الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل
أشهر عرس في التاريخ
هناك أعراس وزفافات دخلت التاريخ لأسباب تتوقف عليها علاقات بين الدول، أو إنقاذ لهزائم، أو سداد لديون، أو ديات لأرواح أُزهقت، أو لحقن دماء.. لكن الزفاف الأسطوري للأميرة (قَطْر النَّدى)، والذي يكاد الحديث عنه يصل إلى حد الخرافة، لم يكن شيئا من ذلك. وقد دخل هذا العُرس التاريخ كواحد من أغرب الأعراس التي تدل على سفه المترفين في فترة من فترات التاريخ الإسلامي.
كان الخليفة العباسي في العصر العباسي الثاني هو الموفق بالله (843-891م)، وكان يحكم مصر الدولة الطولونية، وكان بينهما مشاكل بسبب عدم إرسال الدولة الطولونية سوى ثلث خراج مصر إلى بغداد.
كان ابن الخليفة هو المعتضد وكان يُحرض أباه على عدم السكوت عن الحاكم الطولوني لِمِصر وسوريا خُمَارُويه بن أحمد بن طولون (864-896م)، وكانت جيوش الخليفة في حالة ضعف ولا تستطيع أن تثبت ساعة امام جيش خُمَارُويه.
وكان المعتضد يقول بحماس: (ابعثني يا أبي على رأس جيشك، وسترى ما أفعل)، فيهدئ الخليفة من روع ابنه بالقول: (خزينة خُمَارُويه حافلة بالمال وقدرته بالإنفاق على الحرب لا تدانيها قدرة، بينما نحن نستجدي أقوات الجند)، فيقاطعه ابنه المعتضد: (والله يا أبي إن لم تبعث بي في جيش إلى هذا الرجل، لخرجتُ إليه وحدي، فما كنتُ سليل البيت العباسي وحفيد الرشيد إن لم اُجرد خُمَارُويه من مصر والشام، وأضم كل ذلك إلى ملكي).
ولما بلغ خمارويه ما ينوي أن يفعله المعتضد بعد أن مات أبوه الخليفة الموفق، حيث قرر أن يجيش الجيوش ليزحف بها إلى مصر، قال: (رحم الله أباه الموفق، كان أذكى، وأوفر حكمة من ابنه المعتضد، فلو طلب منا أن نزيد في خراجه لفعلنا، فما نحن إلا ولاته على الاقاليم، ولكن بما أنه عزم على حربنا، فلا خيار لنا سوى ملاقاته).
جمع خُمَارُويه قادة جيشه وأمر قائد جنده أن يخرج إلى مشارف العراق، وأن يعرض على المعتضد، أن يضاعف له الخراج، فإن أبى إلا الحرب، فلا بد من تبديد شمل جيشه، على ألا يدخل القتال مقر الخلافة العباسية، إلا بأوامر من خُمَارُويه نفسه!
لقد كان قائد جيوش خُمَارُويه هو (ابن سعد) وكان عمره خمسين سنة، فوجد الفرصة سانحة له لكي يخطب ابنة خُمَارُويه الوحيدة والمدللة ابنة السابعة عشرة.
فانفرد ابن سعد بخُمَارُويه محدثا إياه بشأن ابنته (قطر الندى) التي كان قد خطبها منه، فوعده خيرا، وقال له: دعني أكلم (قطر الندى) في ذلك، وكذلك استشير أخاها أبا عساكر، وعندما تعود الينا منصورا، سننظر في طلبك إن شاء الله.
لم يكن خمارويه صادقا في وعده، فخرج (ابن سعد) وهو حزين بسبب عدم البت في أمر خطوبته من (قطر الندى). ثم اتجه بجيشه إلى العراق، وعندما اقترب من العراق، نجح الخليفة المعتضد في استمالته إليه، بعد أن اقنعه بأن خُمَارُويه يبخل عليه بالزواج من ابنته! فانضم (ابن سعد) بجيشه إلى جيش الخليفة المعتضد، واجتمع حقد العاشق الخائب مع غل الخليفة الحاسد، ثم انحدر الطرفان بجيوشهما إلى فلسطين.
وفي مصر تثور ثائرة واليها خُمَارُويه بعد أن بلغته أخبار التحالف الزاحف لمواجهته في القاهرة! فيقرر الخروج إليهم بنفسه على رأس الجيش ليدرأ الخطر القادم، فيوصي ابنه: (أنت مكاني على الناس هنا، فاذا فتح الله علينا عدنا غانمين سالمين، وإذا شاءت إرادة الله ألا ننتصر، فأنشدك الخير في أهل البلاد يا ولدي، فأهل مصر عون لك في الشدة.. واوصيك بأختك (قطر الندى)، فهي وردة يانعة، ليس لها من يحميها من الأيدي الطامعة سواك، فلا تسلمها إلا إلى خير الناس، ممن ترضى عنه ولا تزفها إلا لكفء كريم.
ثم يسأل خُمَارُويه ولده (ألديك ما تريد قوله لي قبل أن أرحل؟)، فيجيبه ابنه أبو العساكر: (إن اظفرك الله بالمعتضد، أتمنى ألا يدخلن القاهرة إلا وهو مقيد بالحديد)!
لم يعجب خُمَارُويه كلام ابنه فيجيبه: (كلا يا ولدي.. بل إذا ظفرتُ بالمعتضد خليفة المسلمين، وأمير المؤمنين، فسأعيده إلى بغداد معززا مكرما، فما يزيل الأحقاد يا ولدي إلا الصفح الجميل، ولا تنس، لولا أنه رفع السلاح علينا، لما بادرنا بحربه، إنه الخليفة!).
دار رحى المعركة بين الطرفين وكانت هزيمة الخليفة المعتضد ساحقة في المعركة، بعد أن وقعت جيوشه كلها في الأسر.
أمر خُمَارُويه بأن يتم التعامل مع الخليفة بما يليق ومكانته كأمير المؤمنين، ثم وعده بمضاعفة خراج مصر، بل وعده بما هو أكثر من ذلك عندما عقد العزم على مصاهرته بزواجه من وحيدته (قطر الندى)، فكان ذلك العرس الأسطوري الذي ذكرته كتب التاريخ!
جهاز أسطوري وزفة لا مثيل لها:
لم تُغرِ لعبة السياسة الأميرة الطولونية (قطر الندى)، حديثة العهد بفنون المكر والدهاء، فوعدها أبوها بزفاف لم ترَ دولة الخلافة مثله، وأن يكون موكبها من مصر إلى بغداد سيرة لا تنقطع.
يقال أن أبو العروس أنفق وقتها ما يقارب 400 ألف دينار على تجهيز الأميرة (قطر الندى)؛ وهو رقم كبير جدا كان يعادل ميزانية دولة كاملة وقتها. وذكر المؤرخون تفاصيل مثيرة تصف العُرس الأسطوري للأميرة (قطر الندى) كما لو كان إحدى أساطير قصص ألف ليلة وليلة، فوُصف جهازها، أنه يحتوي على أريكة من أربع قطع من الذهب، عليها قبة من ذهب مشبك، في كل عين من التشبيك قرط معلق به جوهرة لم ير لها مثيل ولا تقدر بثمن، هذا غير الملابس والمجوهرات التي حُملت في عشرة صناديق كبيرة كان فيها العديد من الأحزمة المرصعة بالمُجَوْهَرات والآنية الذهبية التي أُودِعَتْ فيه الروائح والعطور الزكية.
ومن بين الجهاز مئة هون من الذهب، وألف تكة ثمنها عشرة آلاف دينار، والتكة سروال حريمي. وقد استعان خمارويه بابن الجصاص؛ أشهر تاجر للجواهر في بغداد، لكي يتولى مهمة تجهيز (قطر الندى).. يقول المقريزي: إن ابن الجصاص بعدما أكمل الجهاز تبقى معه أربعمئة ألف دينار، فمنحها له خمارويه.
كما كان في جهاز (قطر الندى) 4000 تكّة مجوهرة، و10 صناديق جواهر، وقُدر ما دخل معها فكان ألف ألف دينار، كما أن أباها أعطاها 100 ألف دينار لتشتري بها من العراق ما قد تحتاج إليه.
ولم يكتف الحاكم الطولوني بكل ذلك، بل أمر أن يبني لابنته في كل مكان تستريح فيه في رحلتها من مصر إلى العراق قصرا صغيرا وكأنها في تنقّلها إلى زوجها لم تغادر بيت أبيها.
يذكر كتاب (نهاية الأرب في فنون الأدب) لشهاب الدين النويرى، وكذلك الطبري في كتابه (تاريخ الطبري)، وكتابه (البداية والنهاية)، و(تاريخ الخلفاء) في وصف الرحلة: "كانوا يسيرون بها سير الطفل في المهد، فكانت إذا وافت المنزلة وجدت قصرا قد فُرش فيه جميع ما تحتاج إليه، وأعد فيه كل ما يصلح لمثلها وكانت في مسيرها من مصر إلى بغداد على بعد الشقة كأنها في قصر أبيها".
قدمت (قطر النّدى) من مصر في بداية عام 896م، ومعها عمّها لتُزفّ إلى الخليفة المعتضد، ووصلت العروس بغداد وأقيمت حفلات عظيمة في عاصمة الخلافة لا تقل في عظمتها عن الحفلات التي أقامها أبوها في مصر، ودخل عليها الخليفة في ربيع الأوّل ووقع في حبها وسحرته بجمالها وأدبها، فكان لها مكانة خاصة بين نسائه.
لم تمر سوى أشهر قلائل على زفاف (قطر الندى) حتى قُتل والدها خمارويه على يد خدمه وهو نائم على فراشه بعد حكم دام أكثر من 11 سنة، وعاشت بعدها الأميرة (قطر الندى) مع زوجها خمس سنين حزينة على أبيها، ثم توفيت سنة 900م وهي شابة في العقد الثاني من عمرها، ودفنت داخل قصر الرصافة في بغداد. ثم توفي زوجها الخليفة سنة 902م، وبذلك أسدل الستار على حياة قصة الأميرة (قطر الندى) التي أفلس عُرسها خزينة مصر.
لقد وثّق التراث المصري زواج الأميرة (قطر الندى)، فهناك أغنية (الحنة الحنة يا قطر الندى) التي غناها عبد الحي حلمي سنة 1906، كما غناها جمال عبد الرحيم في الخمسينيات. وغنت عقيلة راتب أغنية مشابهة في فيلم (السوق السوداء) سنة 1945.
وفي حقبة الستينيات أعاد بليغ حمدي تقديم الأغنية تحت عنوان (الحنه ياحنه ياحنه يا قطر الندا ... يا شباك حبيبي ياعيني جلاب الهوا) وقدمتها الفنانة القديرة شادية وأبدعت فيها.
https://www.youtube.com/watch?v=BiaQ-C8-JOs&t=34s
1163 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع