د.ضرغام الدباغ
المراسلات :
Dr. Dergham Al Dabak : E-Mail: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
العدد : حزيران / 2024
التاريخ : 385
ثورة العشرين
عملت السياسة البريطانية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية على ترسيخ المنجزات التي تحققت لها وفق النتائج النهائية للحرب. تلك النتائج التي كانت السبب الحقيقي للحرب التي دارت بين الأقطاب الاستعمارية بصفة رئيسية، من اجل أعادة تقسيم للعالم، وكانت الثورة البورجوازية والصناعية قد أتت أكلها، وحان وقت قطاف المكتسبات، تلك الحرب التي حصدت أكثر من عشرين مليون من أرواح البشر وأضعافهم من الجرحى والمشوهين.
ومما يستحق الملاحظة على صعيد السياسة الداخلية في العراق، أن المحتلين كانوا دائماً بحاجة إلى المزيد من القوات وقد باشروا (وقد ذكرنا ذلك) بتشكيل قوات خاضعة لقيادتهم أطلق عليها اسم الليفي ومن المؤكد أن مهام هذه القوات كانت إخضاع الشعب العراقي لإرادة المحتلين، سواء في قمع الانتفاضات أو في جباية الضرائب. وكانت الضرائب تثقل كاهل المواطنين، وكانت على الفرد الواحد في الريف تناهز 8,1 روبية، وهذا المبلغ هو ضعف المبلغ المفروض على المواطن في الهند والبنجاب.(1)
وكان ثلث تلك الضرائب يذهب لتغطية نفقات الجيش البريطاني في العراق، وكانت الضرائب قد تصاعدت قياساً لضرائب عام 1911 بما يعادل 1,65 ، أما في العام 1919/20 فقد تصاعدت مرة أخرى بما يعادل الضعف.(2)
ومن خلال مشاريع اقتصادية (النفط، السكك الحديدية، القطن) بدأت تتشكل طبقة عاملة عراقية جديدة، تتقاضى أجور واطئة، وكانت هذه المشاريع التي أسسها الإنكليز، تصدر إنتاجها إلى بريطانيا، وأوربا بصفة عامة وبنفس الوقت كانت القوانين الجديد في الأرياف والبوادي التي منحت الإقطاعيين وزعماء العشائر الكثير من الامتيازات التي بها واصلوا ضغطهم على الفلاحين وفقراء الريف.
وباختصار، كانت السياسة البريطانية في العراق على كافة الأصعدة تهدف إلى تشديد قبضتها على العراق، وان تحسن من أساليب الاستغلال والنهب، وإمداد الصناعة البريطانية والأوربية بالمواد الخام، وتعويض خسائرها الحربية وكذلك نفقات حملتها في العراق، وكانت هذه السياسة في العراق تكمل سياستها على الصعيد الدولي، وهي تعزيز مكانة بريطانيا وإحراز المزيد من النفوذ.
وقد سعى الإنكليز كذلك حل قضية الموصل لمصلحتها، ومع أن ولاية الموصل تابعة عبر التاريخ البعيد والقريب إلى العراق، إلا أن وجود مكامن النفط فيها دفع البريطانيين إلى العمل على حسمها لصالح احتكاراتها النفطية.
وكان الإنكليز والفرنسيين قد خاضوا صراعات سرية ومكشوفة من أجل النفوذ والسيطرة والمكتسبات الإقليمية، ولكنهم تنازلوا لفرنسا عن 25% من إيرادات النفط العراقي، واستقر الموقف بصورته النهائية على نحو ما هو معروف، في منطقة المشرق العربي(كان الوجود البريطاني في مصر خارج هذه المعادلة)، بأن أصبح العراق وإمارة شرق الأردن وفلسطين تابعة للانتداب البريطاني، فيما وضعت سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي.(3)
وقد أقر مؤتمر سان ريمو السياسات الاستعمارية وأقر أطماع فرنسا وبريطانيا في تقسيم منطقة شرقي البحر الأبيض المتوسط. وكان العراق بموجب المادة 22 الفقرة 4 ، الجزء 1 من ميثاق عصبة الأمم تحت الانتداب البريطاني.(4)
وكانت كافة الإجراءات البريطانية تشير بوضوح، أن مستعمري البلاد الجدد، يريدون استعباد البلاد، وقمع إرادة مواطنيه والتنكر لكل وعودها في الحرية والديمقراطية، والتنكر لحقوق الإدارة الحرة وتقرير المصير، والتركيز على نهب ثروات البلاد، وتمكين القطاع والرجعية المحلية من حكم أبناؤه، وتسهيل أنشطة الاحتكارات الأجنبية ومجموعات الاستغلال من تحقيق أقسى أشكال النهب والقمع الاجتماعي.
برزت هذه الحقائق أمام الشعب العراقي وقواه الوطنية الممثلة للبورجوازية الوطنية والشغيلة والكادحين والفلاحين والمالكين الصغار وللعناصر العشائرية والدينية والعاملين خلف شعار يمثل المسألة الوطنية الرئيسية، وفقرتها الرئيسية هو بلوغ الاستقلال السياسي وإقامة النظام الوطني.
كانت هذه هي المبادئ الرئيسية لأهداف الحركة الوطنية والنضال التحرري، وقد مثلت هذه الإرادة في تلك المرحلة، الأحزاب والحركات التي تصدت للعمل الوطني التي أفرزها الواقع الموضوعي للمرحلة. ولكن بريطانيا واجهت هذه الآمال الوطنية للشعب بالعنف والقمع، وسياسة طغيانية، وشن حركة اعتقالات واسعة في صفوف الجماهير وأبعاد العناصر القيادية إلى الهند.
والمدن التي تحولت إلى مسرح للتظاهرات الشعبية توفر المناخ الطبيعي لتنامي الوعي الوطني المعادي للاحتلال، توفر الظروف الذاتية للانتفاضة التي غدت الحق الطبيعي للشعب لبلوغ أهدافه، والناطق باسم الثورة التي اندلعت شرارتها في الريف ولكن ما لبث أن اتسعت لتبلغ المدن الصغيرة والكبيرة والبلاد بأسرها.
وكانت النسبة الأكبر من سكان العراق في الأرياف اللذين كانوا تحت طغيان سطوة الإقطاع من جهة، وقمع وطغيان الإنكليز من جهة أخرى، اللذين كانوا يبالغون في فرض الضرائب على الفلاحين والعشائر، وكانت السلطات البريطانية تريد بذلك توفير المبالغ لتغطية نفقاتها العسكرية في العراق، وبذلك أصبح الريف المسرح الطبيعي للثورة، وكان عنفها يعكس حدة وعمق التناقضات بين المحتلين وحلفائهم المحليين من الإقطاعيين والرجعية . وجاءت ثورة العشرين ثمرة لنضال طويل خاضه الشعب العراقي وتطور للانتفاضات العفوية التي خاضها الشعب، ضد السيادة الاستعمارية من أجل حقوقه المشروعة.(5)
لذلك كانت ثورة العشرين تمثل حركة تحرر وطني، لان هدفها كان يتمثل بتحقيق الاستقلال السياسي والدولة الوطنية وطرد المحتلين الإنكليز من البلاد بقوة السلاح. والحفاظ على المكونات الوطنية والقومية والثروات الطبيعية. وكانت شعارات الثورة عريضة وشاملة، على الرغم من جيش الثورة كان يتألف من الفلاحين أساساً ومن العمال وكادحي المدن والأرياف والفئات الوسطى والعسكريين الوطنيين.
وبقدر ما كانت شعارات الثورة عريضة وواسعة، فقد كانت جماهير الثورة أيضاً عريضة وواسعة، فالرغم من أن جيش الثورة وجنودها كانوا من الفلاحين، والعمال والفئات الفقيرة والمتوسطة، إلا أن تلك الفئات لم تكن قد كونت احزابها السياسية بعد، ولم تكن منتظمة، لذلك فإن قياداتها تكونت من بورجوازية وطنية وتجار، ورؤساء عشائر، ورجال الدين الوطنيين، ومع ذلك كانت الثورة تسير تحت شعارات البورجوازية الوطنية العراقية.
ولكن هذه الفئات الثورية لم تكن قد أفرزت أحزابها الثورية بعد، كما أن وعيها ودرجة انضباطها، لذلك كانت قياداتها قد برزت من بين صفوف البورجوازية الوطنية وصغار التجار ورجال الدين وبعض زعماء القبائل.
وعلى الرغم من كل ذلك، قامت الثورة تحت شعارات البورجوازية الوطنية العراقية، وإذا كانت الثورة لم تبلغ هدفها في تحقيق الاستقلال الناجز، بسبب الظروف الداخلية والخارجية التي تحيط بها من كل جانب، وصعوبة وسائل الاتصال والنشر والدعاية والإعلام، لذلك كان من العسير الاتصال بكافة المناطق العراقية، وبالتالي صعوبات في التنسيق بين قيادات الثورة فقد كانت الثورة في العديد من المناطق عفوية الطابع كما حدث في ديالى وتلعفر، لذلك يمكن التقرير بأن التخطيط والتنظيم والتنسيق كان غائباً، أو شبه غائب.
وباستثناء بعض الضباط العراقيين، الذين التحقوا إلى صفوف الثورة، وقادوا الثوار في بعض المعارك الناجحة، فإن المعارك الأخرى قادها وقاتل فيها رجال عشائر لم يعهدوا أسلوب قتال الجيوش النظامية، وكذلك كان السلاح بأيدي الثوار بسيطاً وقليل العدد، بل أن الثوار كانوا يعتمدون بدرجة مهمة على ما يقع بأيديهم من سلاح من عدوهم، وهي من جملة الأسباب التي كانت أضعفت الثورة عسكرياً وحالت دون انتشارها، وأدت بالتالي إلى إضعافها سياسياً، وعلى موقفها بصفة عامة.(6)
ومن بين 130 ألف ثائر، كان 16 ألف فقط يمتلك أسلحة نارية حديثة، و 43 ألف من الأسلحة القديمة، وبرغم ذلك فإن السلطات البريطانية في العراق أبلغت حكومتها بضرورة اللجوء إلى أستخدام القوة للقضاء على الثورة. (7)
وباستثناء بعض المبادرات العفوية من الأهالي في مناطق الحدود، لم تتلق الثورة دعماً خارجياً مهماً. أما موقف الدولة العربية في سوريا، فقد كانت في موقف لا يتيح لها تقديم الدعم والإسناد للثورة العراقية لأنها كانت تعاني من صعوبات عسكرية تكنيكية من جهة، وتعاني من الاستفزازات والتهديدات الفرنسية باجتياحها من جهة أخرى(وقد نفذت فرنسا تهديدها فيما بعد في نفس العام 1920).
وعلى الرغم من أن الثورة لم تبلغ أهدافها، إلا أنها أرغمت المحتلين الإنكليز على إعادة النظر بخططهم، وكانت الخسائر الكبيرة التي مني بها الإنكليز، والتي فاقت خسائرهم في حربهم مع العثمانيين في احتلال العراق. وتذكر مصادر بريطانية موثوقة، " كانت خسائر الإنكليز كما يلي: " 4000 قتيل، 1800 جريح، فيما بلغت الخسائر المادية 40 مليون باوند بريطاني " . (8)
وأيقن البريطانيون أن احتلال وإدارة العراق بصورة مباشرة، ليس بالأمر السهل، وقد عبر عن ذلك الكثير من الساسة الإنكليز وقادتهم العسكريين، ويصف مؤرخ بريطاني حالة الاحتلال البريطاني : " اكتشفت الحكومة البريطانية أن العراق بعد احتلاله لم يكن سوى عش للنحل والدبابير، أكثر مما هو جنة عدن ". .(9)
وقد مثلت الثورة أيضاً دعماً لأنصار مدرسة القاهرة التي كانت تعتقد، أن من العسير على الإمبراطورية البريطانية إدارة تدير البلدان التي استولت عليه.(10)
ومن جهة أخرى فقد اكتسبت حركة التحرر الوطنية والقومية العراقية خبرة كبيرة من تجربة ثورة العشرين، وكانت هذه الفعالية المهمة برغم أنها لم تحرز هدفها، ولكن درس سوف تستفيد منه في معاركها اللاحقة. ويحق التقرير أنها(الحركة الوطنية العراقية) احتفلت بولادتها بالكفاح المسلح وبتقديم الضحايا للوطن بالاصطدام مع أعتي الإمبراطوريات الاستعمارية، وكبدتها الخسائر الفادحة في الرواح والعتاد، وأرغمتها على أعادة النظر باستراتيجيتها. كما أثبت الشعب العراقي وحدته الوطنية من خلال الثورة، وأفشل أهداف المستعمر في أحداث انشقاقات طائفية وعرقية.
وبرغم أن الثورة لم تؤدي إلى الاستقلال مباشرة، ولكن شعار الاستقلال التام أصبح هدف الشعب بأسره، بل الهدف والمطلب الأساس في العمل السياسي والنضالي.
والقمع الدموي والعنف الذي استخدمته القوات البريطانية خلال قمع الثورة وما بعدها، والأساليب الخبيثة التي تميزت بها السياسة البريطانية في العراق، والمحاولات التي تبديها من اجل مواصلة الهيمنة على العراق بمختلف السبل والوسائل، إلا أن جميع هذه الأساليب كانت تلاقي الفشل، وتوج الشعب العراقي نضاله ضد السياسة الاستعمارية بثورة تموز 1958/7/14 .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جزء مقتطع من رسالة ماجستير بعنوان " المقدمات السياسية للأستقلال الوطني في العراق " قدمها ضرغام الدباغ لجامعة لايبزغ/ ألمانيا، عام 1977.
هوامش:
1. بيل، المس : نفس المصدر، ص.268
2. كوتلوف : نفس المصدر، ص.66
3. زين، زين نور الدين : نفس المصدر، ص.158
4. نفس المصدر، ص.158
5. كوتلوف : نفس المصدر، ص.111
6. المظفر، كاظم : ثورة العشرين التحررية في العراق، الجزء الثاني، ص.34 النجف 1972
7. Rathmann, L: Das Ebenda, S. 139
8. لويد، ستين: نفس المصدر ، ص.277
9. نفس المصدر، ص.281
10. الحسني، عبد الرزاق: التاريخ السياسي الحديث للعراق، الجزء الأول ص.49 بغداد 1975
942 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع