأمريكي ، حتى في ظل القطبية الثنائية - قبل أن تتحوَّل إلى القطبية الأحادية ؛ إثرَ ( ذوبان ) حلف وارشو آواخر الثمانينات ، و انهيار الاتحاد السوفيتي في مطلع التسعينات ، وبالتالي تحَقُق الانفراد الأمريكي بالقرارات الحساسة عالمياً ؛ دونَ مُراعاة لقواعد القانون الدولي ، وبِتَجاهُلٍ شبه تام لميثاق الأمم المتحدة ، و بالتحكم بقرارات مجلس الأمن الدولي ، قفزاً و تجاوزاً على أدوار البلدان دائمة العضوية .
نقطة انطلاقنا تبدأ من شعار ( نفط العرب للعرب ) الذي رَفَعَتهُ حكومة بغداد؛ حين أقدَمَت على تأميم شركة نفط العراق (IPC) في 1 حزيران 1972. للمزيد من التوضيح فأن الشركة النفطية التي أُمِمَت – قد احتَكرَت جميع عمليات التنقيب عن النفط وإنتاجه في العراق بين عامي 1925 - 1972… يشتَرِكُ في ملكية الشركة مجموعة من أكبر شركات النفط في العالم - منها شركات أمريكية و بريطانية - مقرها في لندن .
https://www.youtube.com/watch?v=MuPXy5AQFk8&t=11s
في أعقاب نجاح تأميم النفط العراقي ، وتَضاعُف أسعار النفط بعدَ حَرُب تشرين ١٩٧٣، وعلى أثر تنامي موارد العراق المالية بشكلٍ سريع ؛ سارَعَت واشنطن لتشجيع القـادة الأكـراد في شـمال العـراق عـلى التمَّرُد ضدَ حكومة بغداد، وتعَهَدَت لهم بوعود مُسـاندَتِهم حتى يُحققون تَطَلُعاتِهم . في الحَقيقة لم تكُن الولايات المتحدة الأمريكية عازِمِة على مُساندة الأكراد فعلياً ؛ بقدَر ما كانت تُراوغ معهم من أجلِ تحقيق أهداف أمريكية بحته - تتمثلُ باستمرار مُستوى مُتواصل من الأعمال العسكرية يُشغِل حكومة بغداد بمشاكل داخلية ، ويَستنزِفُ موارد ثروات العراق ... بالتالي إضعاف خزينة الدولة ، لينعَكِسَ سلبا على مستوى تنمية وتطور البلد.
بدأ التخطيـط والاعداد والتدريب بِنيَّة القيام بعمل عسكري أمريكي في الشرق الأوســط ، مُنذُ بدايــة السبعينات، بعد أن أخــذت الـدول المنتجـة للنفط تحذو حذو العراق، الواحدة تلو الأخـرى ؛ لتؤكـد سـلطتها عـلى ثرواتهـا الوطنية داخـل حدودها الجغرافية ؛ مما دفع الولايات المتحدة للانتقام من العراق ؛ فبدأ البنتاغون بتدريبات عسكرية سنوية في صحراء ( موجاف ) جنوب شرق ولاية كاليفورنيا وجنوب ولاية نيفادا ، وقد جرى وضع سيناريو للعدو المحتمل للجيش الأمريكي بجنودٍ يرتدون الزي العسكري العراقي ، ومن حينها شرع الاستراتيجيون الأمريكيون يُناقِشون احتمالات غـزو العراق ؛ للاستيلاء عـلى حقوله النفطية .
إذا كانت بعض النوايا المُسَبَّقة والاستعدادات الامريكية اللاحقة غير مُعلنة لغاية يوم 17 مايس 1979 ؛ فقد بدأت خطوات الكشف الإعلامي عنها عندما نشرت مجلة Fortune الأمريكية مقالاً بعنوان " لو غزا العراق الكويت والسعودية " وذلك تلميح عن خطة مواجهة مستقبلية مع العراق - أوجَبت على الأمريكان تقسيم التنفيذ إلى مراحل و البحث عن ( جنود شطرنج ) لافتعال وإدارة أزمات إقليمية ، وانتظار ردود الأفعال ؛ كمُبررات إدانة من أجل تطبيق الخطة التي تُحَقِقُ مآربهم العدوانية ذات الجدوتين الاقتصادية والسياسية بتناوب الأباطيل الإعلامية والسياسية للوصول إلى القوة العسكرية المفرطة - الغاشمة .
في 23 كانون ثاني 1980 صَرَّحَ الـرئيس الأمريكي الأسبق "جيمي كارتر" ( إن أمن الخليج يرتبط بأمن الولايات المتحدة بشكل مباشر ) وأضاف - بأننا سَنَتَصدى لمُحاولةِ أي قوة خارجية تسعى للسيطرة على منطقة الخليج ، وسنَعتبرُ تحرُكاتِها هجوماً على الولايات المتحدة ، ولا نَتَوانى بالرد على الهجوم ، وسَنَستَخدِمُ كافة الوسائل الضرورية بما فيها استخدام القوات العسكرية ؛ بهذا التصريح بدأ التحذير الفعلي ... والتلويح باستخدام القوة تجاه عدو تقليدي أو عدو مُحتمل .
مع بداية عهد الرئيس الأمريكي " ريغان " و لتطبيق أساسيات مبدأ " كارتر" الخاص بمواجهة أي تحدي يحول دونَ وصول الولايات المتحدة الأمريكية إلى نفط العرب بالقوة العسكرية - وضعَ رؤساء الأركان الامريكان خطة مهمة في استراتيجيات التدخل الأمريكي تُحَقِقُ سرعة انتشار القوات الأمريكية في منطقة الخليج سُمِيَّت ( بخطة الحرب 1002 ) وكخطوات تمهيدية تتضمن اسلوب انتشار سريع للقوات الأمريكية في الخليج العربي ، وتُمَثِل مشروعاً قتالياً مُستقبلياً قابل للتعديلات . بُنِيَّت افتراضاته الخطة بأن الاتحاد السوفيتي هو العدو التقليدي - الذي ستقاتلهُ الولايات المتحدة في منطقة الخليج العربي.
نُثيرُ اسئلة تتعلق في بدايات عام 1980 وما بعدها - لا نبحثُ لها عن إجابة ؛ وإنما لتذكير القارئ بما يُمَّكِنَه ُمن ربط التحركات الأمريكية السابقة باللاحقة :
لم تكن الحرب العراقية - الإيرانية قائمة آنذاك … فهل كان للولايات المتحدة ( يَدٌ ) في إشعال فَتيلها ؟ وهل كانَ لها دور باستمرار سعيرها الذي أمتد ( 8 ) سنوات ؟ وهل كان لها دور فعال بإنهائها ؟
من المُستبعَد أن تكون في حسابات حكومة بغداد فكرة اجتياح الكويت قبل أكثر من ( 10 ) سنوات من اجتياحها فعلياً في 2 آب 1990؛ فمن الذي خَطَطَ و افتعَلَ الأزمة لتترَدى العلاقة بين العراق والكويت .... و استثمر النتائج البائسة ؟
( أحسبوها بالمَنطِق ستَصِلون لإجاباتٍ عن النوايا العدوانية الأمريكية المُبَكِرَة ، واتركُ لكلِ قارئٍ قناعتهِ الخاصة ) .
استَغَلَّت الكويت انشغال العراق بالحرب مــع إيــران، فتمَدَدَت شمالاً مُتَخَطيةً حدودها الدولية نحو الأراضي العراقية على شكل مراحل ( قفزات ) ؛ واستولت على مساحة (2331 ) كيلو متر مربـع إضـافي مـن حقـل مشترك يسمى " الرِتقة " في جانبه الكويتي و" الرميلة " في جانبه العراقي يقعُ على الحدود العراقية - الكويتية غير المُثبتة باتفاق الطرفين .
وبمساعدة أمريكية استخدمت الكويت أسلوب الحفر المائل ؛ فبدأت تسحبُ الـنفط مـن حقـل الرُميلة العراقي ساعَدَتها طبيعة انحدار الأراضي العراقية باتجاه الكويت ( نِسبَةُ المَيل ) … بالتالي ازدادَت عوائد الكويت النقدية من بيع النفط العراقي المُستَخرَج بأساليب وطُرُق غير قانونية ، وغير نظامية ، دونَ مُراعاة تّدَّني قـُدُرات العـراق التصديرية ؛ بسبب تدمير مينائي العراق " البكر والعميق " الواقعان على مياه الخليج العربي .
سَرَّبَت الولايات المتحدة معلومات إلى العراق عن كيفية قيام الكويت بعملية استخراج النفط من حقل الرُميلة بالطريقة التي اشرنا إليها . ماهي غاية الولايات المتحدة من تقدم خبرة و ومعدات حفر مائل للجانب الكويتي ، وإشعار الجانب العراقي بالخروقات الكويتية ؟ بعد ما تبين من الذي حصل فيما بعد - اتضَّحَ أنها نقلة على رُقعَة اللعبة الإقليمية لتَضخيم الأزمة.
باشرت الكويت بزيادة إنتاجها وتصديرها النفطي بعد يوم واحد من وقف اطلاق النار بين العراق و إيران في 8 آب 1988 - مُنتَهِكَةً بذلك اتفاقيات الأوبك بشأن معدلات الإنتاج المُحددة لكل بلد في المنظمة ؛ نتَجَ عن زيادة الإنتاج و التصدير انخفاض كبير بسعر برميل النفط الخام من (21) دولار إلى (11) دولار ؛ فتسببت بخسارة سنوية للعراق مقدارها (14) مليار دولار- زادت من الانهاك الاقتصادي للعراق . وقد اعتَبَرَ العراق سياسة التَعَمُد الكويتية بالإنتاج والتسويق حرباً اقتصادية موَّجَهة ضده - تنفيذاً لتوجيهات أمريكية .
لم تتنَّكَر الكويت عن قيامها بسحب النفط من حقل الرميلة ، ووفقاً لعدم إنكارها ؛ أستوجَبَ عليها أن تُسَدِد عوائد ما سَحَبَتهُ من النفط العراقي بطريقة غير شرعية ، أو يُقَيَّم مقدار النفط المستخرج بأسعار السوق السائدة في كل وقت ، ليُستَقطَع من الديون الكويتية – التي بدأت الكويت تُطالبُ العراق بتسديدها في مجمل ظروف مُتداخِلة لا تخفى صعوبتها على الحكومة الكويتية . و بالمقابل حاولَ العراق حل الخلافات بينهُ وبين الكويت بالطرق الدبلوماسية ؛ لكنهُ وجدَ التَهَّرُب وليسَ التَقَّرُب سَبيلاً لحل الأزمات العالقة بين البلدين، وبعدَ انقضاء ما زاد عن ثلاثة عقود زمنية على انفجار الأزمة، اتركُ للقارئ تحديد المُسبِب، ومن ورائه بالتوجيه والاستِقواء.
باشرَ الأمريكان بتعديلِ خُطَط الطوارئ الخاصة بالحروب في الخليج ، واستبعدوا الاتحاد السوفيتي كعدو تقليدي ، واعتبروا العراق هو العدو البديل ؛ لكون بَوادر انهيار الاتحاد السوفيتي قد بدأت بالظهور آنذاك ، وأمسى غير قادر على ايقاف مُسَبِبات الانهيار المُتَسارِع … بعد سقوط جدار برلين في 9 تشرين ثاني 1989- الذي أزالَ وجود الحدود الألمانية الداخلية ... ثُمَ أعقبها إعلان انتهاء الحرب الباردة في قمة مالطا التي عقدت يومي 2 ، 3 كانون أول 1989 بين الرئيس الأمريكي "جورج بوش" الأب والأمين العام السوفياتي "ميخائيل غورباتشوف " فأُعيد توحيد ألمانيا - التي مُقسَمة إلى ( شرقية ، غربية ) كإحدى نتائج نهاية الحرب العالمية الثانية عام ١٩٤٥ .
ربط الوقائع التي اشرنا اليها - أسباباً ونتائج ، يُثير سؤالين بصيغة مُبسطة و واضحة :
هل كان مصادفة ان يَتَبنى حُكام الكويت مَوقفاً مُعادياً للعراق القوي عسكرياً - الذي احتموا به من خطورة التهديد و التمَدُد الإيراني ؟ من بينها رد الفعل العراقي تجاه إيران بعد أن تعرَّضَ أمير الكويت الشيخ جابر الأحمد إلى محاولة اغتيال بسيارة مفخخة يوم 25 مايس 1985 . أما السؤال الثاني فهو : هل كان تعديل خُطَط البنتاغون واعتبار العراق العدو البديل عن الاتحاد السوفيتي - مُصادَفة أم تقَّصُد ارتبطَ بجذورٍ قديمة بيناها سَلَفاً، وأدخلت الولايات المتحدة عليه ما رأتهُ يتناغم مع الواقع الإقليمي – الدولي آنذاك؟
يرى البعض أن تتابع الخطوات وتدهور وإدارة العلاقات الإقليمية في منطقة الخليج كان مقصوداً و ليس عفوياً ، ومن يراه عفوياً – أما يحكُمُ بعاطفة طَرَفيّة المَيل ، أو لم يَستوعِب الرَبط فأخطأ التحليل ؛ وسيَقَعُ في مطّب خطأ التقييم .
ربما توجِبُ الضرورة إطلاع القارئ على الواقع المالي للعراق قبل بداية، وبعد انتهاء الحرب العراقية - الايرانية. كان الفائض المالي النقدي في الميزانية العراقية للنصف الأول من عام 1980 وفق التقديرات (37) مليار دولار. ولم تكن الديون الخارجية للعراق تتجاوز (3) مليار دولار، ولا تشَّكل بمجموعها سوى (6%) من الناتج المحلى الإجمالي البالغ (53) مليار دولار- يشَّكل نشاط الصناعة النفطية حوالي (45%) منه، ولا يترتب من جرائها أي مشكلة اقتصادية.
يختلطُ عند البعض تفسير القيمة المادية لتكاليف الحرب العراقية - الإيرانية على العراق البالغة ( 523 ) مليار دولار، وتعني الأضرار المادية للحرب مُقدَرَة بمبالغ نقدية محسوبة بالدولار الأمريكي ، أما قيمة الديون فهي المبالغ التي أمسَت بذمة العراق بعد انتهاء الحرب والبالغة قُرابة ( 83 ) مليار دولار . كان العراق مطالب بدفع حوالي ( 7 ) مليار دولار أرباح كفوائد سنوية عن مديوناته ؛ أي بنسبة (64%) من حصيلة صادراته الإجمالية . يتضح إن نسبة تَسديد الفوائد مرتفعة جداً ، ولا يتحملها أي اقتصاد حتى ولو لفترة قصيرة؛ فتسبب بتراكم متأخرات التسديد حتى وصلت إلى (40) مليار دولار.
في نهاية الثمانينيات كان العراق مَدين للكويت بمبلغ ( 30 ) مليار دولار وهي من أكثر البلدان الدانة وفقاً لما ذكرهُ " كلارك " بينما ذكرَ أحد المقربين من أمير الكويت إلى " الشاذلي القليبي" الأمين العام لجامعة الدول العربية قبل انفجار الأزمة بيوم واحد بأن العراق مدين للكويت بمبلغ ( 17 ) مليار دولار . ومن الجدير بالذكر أن القليبي قد شغل منصب أمين عام جامعة الدول العربية العام بين 1979 و1990 ، واستقال من منصبه ؛ لعدم قناعته بنتيجة مؤتمر قمة القاهرة الذي عقد في 10 آب 1990 ، بسبب مخالفة الرئيس المصري لبنود ميثاق الجامعة - انسجاماً وتجاوباً مع دوره المرسوم ( امريكياً ) في اللعبة الدولية المتعلقة بالأزمة العراقية – الكويتية ، إضافة إلى اعتراض القليبي على التحشد الذي سبقَ الحرب على العراق عام 1991.
اشارت صحيفة "وول ستريت جورنال" الصادرة في نيويورك 12 حزيران 1989. أن وزير النفط الكويتي " علي خليفة الصباح " أثناء اجتماع الأوبك المنعقد يوم 5 حزيران 1989 في " ڤيَّنا " قال : (( بإن الكويت لا تنوي الالتزام بحصتها المُقررة، وهي (1,037,000 ) برميل في اليوم . وتُصِر على أن مقدار حصتها (1,350,000) برميل في اليوم)) ؛ بظل هذا الواقع صار من المُستحيل على العراق أن يُسَدِدَ ديون الكويت المُصِرَة على استردادها بوقت أزمة مالية عراقية شديدة .
لم يكن العراق البلد الوحيد الذي طالبَ الكويت بخفض إنتاجها و تصديرها النفطي ؛ بل كان معه أعضاء " الأوبك أيضا " وليس غريباً وقوف إيران بجانب العراق كونها مُتَضَرِرَة اقتصادياً أيضاً، وحتى السعودية كانت تؤيد اعتراض العراق. ومن جانبه فسَّرَ العراق السلوك الكويتي بأنه ليس إلا تنفيذ سياسة غربية مرسومة بمراحل تستهدف حاضره ومستقبله ؛ إذ ما كان للكويت أن تُقدِم على خطوة لا تَحظَى بقبول بغداد والرياض وطهران على حدٍ سواء ؛ ومن جانب آخر ما كان للكويت أن تتصَّرف بموقف من يحاول التعامل بتكافؤ مع العراق - لولا وجود من يدفعها أو يساندها، وفي ضوء التفسير العراقي؛ رَفعَّت بغداد تحديها للكويت - بينما ظل سعر النفط يَنخَفِضُ مُسَبِباً مزيداً من الخسائر الاقتصادية للعراق ... إلا يَحِقُ للمُتابعِ أن يسأل :
لماذا تجاوزت الكويت حصتها التصديرية من النفط خلافاً لموافقة بلدان ( الأوبك ) وثلاثة من بلدان الجوار الأقوياء المحيطين بها من الاتجاهات الأربعة ؟
لخدمة أي أجندة اتَّبَعَت الكويت نهجاً استفزازياً - اعتبرهُ العراق حرباً اقتصادية موجَهة ضده في توقيت غير ملائم اقتصادياً ؟
ما هي دوافع مُطالبَة الكويت للعراق بتسديد الديون مع يقين علِمِها بِعَدمِ قُدرَة العراق على التَسديد في تلك الظروف العَصيبَة ؟
لم تلق الجهود الدبلوماسية العراقية بتقريب وجهات النظر تجاوباً كويتياً لحل المشاكل التي بدأت تتفاقم بينها وبين العراق . وفي ذكرى ثورة 17 تموز 1990 القى الرئيس الراحل صدام حسين خطابا مُطوِّلاً - استفاضَ فيه وصفاً وتحليلاً ، بلهجةٍ لا تَخلو من أسلوب التحذير و التحدي ، وكانت بعض عبارات الخطاب أحدى أهم الطموحات التي تتوخاها و تنتظرها الولايات المتحدة من العراق لتضخيم الأزمة - نقتبسُ من خطاب الرئيس العراقي بعض عبارات الختام :
(( نُعايش الحُزن إلى أقصى مَعانيهِ. إذ إننا لم نَتَمنَّ أن نتَحَدَثُ عن حقوق مُغتَصَبَة، والمُغتَصِب فيها بعضُ العرب ؛ وإنما كُنا نتمنى أن نُرَكِز في حديثنا، كما هو شأننا دائماً، على الحقوق التي اغتصَبَها الأجنبي فحسب. ولكن أصحاب السوء هم وحدهم، الذين يتحَمَّلون أمام الله وأمام الأمة نتائجَ سيئاتِهم - التي أظهروا من مَخزونِها ما لم نَعرِفهُ عنهم من قبْل، أو كُنا نمنّي النفسَ بما هو غير هذا. فهُم بدلاً من أن يُكافئوا العراق - الذي قدم لهم ما قدم من زهرة أبنائه؛ لتبقى بيوت أموالهم عامرة بالمزيد المُضاف مما هو مُكتَنَز، والذي لولا العراق لأصبحَ بأيد أخرى ؛ أساءوا إلى العراق بالغَ الإساءة . وبدلاً من أن يكافئوا العراق على مبادئهِ في الأخوّة - أساءوا فهْم هذه المبادئ المُخلصة، وغرزوا الخِنجَر المَسموم في الظهر في الوقت الذي يواجِهُ فيه العراق الأعداء الأجانب ليذودَ عن الأمة، ويُبعدُ عنها وعنهُ طعنات جديدة. اللهم ألهِمنا الصبرَ إلى الحدّ الذي ليس أمام الصابرين غير ما تعتبره مشروعاً وصحيحاً - يوم يَفقدُ الصَبرُ قُدرة التأثير، واللهُم اقتل بذور الشر داخل نفوس حامليها؛ ليتَمَتَعَ العربُ ببذور الخير داخل أنفسهم . اللهم أشهد ... أنني قد بَلَّغت )).
طلبَّت الولايات المتحدة من سفيرَتِها ببغداد استيضاح رأي العراق حولَ ما جاءَ بخطاب الرئيس العراقي، فأوضَّحَ وكيل وزير الخارجية العراقي إنها: خُلاصة استعراض جذور ومسار الأزمة العراقية - الكويتية، والمحاولات العربية لاحتواء وحَّل إشكالات الاختلاف في وجهات النظر بين طرفي النزاع .
تناقلَ الإعلام العالمي وجود حشود عسكرية عراقية على الحدود الكويتية، وفي سياق إجابة الناطق الرسمي بوزارة الخارجية الأمريكية عن سؤال أحد الصحفيين حول نوايا الإدارة الأمريكية للدفاع عن الكويت إذا هاجَمَها العراق - صَرَّح قائلاً: أننا مُلتَزِمون بحمايةِ أصدقائنا بصورةٍ فَردية أمْ جَماعية . وعلى أثر التصريح استُدعيَّت السفيرة الأمريكية في بغداد " ابريل گلاسبي" لمقابلة الرئيس " صدام حسين " يوم 25 تموز 1990 لاستيضاح ما يَعنيه التصريح الأمريكي . إلى هنا وخطوات اللعبة الأمريكية تسير وفق نقلاتها المرسومة .
مما ينبغي الإشارة إليه ، أن من بين أخطاء إدارة الأزمة عراقياً هو تَقَبُل الاستفزاز ومحاولة إظهار التكافؤ والرد بالمِثل ( الند للند ) و تلك خَطيئة لا غُفران لها في السياسة الدولية ، لا سيما عندما تكون نوايا الشر عند الطرف الآخر معلومة و مُبيتَه ، وميزان التفوق النوعي في جانبه بنسبة عالية .
يُمكن للقارئ الراغب بملاحظة المزيد من التطورات و كيفية استدعاء السفيرة الأمريكية – دونَ اعطائها فرصة كافية للتزود بمعلومات من وزارة الخارجية الأمريكية ، و بقدرتها الدبلوماسية بالرد على تساؤلات الرئيس العراقي ، مما فسره البعض ضوءً أخضراً أمريكياً - الاطلاع على مقال قديم لنا " الاجتياح العراقي للكويت ... لُعبةٌ غَربيّة و بيادق عَرَبيّة / ٦ " من الرابط التالي :
https://www.algardenia.com/maqalat/41223-2019-08-15-10-46-17.html
اخفَقَت الجامعة العربية باختيار " حسني مبارك " كوسيط لحل الأزمة بين البلدين - التي بدأت تتفاقم ؛ فقد أثبتَتَ الوقائع اللاحقة - أن مبارك كان مُسَّخَر امريكياً لتعقيد الأزمة قبل انفجارها وبعد الاجتياح العراقي للكويت ، وسنشير للدليل المُعلن الذي لا يختلف عليه اثنان في سياق مقال قادم نتطرق فيه للتطورات التي حصلت بعد 2 آب 1990 . بالعودة إلى تسلسل الأحداث؛ فقد زارَ " حسني مبارك " بغداد يوم 24 تموز 1990 واستوضَحَ من الرئيس صدام حسين عن نوايا العراق ؛ فأجابه لن نُهاجِمهم الكويت بشرط تجاوبها مع مَطالبنا ؛ لتَجَنُب التطورات غير المرغوبة - التي قد تقودنا إلى عمل عسكري ، ونَبَهَهُ أن لا يُخبِرَ الكويتيين بذلك ؛ ( لكنَ مُبارك لم يَكُن أميناً بنقل النص و المعنى ) فنقلَ الطمأنينة لأمير الكويت ، دون أن يُشير لشرط التجاوب الكويتي ؛ وبذلك تمادَت الكويت إذ قال أميرها : ( حتى لو هَجَمَ العراق على الكويت سَتَتَدَخل الولايات المتحدة لحماية الكويت والدفاع عنها ) فما أدرى أمير الكويت بنوايا الولايات المتحدة – التي ستدافع عن الكويت ليَكُن بهذه الثقة من القول ؟… إلا يعني ذلك أن هناك اتفاقاً سرياً مُسبقاً أمريكياً - كويتياً يُطمئن الكويت من أي رد فعل عراقي محتمل ؟
ملتقانا في مقالنا القادم " من ذاكرة وزير " بعد نهاية الحلقة الرابعة من برنامج " خفايا في كتاب " بتسهيل الله و مشيئته تباركَ و تعالى .
716 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع