د. محمد عياش الكبيسي
إن حاجة البشرية اليوم إلى بناء (منظومة العدل العالمية) تتزايد إلى حد الضرورة القصوى مع التطور الخطير لأدوات الهيمنة والتحكم والعقاب الجماعي والتي زادت من قدرة الأنظمة الديكتاتورية على البقاء حتى ولو كانت مرفوضة من كل شعوبها،
ولم تعد هذه الشعوب قادرة على أن تعالج هذا التفوق في تكنلوجيا السلاح وأدوات القمع الحديثة مهما بلغت من الشجاعة والصلابة، إضافة إلى أن هذه الأنظمة لا تمتلك السلاح فقط بل إنها تحتكر كل ثروات البلاد ومقدراتها والتي تؤهلهم لبناء التحالفات المحلية والإقليمية الواسعة، إضافة إلى التمرس في عملية شراء الذمم من المثقفين والإعلاميين والوجهاء..الخ بحيث يستطيع الحاكم أن يحاصر الجماهير على أكثر من مستوى، وربما لا زال العالم يحتفظ بنتائج الانتخابات الجزائرية أواخر القرن الماضي والتي حصدت فيها جبهة الإنقاذ أكثر من 80% من الأصوات، لكن هذا الفوز انقلب إلى محنة ومعاناة قل نظيرها، حيث تمكن الطرف الخاسر أن يحاصر كل هذه الملايين بأدوات وأساليب جديدة ومتطورة، وهذا قد يفسّر تأخر الربيع الجزائري عن موكب الربيع العربي والذي اجتاح الجارتين العربيتين للجزائر تونس وليبيا، فمن المرجح أن الشعب الجزائري لا زال حديث عهد بتلك التجربة المأساوية والمؤذية ولم يستطع أن يتجاوزها بسهولة.
إن حكامنا اليوم لا يهددون شعوبهم بالسجن أو القتل فقط بل هم جادّون في إقناع شعوبهم أن البلاد كلها ستتحول إلى ركام وأنقاض بحيث أن الثورة لو نجحت فإنها سترث تبعة ثقيلة قد تأكل كل الجهود والإمكانيات ولعقود طويلة قبل أن يتمكن الناس من تحقيق أحلامهم وطموحاتهم المشروعة في بناء بلدهم على الصورة التي يحبون، ولقد سمعت عن واحد من هؤلاء الحكام أنه كان يردد: من أراد أن يستلم البلاد فليستلمها ترابا!
إن شعوبنا العربية والإسلامية ليست جبانة ولا منافقة، وقد أثبتت تجارب الربيع العربي وتجارب المقاومة الباسلة في فلسطين والعراق وأفغانستان أن هذا الجيل لا يختلف عن أسلافه الأولين في قيم النخوة والشجاعة والاستبسال، لكن هناك حالة من التردد والتخوف تمليها طبيعة الصراع وأدواته الحديثة والتي تصل بحق إلى مستوى الإبادة الجماعية والتدمير الشامل. وإذا نظرنا في مساحة الكون الأوسع فسنرى شعوبا ودولا أخرى في الشرق والغرب تقع كذلك تحت وطأة هذا التباين الحاد في موازين القوى، وخير مثال على هذا حالة الشعوب الأفريقية التي آثرت الصمت الطويل وهي تئن تحت السياسات الاستعمارية التي يمارسها المستعمرون بالمباشر أو عبر وكلائهم من الحكام الأفارقة.
إن المنظمات أو المؤسسات العالمية لم تعد مؤتمنة على مصير هذه الشعوب، أو حتى المساعدة في تخفيف وطأة الظلم المسلط عليها داخليا أو خارجيا، وذلك لوجود خلل في تركيبة هذه المنظمات وفلسفتها الحاكمة أو الناظمة، فمجلس الأمن هو أشبه باستحقاق عسكري وسياسي للدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، وهي التي منحت لنفسها العضوية الدائمة وحق النقض الفيتو، ولذلك ولد هذا المجلس مشوها ووفق مقاسات القوى العظمى فقط، وإلا فكيف لا تكون القارة الهندية ممثلة في هذا المجلس وهي التي تصل إلى 20% من سكان العالم وكذلك العالم الإسلامي الذي تجاوز هذه النسبة بينما تحظى المملكة المتحدة بمقعد دائم وهي لم تصل إلى نسبة 1% من سكان العالم ومثلها فرنسا!
إن هذا الخلل في تركيبة مجلس الأمن سينعكس حتما في قراراته المصيرية، ولذلك لم يتمكن هذا المجلس من إدانة إسرائيل وهي تتجاوز كل مبادئ الشرعية الدولية وقراراتها مثلما لم يتمكن من إدانة إيران وهي تحتل الجزر الإماراتية وتكرر تهديداتها بضم البحرين! فضلا عن عجز هذا المجلس عن إدانة الولايات المتحدة التي قررت غزو العراق وتدميره من دون أي غطاء دولي! ومثل هذه الشواهد أكبر من أن يحصى، ولذلك فإن شعوبنا المنكوبة لا يمكن أن تنسى هذا السجل الظالم والحافل بازدواجية المعايير المفرطة سواء للقوى العظمى أو لهذه المنظمات التي تدور في فلكها، ولكنها تتطلع في الحقيقة إلى هامش من التوافق في المصالح ولو على سبيل الاستثناء كما حصل للمسلمين في يوغسلافيا السابقة وكما حصل مؤخرا مع الثورة الليبية، وهو ما يتطلع إليه السوريون اليوم نتيجة لحالة الاضطرار القصوى التي ألجأتهم إليها جرائم النظام والتي تجاوزت كل الحدود.
إنه لا مناص اليوم من العمل على كل المستويات الممكنة لبناء منظومة العدل العالمية والتخفيف من هيمنة القوى العظمى على مقررات المؤسسات القائمة، وبهذا الصدد يمكن التفكير في النقاط الآتية:
أولا: الضغط باتجاه توسيع دائرة الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، ويمكن ترشيح عدد من الدول التي تتمتع بأنظمة ديمقراطية مقبولة وقدر من الاستقرار والتنمية مثل تركيا وماليزيا والهند واليابان وجنوب أفريقيا.
ثانيا: ترسيخ ثقافة (العدل العالمي) كقيمة عليا للمجتمعات البشرية، وذلك عبر المناهج الدراسية والمحاضن الثقافية والتربوية والوسائل الإعلامية.
ثاثا: بناء شبكة العلاقات الشعبية العالمية الفاعلة بين النشطاء في هذا الشأن أفرادا ومؤسسات سواء كانوا من أولئك المنتمين إلى الدول العظمى المهيمنة أو المنتمين إلى عالمنا الثالث أو الرابع، وبهذا الصدد ينبغي أن لا ننسى أن الشعوب الغربية بالذات تمتلك القدرة الحقيقية على المشاركة في القرار السياسي والضغط على سلطاتها التشريعية والتنفيذية، وكل الذي نحتاجه معهم هو التواصل الفعال لشرح مستوى الظلم الواقع على شعوبنا وإقناعهم بالمصالح الحقيقية المشتركة والتي تتجاوز حسابات الشركات وتجار الأزمات، وأن تحالف الشعوب سيكون أقوى وأدوم من تحالف الحكومات والأنظمة.
إنه لمن المؤسف حقا أن تتمكن حركة تيودور هرتزل من التغلغل في المجتمعات الغربية وإقناعها بالمشروع الصهيوني حتى تمكنت من قلب الرأي العام من كاره ونابذ للأقلية اليهودية وسلوكها وطريقة تعاملها إلى متعاطف ومدافع بل ومقاتل معها، وأن العالم الإسلامي لم يتمكن من طرح أي قضية مقنعة حتى لو كانت على مستوى التمييز الطائفي الذي يتعرض له السنّة في إيران أو المذابح البشعة التي يتعرض لها المسلمون في بورما.
إن هناك مجموعة من العقد الفكرية والنفسية التي تحول بيننا وبين التواصل الإيجابي مع العالم، فهناك من لازال يعتقد أن مجرد هذا التفكير يعد خارما لأصول العقيدة ومعاني الولاء والبراء والتوكل على الله، وقد نسي أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي قال عن حلف الفضول: ( لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو دعيت به في الإسلام لأجبت) وهو الحلف الذي يقول فيه ابن كثير: ( أكرم حلف سمع به وأشرفه في العرب..تعاهدوا بالله ليكوننّ يدا واحدة مع المظلوم على الظالم).
وهناك من يرى وكأن العالم قد اتفق بحكوماته وشعوبه على محاربة الإسلام والمسلمين، أو كأن العالم أصبح مجندا للماسونية العالمية ولشقيقاتها وقريباتها من المنظمات السرية والباطنية، ولا شك أن هذه الهواجس ستؤدي بالضرورة إلى حالة من الشلل واليأس الخانق، مع أن القرآن ينقض هذا الوهم من أساسه حيث يقول عن الأعداء المناوئين للدعوة فضلا عن غيرهم : (تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى)الحشر 14.
1158 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع