بقلم احمد فخري
رواية (صانع المعجزات) -الجزء الاول
دخل الاستاذ همام العاني مدرس الرياضيات الى الصف سادس علمي شعبة أ فوقف له جميع الطلاب احتراماً. نظر اليهم وقال، "جلـــــــــــــوس". فجلس الطلاب خلف رحلاتهم وفتحوا كتبهم وكراريسهم كعدتهم لكنه امرهم على الفور، "اغلقوا كل شيء، اليوم لدينا اختبار بمادة الكالكيلوس". فوقف احد الطلاب وقال،
ريان : استسمحك عذراً استاذي لكننا سبق وان خضنا هذا الاختبار بالاسبوع الماضي.
الاستاذ همام : ذلك لا يهم يا ريان. فهذه السنة لديكم امتحان وزاري ولا اريد احدكم ان يرسب او يتحصل على درجة متدنية بهذه المادة المهمة. وبما انك افضل طلابي فلماذا تعترض يا ترى؟
ريان : انا لست اعترض عن نفسي يا استاذ بل اعترض لان الكثير من الزملاء قد رقدوا في منازلهم بسبب اصابتهم بجائحة كورونا واتمنى ان لا تفوتهم الفرصة لخوض هذا الاختبار.
الاستاذ همام : لا تقلق بشأن هؤلاء الطلاب الخمسة يا ريان. هيا اجلس انت بمكانك وادي الاختبار مع زملائك.
ريان : حسناً كما تشاء يا استاذ.
وزع الاستاذ اوراقاً فارغة مع نسخ للاسئلة على طلابه الخمسة وثلاثون. كان الاختبار يتألف من ثمانية اسئلة، اربعة منها عن التفاضل واربعة اخرى عن التكامل.
بدأ الطلاب باداء الاختبار وعندما انتهت الحصة، راح استاذهم يجمع الاوراق فوقف الطلاب وهمّوا بمغادرة الصف لكن الاستاذ نادى على ريان وطلب منه ان يتخلف ليٍسأله،
الاستاذ همام : كيف تجري الامور معك بالبيت يا بني؟
ريان : الاوضاع لازالت على ما هي عليه يا استاذ. فقد طردني عمي واقسم انه لن يوافق على رجوعي الى البيت مهما حصل. لذلك فانا مازلت اسكن ببيت زميلي عمر.
الاستاذ همام : لا حول ولا قوة الا بالله. لا اعلم لماذا غضب منك بهذا الشكل؟
ريان : غضب مني لانني تأخرت ببيت صديقي عمر حين كنا نراجع دروسنا سوية يا استاذ.
الاستاذ همام : ولماذا يغضب من ذلك؟ الا يعلم انك ستؤدي امتحان البكالوريا هذه السنة وانك دائماً من الطلاب المتفوقين وليس لديك اي اهتمامات اخرى غير الدراسة والتحصيل العلمي؟
ريان : اعتقد انها حجة واهية يا استاذ. فمنذ ان توفى الوالد والوالدة بحادث السير. اصبحت انا واختي خلود نعيش ببيت عمي. لكن زوجته صارت تتذمر منا كثيراً وتريد التخلص من همنا باي ثمن. حتى انها ارادت تزويج اختي خلود لرجل حقير معروف لدى الجميع بخسته وسفالته. الا ان الله ستر ولم تتم تلك الزيجة اللعينة.
الاستاذ همام : وكم عدد اولاد عمك؟
ريان : انهم 4 ذكور يا استاذ. جميعهم توجهوا لمهنة الميكانيك إذ كانوا يخرجون مع عمي الى ورشته منذ الصغر. لذلك فانهم ينظرون الينا بحقد دفين كوننا ما زلنا نواصل الدراسة.
الاستاذ همام : باي سنة اصبحت اختك خلود؟
ريان : انها بالسادس العلمي مثلي تماماً لاننا توأم كما تعلم.
الاستاذ همام : اجل، اجل هذا صحيح، لكن تزويجها بهذا السن المبكر سوف ينهي حياتها الاكاديمية خصوصاً وانها كانت الثانية على العراق في امتحان الثالث المتوسط. لقد حصلت على معدل 99% ومع ذلك كان مجموعها النهائي اقل بثلاث درجات من معدل الاول على ما اذكر. كان بامكانها ان تصبح الاولى.
ريان : ماذا نعمل للقدر؟ فنحن نعاني من جور زوجة عمي وتنمر اولادها علينا بنفس الوقت.
الاستاذ همام : انه لامر محزن حقاً يا ولدي. كل ما استطيع نصحك به هو ان تصبر لان مستقبلك واعد بإذن الله لذلك اريدك ان تتحصل على معدل عالِ هذه السنة لتدخل كلية الطب.
ريان : بالحقيقة، تستهويني هندسة الحاسوب يا استاذي.
الاستاذ همام : حسناً وما الضير في ذلك؟ يجب عليك ان تحصل على معدل عالٍ كي تتمكن من الدخول الى الكلية التي تستهويك.
ريان : وهو كذلك يا استاذ.
الاستاذ همام : هيا اخرج مع باقي زملائك الآن ودعني اصحح اوراق الاختبار.
باليوم التالي وبينما كان الطلاب يستمعون الى محاضرة من مدرس اللغة الانجليزية دخل عليهم استاذ همام العاني مدرس مادة الرياضيات وسلم حزمة من الاوراق الى مدرس اللغة الانجليزية وتهامس معه بصوت منخفض ثم خرج واغلق الباب ورائه. نظر مدرس اللغة الانجليزية الى الطلاب وقال،
مدرس اللغة الانجليزية : لقد اعطاني الاستاذ همام نتائج الاختبار الذي خضتموه بالامس. يبدو ان اغلبكم تمكن من الحصول على درجات جيدة ما عدى البعض القليل منكم، لذا طلب مني تسليمكم الاوراق.
بدأ بتوزيع الاوراق ولما وصل الى ريان نظر الى ورقته وقال،
مدرس اللغة الانجليزية : مبروك يا ابني، لقد حزت على اعلى درجة في الاختبار، انها 100/100 فانت مميز بمادة الانجليزية والرياضيات وسمعت من المعاون انك متفوق بجميع المواد كذلك. ربما سوف تصبح الاول على العراق هذه السنة.
ريان : ان شاء الله. هذا يعود لجهودكم في تدريسنا.
بعد انتهاء حصة الانكليزي خرج الطلاب من الصف وصاروا يقارنون نتائجهم بنتائج زملائهم الآخرين لكن ريان كان يشعر بحزن كبير فاقترب منه صديقه عمر وسأله،
عمر : لماذا تبدو حزيناً يا صديقي؟ الا تعجبك درجتك؟
ريان : بالعكس، انا سعيد بها ولكن، ما قيمة الدرجة إذا كان يراودني شعور بانني لاجئ.
عمر : انت لست لاجئاً ابداً بل انت تسكن عندي ببيتي وهذا يعني انك في بيتك وامي هي امك تحبك كثيراً وتعتبرك ابنها.
ريان : ولكن، الى متى سابقى لديكم اتناول طعامكم واغتسل بمائكم وارتدي من ملابسك؟ ربما ستسأمون مني في يوم من الايام.
عمر : اسمع يا ريان، في بيتنا، نحن نحبك ونتمنى لو انك تبقى معنا دائماً. ادعوا لي يا صديقي ان يهبني الله عمراً كي استمتع بصحبتك.
ريان : سيهبك عمراً إن شاء الله وسوف تشفى بإذنه واحد احد.
عمر : يجب ان تقع معجزة كي اشفى من سرطان الدم (اللوكيميا). انه مرض خطير ومميت لا يشفى منه احد ابداً.
ريان : بالعكس يا اخي لا تيأس من رحمة الله. ما علينا الآن سوى ان نركز على دراستنا وتقدمنا العلمي تاركين الباقي على مشيئة الله وقدره.
عمر : ونعم بالله.
بعد مرور اسبوعين دخل ثنائي ريان وعمر المدرسة في الصباح الباكر فرأوا جلبة كبيرة بالساحة ليقترب منهم احد زملائهم ويقول،
اياد : اسرع، اسرع يا ريان فالمعاون يبحث عنك ويريد التحدث اليك بشكل عاجل. يبدو انه غاضب منك كثيراً.
ريان : غاضب مني؟ ولماذا يغضب مني؟ لقد كان ادائي جيداً بالامتحانت التجريبية كلها.
اياد : لا اعلم، لقد خرج للساحة ونادى عليك ثم قال، "اين ذلك اللص الحقير ريان؟".
عمر : هل انت متأكد ان المعاون قال (ريان)؟ ربما اسأت السمع يا اياد.
اياد : لا، انا متأكد مما سمعت. اذهب اليه بمكتبه واستقصي الامر يا اخي.
ذهب ريان الى مكتب المعاون فلحق به صديقه عمر. طرق الباب فأذن له فدخل ليتبعه عمر فسمع المعاون يصرخ باعلى صوته،
المعاون : اريـــــــــد ريان وحده. اخرج انت يا عمر واغلق الباب ورائك.
خرج عمر بسرعة فائقة واغلق الباب. وقف المعاون وعينه تتطاير منها الحمم واللهب وكأنه تنين قال،
المعاون : تعال يا حيوان قف امامي. اين المال الذي سرقته من زميلك مثنى؟
ريان : اي مال تتحدث عنه سيادة المعاون؟ انا لم اسرق اي شيء. لقد وصلت للتو الى المدرسة بصحبة عمر. بامكانك ان تسأله.
المعاون : السرقة تمت بالامس وليس اليوم. لقد اختفى مبلغ 500000 دينار من حقيبة زميلك مثنى. هل تنكر انك انت من سرقت المبلغ؟
ريان : هذا كلام غير صحيح يا استاذ. انا لم اسرق اي شيئ. كيف عرفتم انني انا الفاعل؟ لا يمكنكم اتهامي من دون دليل.
المعاون : لقد شاهدك احد زملائك وابلغ مثنى بان ماله قد سُرق من حقيبته.
ريان : متى وقع ذلك الحادث المزعوم يا استاذ؟ ومن هو الذي اخبر مثنى؟
المعاون : بالامس في الحصة الاخيرة أي تمام الساعة الثالثة بعد الظهر.
ريان : لكن الحصة الاخيرة كانت فراغ وانا ذهبت مع عمر الى بيته كي نراجع الدروس قبلها بساعة هناك ووالدته كانت موجودة بالدار. تغدينا معها الساعة الثانية والنصف. بامكانك ان تتصل بها وتسألها.
المعاون : على العموم، نحن بلغنا الشرطة بالحادث والشرطة تبحث عنك الآن. لذلك ساتصل بالضابط كي يبعث بمفرزة حتى تأخذك من هنا.
ريان : ليس هناك داعي للمفرزة فانا ذاهب الى المركز بنفسي لانني لم اقترف اي ذنب.
المعاون : كلا توقف، لقد طلبوا مني ان اتحفظ عليك وابقيك معي بمكتبي حتى يأتوا لالقاء القبض عليك.
ريان : حسناً استاذ ولكن يجب ان تعلم بانك ترتكب خطأ جسيماً.
المعاون : ستحقق الشرطة بالامر وسوف يقفون على الحقيقة، واذا تأكدوا من ضلوعك بالسرقة فيجب عليك ان تعتبر نفسك مفصولاً من المدرسة.
ريان : يعلم الله انني بريئ من تلك التهمة وسوف يظهر الحق ان شاء الله.
فجأة دخل الفراش وقال، "جائت مفرزة من الشرطة يا استاذ" فامره المعاون بادخالهم. وبعد قليل دخل ضابط شرطة ومعه شرطيان بغرفة المعاون فحيا المعاون وقال،
الضابط : أهذا هو السارق؟
المعاون : اجل اسمه ريان عبد المجيد.
نظر اليه ثم امر احد اعوانه كي يُثَبّتَ الاصفاد على معصميه ففعل ثم سمع ريان يقول.
ريان : اقسم لك سيدي انني لم...
الضابط : اغلق فمك ايها اللص الحقير السافل. ساعرف كيف اجعلك تعترف بالحقيقة وترد المال لاصحابه.
المعاون : ارجو منك ان تُعْلِمَنا فور ثبات التهمة عليه.
الضابط : سافعل ذلك حضرة المعاون. في امان الله.
خرجت الشرطة بريان من مكتب المعاون واخترقوا الحشد الكبير من الطلاب الذين تجمهروا بالممر خارج مكتب المعاون. البعض منهم كان يضحك ويستهزئ بريان ويشمت به والبعض كان حزيناً يأسف على طالب مثالي في اخلاقه وادائه الدراسي. وقف معهم استاذ اللغة الانكليزية ينظر الى ريان ويهز برأسه من شدة الاسى وبالكاد يحجب دموعه من عينيه. أدخل ريان بداخل مركبة الشرطة وغادرت مسرعة لتختفي عن انظار الطلاب خارج بوابة المدرسة.
وبعد ان جابت المركبة شوارع بغداد، وقفت امام المركز ليدخل رجال الشرطة المركز متأبطين ريان يسبقهم الضابط الذي دخل وكأنه جنرال منتصر على عدو غاشم فيدخلوه غرفة التحقيق. اما الضابط فذهب الى مكتبه مباشرة كي يسترد طاقته ويتناول قدحه المعتاد من الشاي بذلك الوقت من اليوم. وفور جلوسه خلف المنضدة دخل عليه آمر المركز ليسأله،
الآمر : لقد بلغني انكم احضرتم السارق من المدرسة.
الضابط : اجل سيدي.
الآمر : يجب عليك ان تحقق معه باسرع وقت فنحن لا نريد ان نثير غضب العصائب. الولد الذي سُرِقَ منه المال يكون نجل صديق احد قياديي العصائب.
الضابط : سافعل ذلك بعد قليل سيدي.
الآمر : احسنت يا ملازم اول.
قالها وخرج من مكتب الضابط.
ترشف منتظر من قدح الشاي ثم توجه الى غرفة التحقيق ليجد ريان جالساً على الارض قال،
ملازم اول منتظر : انتصب امامي يا كلب. لماذا سرقت المال من زميلك؟
وقف ريان امام الضابط وقال،
ريان : انا لم اسرق اي شيء من اي احد سيدي.
ملازم اول منتظر : وهل تنعتني بالكذب؟
ريان : انا لا انعتك بالكذب لكنني بريء من التهمة لانني لم اسرق شيئاً.
ملازم اول منتظر : قل لي يا ريان، اين تسكن؟
ريان : اسكن ببيت صديقي عمر.
ملازم اول منتظر : ولماذا لا تسكن ببيتك؟ اليس لديك بيت؟
ريان : لقد توفى والدي ووالدتي بحادث سير. وبما اننا كنا نسكن في بيت مستأجر، انتقلت انا واختي التوأم لنسكن ببيت عمي. لكن زوجة عمي لم يرق لها ذلك فحاربتنا كثيراً وارادت تزويج اختي لرجل سيئ السمعة لكن الله ستر ولم تتم تلك الزيجة وانا ايضاً حاربتني بكل ما لديها من خبث ودهاء حتى اضطررت لمغادرة بيت عمي وسكنت ببيت صاحبي عمر.
ملازم اول منتظر : بما انك تسكن ببيت صاحبك وتأكل من طعامه فلماذا تسرق ياكلب يا ابن الزانية؟
رفع يده للاعلى وصفع ريان صفعة قوية كادت تفصل رأسه عن باقي جسده. صرخ ريان وقال،
ريان : اقســـــــــم لك سيدي انني لم..
قاطعه الضابط بصفعة اقوى من الاولى وصار يلكمه وكأنه كيس للملاكمة. بقي ريان يتلقى اللكمات والصفعات والشتائم القذرة التي لم تألف اذنه على سماعها ولا حتى من احط طلاب المدرسة. وبعد ان اصاب الضابط الوهن من شدة ما فعل توقف قليلاً وقال،
ملازم اول منتظر : ساتركك الآن كي تفكر بما قلت وان تصدقني القول حين اعود والا فانك ستخرج من هنا جثة هامدة يا ابن الفاجرة.
كان ريان في اقصى درجات الحزن واليأس، يبكي ويندب حظه الذي اوصله الى تلك المصيبة دون ان يكون له يد فيها. انها بالتأكيد تهمة كيدية من احد الطلاب ولكن يا ترى، من عساه يكون؟ من الذي ابلغ مثنى باني سرقت ماله؟ لا اعتقد ان هناك احد غير مثنى بنفسه. اجل انه بالتأكيد ذلك الوغد الحقير. فهو يكرهني كثيراً لانني متفوق عليه في الدراسة بحيث كان يُسمِعَني الكثير من الكلمات النابية عندما اقترب منه في الساحة. يجب ان اخبر الضابط عنه كي يحقق معه حتى يعلم انني بريء ولا استحق كل ذلك الضرب والتنكيل والشتائم القذرة التي يسمعني اياها. اجل ساخبره ودعه يجلب مثنى للتحقيق فيتبين من الحقيقة ويخلي سبيلي فالبكالوريا على الابواب.
رجع الضابط الى غرفة التحقيق وقال،
ملازم اول منتظر : هل راجعت نفسك يا ابن الزانية؟
ريان : اجل سيدي، اريد ان اخبرك بالحقيقة.
ملازم اول منتظر : سجل يا عريف عباس اقواله. تكلم يا ريان.
ريان : اردت ان اخبرك بان زميلي مثنى يكرهني كثيراً ويغار من تفوقي في الدراسة لذلك لدي شك انه هو من حاك لي تلك التهمة واراد الايقاع بي. انا متيقن ان ليس هناك اي شاهد. وإن كان هناك شاهد، فسوف يكون احد زبانية مثنى واصحابه المقربين.
ملازم اول منتظر : كيف تقول ذلك ايها الكلب الظال. انه هو المظلوم هنا فلقد قمتَ بسرقة ماله والآن تأتي لتخبرني بانه لفق لك تهمة؟ كم انت سافل ومنحط ووضيع وبلا تربية. اخرجوه من هنا وضعوه في الزنزانة.
خرج ملازم اول منتظر من غرفة التحقيق وتوجه الى مكتب الآمر. وبعد ان حياه قال،
ملازم اول منتظر : لقد تأكدت من ان ذلك الطالب ريان هو السارق سيدي.
الآمر : هل اعترف بذنبه؟
ملازم اول منتظر : كلا، لكنه حاول الصاق التهمة بزميله المتضرر مثنى.
الآمر : إذاً سيحول الى النيابة غداً وسوف يتلقى نتيجة اعماله. احسنت صنعاً يا منتظر.
ملازم اول منتظر : شكراً لك سيدي.
باليوم التالي نُقِلَ ريان الى النيابة العامة وتم التحقيق معه هناك لمدة اسبوع كامل. تلقى خلالها جميع انواع الاهانات والضرب حتى لم يعد يشعر بشيء. وفي آخر المطاف قررت النيابة العامة احالته للمحكمة لثبات التهمة عليه من جراء التحقيق. وفي المحكمة لم يكن القضاء العراقي الجديد ارحم من ممارسات الشرطة والنيابة لينتهي الامر باصدار القاضي حكماً جائراً مدته 3 سنوات في سجن ابو غريب. بعدها نقل الى هناك مع سجناء آخرين كي يتلقى محكوميته.
<<<<<<<<<
دخل ريان السجن للمرة الاولى في حياته وكان يشعر وكأنه يقاد الى الاعدام. لكنه وجد ان الامر كان مختلفاً تماماً خلف القضبان لانه التقى بمسجونين يختلفون كلياً عمن التقاهم في السابق.
في الايام الاولى من حبسه لم يزره احد سوى صديقه عمر بصحبة والدته. لكن هذه الزيارات انقطعت فجأة دون سابق انذار. لذا علم انهم لن يعودوا قادرين على زيارته لاسباب يجهلها تماماً. اما زملائه السجناء فكان جلهم خلوقين ومهذبين معه لانهم يقدرون سنه الصغير الذي بالكاد لامس التاسعة عشر. توددوا اليه واستمعوا لقصته ولم يصدقوا تهمته فتعاطفوا معه كونهم كانوا بحالة مشابهة لحالته حين تعرض اغلبهم للتهم الكيدية والتعنيف والتحقير من قبل الشرطة اثناء التحقيق. لذا وجد فيهم الكثير من الود والاحترام وبالاخص احد السجناء المدعو صالح الخميسي. هذا المسجون، اي صالح كان من الطائفة المندائية وكان يعمل مبرمجاً للحاسوب لدى احدى الشركات الاهلية ببغداد قبل دخوله السجن. شعر ريان ان بينهم الكثير من الامور المشتركة لانه كان يشاطره نفس الشغف نحو الحواسيب لذلك شعر من الوهلة الاولى انه سيصبح صديقه المقرب. وبالمقابل اعجب صالح بقدرات ريان اللامحدودة في الرياضيات والفيزياء واللغة الانگليزية. لذلك صاروا يقضون معظم اوقاتهم سوية يتبادلون المعلومات التقنية حتى سأله يوماً،
ريان : هل تستطيع ان تعلمني برمجة الحاسوب يا صالح؟
صالح : بالتأكيد لكنها تتطلب وقتاً طويلاً.
ريان : وماذا لدينا غير الوقت؟ ارى ان الكثير من رفاق السجن يضيعون جل اوقاتهم بالدردشة او النوم لساعات طوال، وكأنهم يريدون انهاء مدة محكوميتهم بدنيا الاحلام. فلماذا لا نقضي اوقاتنا بشيء مجدٍ ونافع؟
صالح : والله فكرة جميلة لكنني ساغادر السجن خلال ثلاثة أشهر فمحكوميتي ستنتهي.
ريان : وانا ساغادرها بعدك بوقت طويل جداً لذلك دعني اتعلم منك واستفيد.
صالح : حسناً لكننا كي نبدأ مهمتنا سوف نحتاج الى بعض الامور الاساسية. اولاً ستلزمك القرطاسية. ثانياً يلزمنا جهاز حاسوب للتطبيق عليه.
ريان : وكيف سنحصل على ذلك ونحن بداخل السجن؟
صالح : هذا امر هين. دع الامر لي وساقوم بتوفير الحاسوب بطريقتي الخاصة. يجب اولاً ان اقوم بتعليمك بعض بدائيات علم الخوارزميات والبرمجية. لذا دعني اسألك، هل تعرف النظام الثنائي للحساب (الباينري) ؟
ريان : كلا، لم يسبق ان مر عليّ.
صالح : اذاً سيكون اول مادة ادرسك اياها. دعنا نبدأ.
اقترض ريان بعض دفتراً وقلماً من رفاق السجن وجلس مع صالح في زاوية هادئة بعيداً عن اصوات السجناء ودردشتهم وصار يستمع الى معلمه صالح الذي راح يصب العلم في دماغ تلميذه. تعجب صالح لذكاء ريان وسرعة بديهيته في استيعاب ما يتلقاه من علم حتى انتهوا من مادة (الباينري) خلال يومين فقط. بعدها بدأ صالح يدرسه المنطق من الناحية الرياضية ثم في الآخر اخبره انه سيعلمه لغة الاساس الـ (بايسك) لبرمجة الحاسوب. كان ريان تلميذا مجتهداً يواظب على الدروس ويستوعب كل ما يتلقاه من معلومات حتى وصل الى ان قال له استاذه،
صالح : ساطلب منك الآن ان تكتب لي اول برنامج يقوم بحساب عدد الايام والساعات والدقائق والثواني ما بين تأريخين.
ريان : حسناً امهلني ساعة واحدة فقط لاكمل البرنامج.
رجع ريان بعد 40 دقيقة واعطى الورقة لمعلمه فنظر صالح الى البرنامج الذي كتبه ريان وصار يتفحص كل امر وكل جملة وكل فارزة فيه حتى تبسم بعدها وقال،
صالح : ممتاز، عفاك يا ريان. لقد كتبت البرنامج بشكل صحيح. والآن ساطلب منك ان تكتب لي برنامجاً جديداً يحل المعادلات من الدرجة الثانية فتطلب بعدها من المستخدم اعطاء المتغيرات الثلاثة (أ و ب و جـ).
ريان : هذا امر هين جداً ساعمله الآن.
صالح : حسناً لكنني اشعر بصداع. لذلك قم بكتابة البرنامج وحدك ثم ساطلع عليه غداً.
ريان : سمعاً وطاعة استاذي.
بعد اقل من ساعة كتب ريان البرنامج وهو سعيد جداً بما انجز وعلم ان استاذه سيكون فخوراً به في الغد. وفي اليوم التالي جلس الاستاذ وتلميذه سوية فعرض عليه الورقة. نظر اليها صالح وقال،
صالح : لقد كتبت ذلك البرنامج بطريقة مختلفة عما لو كنت ساكتبها انا.
ريان : المهم عندي، هل هي طريقة صحيحة ام لا؟
صالح : اجل، اجل، انها جداً صحيحة وتختصر الكثير من الوقت. لقد عاملت المتغيرات والثوابت بشكل ذكي ومختصر افضل مما لو كنت سافعلها انا. انت حقاً ذكي جداً يا ريان.
ريان : الشكر لك استاذي، انت من علمتني والفضل كله يعود اليك، فقد احسنت تعليمي.
صالح : اعتقد ان الاوان قد حان كي نطبّق تلك البرامج بشكل عملي.
ريان : ومن اين سنأتي بحاسوب؟ نحن في سجن لا بمقهى كومبيوتر.
صالح : سنستعمل الحاسوب الذي بغرفة مأمور السجن.
ريان : هل جننت يا صالح؟ سوف يكتشف المأمور امرنا ثم يضعنا بالحبس الانفرادي لو علم بذلك.
صالح : بالعكس سوف يعلم لكنه سوف لن يكن لديه اي اعتراض. ساخبرك كيف يا صديقي.
بدأ صالح يسرد عليه خطته فاعجب بها كثيراً. باليوم التالي ذهب صالح وريان الى مكتب مأمور السجن السيد فلاح محسن وطلب صالح من ريان الانتظار خارج المكتب ثم طرق الباب ودخل قال،
صالح : لقد جئت لالبي طلبك سيدي.
مأمور السجن : اسمع يا صالح اريدك ان تنظف حاسوبي من الفيروسات، فلقد اصبح بطيئاً جداً.
صالح : بكل ممنونية سيدي.
مأمور السجن : وكم سيستغرق ذلك؟
صالح : كالعادة، اربع الى خمس ساعات.
مأمور السجن : لا اعلم ماذا سافعل بعد رحيلك من السجن يا صالح ومن الذي سينظف حاسوبي بعدك.
صالح : لقد فكرت بذلك جيداً يا سيدي وقد خطرت لي فكرة اتمنى ان تروق لك. لقد قمت بتدريب احد المساجين الجدد كي يحل محلي. انه شاب ذكي جداً ويستوعب كل ما القنه.
مأمور السجن : اهو ذلك الشاب الجديد ريان عبد الحميد او عبد المجيد.
صالح : اجل سيدي انه ريان عبد المجيد.
مأمور السجن : وهل هو مثلك في معلومات الحاسوب؟
صالح : سيكون مثلي او افضل مني بعد ان انتهي من تعليمه.
مأمور السجن : حسناً، ولكن اريدك ان تباشر بالتنظيف بعد الظهر وليس الآن.
صالح : وهو كذلك سيدي. ساعود الساعة الثانية ظهراً.
مأمور السجن : هذا جيد لانني اريد ان اخذ قيلولة قصيرة حينها ثم اعمل جولة تفقدية بارجاء السجن بعدها.
صالح : سافعل ذلك سيدي.
خرج صالح من مكتب المأمور فوجد ريان ينتظره. تَمَشّيا سوية وعادا الى القاووش وفي الطريق سأله،
ريان : هل وافق مدير السجن؟
صالح : اولاً اسمه مأمور السجن وليس مدير السجن. ثانياً لدينا خمس ساعات كي نستعمل الحاسوب والانترنيت.
ريان : يا الهي، هذا المدير... اقصد هذا المأمور انسان طيب جداً.
صالح : لا ليس طيباً لهذه الدرجة. فلديه مصلحة بان يسلمنا حاسوبه لنعبث به. الحكاية وما فيها انه باغلب الاحيان يدخل على مواقع اباحية على الانترنيت، ومن جراء ذلك تدخل عليه فيروسات ودعايات كثيرة تخنق الحاسوب لتجعله يعمل ببطئ شديد. لذلك يطلب مني ان انظفه بين الفينة والاخرى.
ريان : وهل حقاً تستغرق العملية 5 ساعات؟
صالح : كلا طبعاً. العملية لا تتطلب اكثر من ساعة واحدة فقط، لكنني قبل اجراء التنظيف اقوم بالدخول على بريدي الالكتروني واقوم بالرد على كل المراسلات لاهلي واصدقائي بالبصرة واقاربي في هولندا. وبعد ان اكمل جميع اعمالي ومراسلاتي اقوم بمسح الحاسوب مسحاً كاملاً وشاملاً على قرصه الصلب وذلك باجراء عملية (الفورمات) ليعود الى حالته كما لو كان جديداً.
ريان : يا لك من ذئب.
صالح : واليوم عزيزي ريان ساخذك الى مكتب المأمور كي نبدأ بدرس عملي على البرامج التي قمت انت بكتابتها مسبقاً.
ريان : وانا جاهز من الآن. متى سنذهب؟
صالح : الساعة الثانية بعد الظهر.
مر الوقت بصعوبة شديدة على ريان لانه كان يشعر بحماس كبير حتى يرى برامجه وخوارزمياته تنتفض الى الحياة بعد ان قضى اوقاتاً طويلة في تعلمها وفك طلاسمها. ولما حلت الساعة وقف ريان وامسك بكراسته واقترب من صالح ليسأله،
ريان : الم يحن الوقت بعد؟
صالح : اجل، الوقت قد حان، هيا بنا.
خرج (ثنائي اللابتوب) كما كان رفقاء السجن يطلقون عليهم وتوجها الى مكتب المأمور. وبينما كانا يسيران بالممرات كان صالح يحذره رفيقه من الكلام الذي ليس له لزوم عندما يكونا بحضور المأمور. وقفا خارج بابه فطرق صالح الباب ليسمع صوتاً ينادي،
المأمور : ادخل يا صالح.
دخل صالح وريان المكتب ووقفا امام منضدته، حيوه فقال لهما،
المأمور : جئتما بالوقت المناسب. هيا باشرا عملكما وانا ساتوجه الى غرفتي لانال قسطاً من الراحة.
صالح : بامكانك ان تأخذ غفوة طويلة سيدي لاننا سنستغرق فترة لا بأس بها.
المأمور : وهو كذلك.
خرج المأمور من مكتبه تاركاً صالح وتلميذه يكبسان على الازرار ويتهامسان عن المعلومات التي تظهر لهما اثر استخدام الحاسوب. وبعد مرور اربع ساعات سمعا الباب ينفرج ويدخل المأمور وهو يتثائب ويقول،
المأمور : الم تنتهيا بعد يا شباب؟
صالح : بقي لنا مجرد ساعة سيدي.
المأمور : إذاً ساذهب بجولة تفقدية في ارجاء السجن وساعود بعد ساعة من الآن.
خرج المأمور واغلق الباب ورائه فقال صالح،
صالح : هيا يا ريان دعنا نقوم بفرمتة قرصه الصلب قبل ان يعود فيستاء منا.
ريان : الا علمتني الخطوات لتحقيق ذلك؟
صالح : بالتأكيد، ساعلمك الآن. اسمع مني جيداً، في السابق اي منذ بضع سنين خلت، كان يترتب على من يريد اعادة تنظيف القرص الصلب بالحاسوب وضع قرصاً مدمجاً بداخل مسوق القرص الليزري لتتم عملية الفرمتة. لكن الآن اختلف الامر وتغير ذلك الاسلوب. فالحواسيب الحديثة وبالاخص الحواسيب النقالة (اللابتوب) لديها نظاماً مدمجاً بداخل ذاكرتها الثابتة ROM يمكنك من فرمتتها ذاتياً وارجاعها الى صورتها الاولية كما لو كنت قد اشتريتها حديثاً. وكل مصنّع من مصنعي الحواسيب لديه طريقة مختلفة في ايقاض تلك الخاصية.
ريان : وما هي الطريقة لحاسوب المأمور هذا؟ اقصد كيف ننادي تلك الخاصية ليقوم بالفرمتة؟
صالح : بكل بساطة. نقوم باغلاق الحاسوب تماماً. ثم نشغله من جديد ونقوم بالضغط على زر F9 قبل ان ينفتح الحاسوب نهائياً. بعدها نجري الخطوات باتباع الارشادات التي تخرج على الشاشة.
ريان : لا اصدق ما تقول، ابهذه السهولة؟
صالح : اجل بهذه السهولة يا ريان. لكن هذه الطريقة قد لا تنفع لكل الحواسيب الاخرى. فكما اسلفت سابقاً، كل مصنع وكل طراز له طريقته الخاصة.
ريان : وكيف نعرف اسلوب كل مصنع؟
صالح : ندخل على موقع اليوتيوب ونبحث عن طريقة اعادة فرمتة الحاسوب المطلوب. فعلى سبيل المثال إذا كان لديك حاسوب من نوع (اسوس). فانت تطلب من الـ (يوتيوب) عرض طريقة اعادة انشاء حاسوب اسوس من نوع كذا وكذا فيعرض لك بالتفصيل كل الخطوات اللازمة.
ريان : يا الهي، لم اكن اعرف انها بتلك السهولة. دعني اجرب عملها لهذا الحاسوب بنفسي.
صالح : حسناً هيا. الطريقة هي كما اخبرتك سابقاً، الكبس على مفتاح F9 اثناء بدء التشغيل. قم اولاً باغلاق الحاسوب.
فتتبع ريان تعليمات استاذه وفعل بالضبط ما طلب منه فتجاوب الحاسوب وبدأت عملية تنظيف الحاسوب بعد ان اختار بعض الخيارات من على الشاشة إذ صار يظهر رقماً امامه يشكل النسبة المئوية التي تمت فرمتتها. وقبل ان ينتهي من تلك العملية فاجأهم مأمور السجن ودخل مكتبه ليسأل،
المأمور : هل اكملتم كل شيء يا اولاد؟
صالح : تقريباً. انظر حضرة المأمور الى الشاشة. انها تشير الى ان 93% قد تم تنظيفه فعلاً. وطبعاً تعلّم ريان كيفية اجراء العملية المعقدة بنفسه.
المأمور : ومع ذلك اريدك ان تجلبه معك في كل المرة كي تتأكد من انه يستطيع اجراء العملية لوحده من دون الحاجة للرجوع اليك.
صالح : اطمئن سيدي. سنأتي دائماً سوية ولن اغادر هذا السجن حتى اتأكد من انك في ايدي امينة.
وما ان انتهى الحاسوب من عملية التنظيف 100% قال صالح،
صالح : لدي خطوتان اخيرتان يجب عليّ اجرائها. الا وهي اضافة اللغة العربية كي تتمكن من المراسلة ثم انزال برنامج الحماية ضد الفيروسات.
ريان : إذاً تعال واجلس مكاني يا صالح وافعل ما يلزم.
المأمور : كلا، كلا، ابقى انت جالس بمكانك يا ريان ودع صالح يلقنك الخطوات كي تتعلمها بنفسك.
هنا بدأ صالح باصدار تعليماته لريان كي يقوم بادخال اللغة العربية ثم تنزيل برنامج مجاني للحماية ضد الفيروسات اسمه (اڤاست). ثم اعلن،
صالح : الآن انتهت مهمتنا برمتها سيدي. حاسوبك اصبح جديداً كاليوم الذي ولدته امه.
نظر المأمور الى ريان وقال،
المأمور : من الآن فصاعداً، إذا احتجت الى اي شيء يا ريان، فما عليك سوى اخباري بها وساقوم بمساعدتك مهما كلف الامر. لا تسكت على مضايقات اي واحد من زملائك السجناء.
ريان : شكراً لك حضرة المأمور. زملائي السجناء لطيفون معي جداً ولا يؤذوني ابداً. ومع ذلك فانا اشكرك شكراً جزيلاً.
خرج صالح وريان من مكتب المأمور تعتريهما سعادة لا توصف. فصالح تمكن من مراسلة جميع اهله واصدقائه ممهداً لخروجه من السجن بعد فترة وجيزة وقام بمراسلة اصحابه واقاربه في هولندا. اما ريان فقد خطى خطوته الاولى في تعلم برمجة الحاسوب وانشاء الخوارزميات ومعالجة الحواسيب عندما تصاب بالڤيروسات وحمايتها منها. في ذلك اليوم خلد ريان الى فراشه ووضع رأسه على الوسادة ينتابه شعور بديع لانه حقق انجازاً كبيراً في مسيرته الطويلة نحو مستقبل زاهر بالرغم من المطبات التي واجهته في الماضي والتهمة الظالمة التي نسبت اليه. وباليوم التالي استدعى مأمور السجن (ثنائي اللابتوب) كي يتناولا وجبة كباب اربيل معه فكان ذلك بمثابة عرفاناً بالجميل لعملهما في صيانة حاسوبه.
بعد اسبوعين طرق (ثنائي اللابتوب) باب مأمور السجن من جديد فاذن لهما فدخلا وعرضا عليه الصيانة فوافق وغادر مكتبه متجهاً الى غرفته ليحصل على قيلولته المقدسة بينما راح الرفيقان يستعملان حاسوبه في التعلم ليزداد رصيد ريان خبرة ثم يجري صالح مراسلاته استعداداً لعودته الى البصرة بعد انتهاء محكوميته. وعندما انتهى الثنائي من عملية تنظيف كاملة وشاملة لحاسوب المأمور رجعا الى القاووش يملأهما الشعور بالرضى.
<<<<<<<<<<
بعد مرور ثلاثة اشهر اجتمع كل السجناء واقاموا احتفالاً غنائياً كبيراً لتوديع زميلهم صالح على اثر انتهاء محكوميته. حضر هذا الاحتفال مأمور السجن والكثير من الحراس لتناول ما لذ وطاب من الاطعمة التي اعدها السجناء في القاووش. ولما جائت لحظة الوداع احاط السجناء بصالح وصاروا يظموه ويقبلونه متمنين له حياة سعيدة خارج السجن. كان الامر صعباً جداً على ريان لانه يودع صديقاً مخلصاً وكنزاً كبيراً من المعلومات التي يحتاجها في سعيه نحو علم الخوارزميات. لكن معلمه اوصاه بدخول بعض المواقع الموثوقة على الانترنيت والتي توفر له سنداً كبيراً وبحراً غويطاً من المعلومات عن آخر التطورات والتحديثات في هذا المضمار الذي يتطور بسرعة هائلة.
توالت الايام والاسابيع والاشهر والسنين وريان يزداد خبرة بمجال الحواسيب لانه عثر على مواقع الكترونية تمكن من خلالها انزال الكثير من الكتب الالكترونية على هيئة (بي دي اف Pdf) ليواصل قراءة ذلك العلم الحيوي بشكل معمق وتمكن من حل طلاسمه التي اصبحت تشكل لبنة بناء اساسية ومهمة في حياة البشرية. اما مأمور السجن فقد كان ممتناً جداً من زيارات ريان الى مكتبه لدرجة انه اهداه جهازاً لوحياً من نوع سامسونغ. صار ريان يستعمله في انزال الكتب كي يتمكن من قرائتها بالاوقات التي لا يكون فيها بمكتب المأمور. وفي احدى الايام وبعد ان اكمل ريان عملية تنظيف الحاسوب دخل المأمور عليه وقال،
المأمور : كم بقي لديك من محكوميتك يا ريان؟
ريان : تقريباً شهراً واحد فقط سيدي.
المأمور : يا الهي مرت ثلاث سنين بسرعة البرق. سافتقدك كثيراً يا ريان. ولكن اخْبَرَتْني مصلحة السجون انهم في صدد احالتي الى التقاعد لانني بلغت من العمر سن الشيخوخة.
ريان : اتمنى لك العمر المديد سيدي.
المأمور : اريد ان امنحك رقم هاتفي الشخصي. بامكانك الاتصال بي وقت خروجك من السجن إن احتجت لأي مساعدة. وبحسب شهادات الاطراء من زملائك وباقي حراس السجن صرت أؤمن بكل احاسيسي وجوارحي انك انسان شريف وان التهمة التي ادخلتك السجن كانت تهمة كيدية لم يكن لك يد فيها.
ريان : الله وحده يعلم بذلك سيدي.
اعطى المأمور بطاقته الشخصية التي تحمل رقم هاتفه كي يحتفظ بها ويهاتفه بعد خروجه من السجن. خرج ريان من مكتب المأمور ينتابه شعور بالراحة النفسية لانه اخبره بقناعة راسخة انه يؤمن ببرائته وذلك امراً مهماً بالنسبة له. كانت الايام التي تلت تمر على ريان ببطئ شديد لانه كان يأمل ان يسترد حريته ويبتعد عن اجواء السجن والمساجين ليبني ما تهدم من حياته بعد تلك التجربة المريرة القاسية. واخيراً عندما حل يوم المغادرة، ودع السجناء زميلهم الشاب اليافع ريان باحتفال كبير وطلبوا منه عدم العودة الى السجن ولا حتى في زيارتهم. خرج ريان ونظر الى السماء الزرقاء وقد ابتلت عيناه بالدموع من شدة السعادة وراح يكرر مقولة الله عز وجل (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا). ركب مع احد المفرجين عنهم من زملائه بصحبة اسرته فاوصلوه الى ساحة التحرير وسط بغداد. شكرهم وودعهم ثم ركب حافلة اوصلته الى بيت عمه فدخل من باب المطبخ ليرى زوجة عمه تقف امامه واضعة قبضتيها على خصرها والشرر بادياً في عينيها سألته،
زوجة عمه : لماذا افرجوا عنك؟
ريان : وهل كنتِ تريدين ان يمنحوني الحكم المؤبد او الاعدام مثلاً؟
زوجة عمه : ربما ستتعلم منها وتترك السرقة يا حيوان.
ريان : لماذا تتحدثين معي بهذا الاسلوب يا زوجة عمي؟ هل بدر مني اي شيء يجعلك تعتقدين باني لص؟
زوجة عمه : من الوهلة الاولى التي احضركم فيها عمكم لتعيشوا عندي بهذا البيت كنت اشعر بانكما شريران لصوص قذرين ولم يتولى احد تربيتكما.
ريان : شكراً جزيلاً لك ولثقتك الكبيرة بنا. والآن اين اختي؟ ولماذا لم تزرني في السجن طوال فترة محكوميتي؟
زوجة عمه : لان زوجها لا يريدها ان تختلط بعالم المساجين المجرمين والقتلة.
ريان : هل تزوجت خلود؟ يا الهي! اين هي؟
زوجة عمه : انها في بيت زوجها طبعاً.
ريان : الا عطيتني عنوانها؟
زوجة عمه : انها تسكن هناك بآخر الشارع الى جانب دكان ابو علي. ثم عقبت كلامها بمثل عراقي وقالت، (اندگو كبة انته وياها)
ريان : هل ستسمحين لي كي ابقى لديكم بضعة ايام حتى استطيع ان اعثر على سكن.
زوجة عمه : كلا، انت مجرم ولص لانك غير مرغوب فيك بيننا. هيا اخرج من بيتي.
ريان : لكنه ليس بيتك. انه بيت عمي.
بهذه اللحظة الحرجة دخل عليهم عمه ليقول.
عمه : اسمع كلام زوجة عمك. انت غير مرحب بك بهذا البيت الشريف.
ريان : هل ستتخلى عني انت ايضاً يا عمي؟
عمه : كان يوماً مشؤوماً يوم (فطس) ابوك وترك اعبائك واعباء اختك برقبتي. هيا اخرج من بيتي يا لص.
ريان : هذا آخر ما كنت اتوقعه منك. شكراً لك يا عمي فانت استعملت تلك الكلمة القاسية على اخوك رحمه الله لتقول (فطس). ساخرج يا عمي وسوف لن تراني ثانية.
خرج ريان من بيت عمه وهو محبط جداً ومثقل بالهموم والدموع تفيض بمقلتيه فالحرية التي كان يصبو اليها عندما كان بالسجن لم تمنحه السعادة لانها كانت حرية زائفة مقنعة اخفت الكثير من الاحداث الحزينة بين طياتها. سار ريان يبحث عن بيت اخته حتى وجده فضغط على جرس الباب لتخرج له اخته حاملة بيدها طفلها الرضيع. ولما رأته ابتسمت وقبلته قال،
ريان : لا اصدق، هل هذا ابنك؟
خلود : بل هي ابنتي سولاف يا ريان. اسميتها على اسم امي رحمها الله. انها طفلة مشاكسة بالرغم من ان سنها لم يتجاوز الاربعة شهور.
ريان : يا ســـــــــــــلام. هذا يعني انني عمها؟
خلود : بل انت خالها يا ريان.
ريان : اجل، صدقت، انا خالها. ما اجملها من طفلة. انها تشبهك كثيراً يا اختي. ومن هو والدها؟
خلود : اسمه خزعل اللامي. لديه ورشة تصليح بجوار ورشة عمي بالشيخ عمر.
ريان : اين هو الآن؟ اريد ان اتعرف عليه.
خلود : انه لا زال في العمل لكنه سيعود بعد ساعة او ساعتان.
ريان : هل هو انسان صالح؟ هل يعاملك بالحسنى؟
خلود : اجل، انه طيب جداً ويحبني كثيراً. لقد شعرت بالامان معه بعد ان غادرت بيت عمي اللعين. لقد اذاقتني زوجته مر العذاب. انها انسانة شريرة تكرهنا كثيراً.
ريان : يؤسفني ان اسمع ذلك لكن الله عوضك بزوجك الذي يحبك وتحبينه.
جلس ريان بغرفة الاستقبال فاعطته الطفلة سولاف وذهبت الى المطبخ لتعد له الشاي. ظل ريان يداعب ابنة اخته فتتبسم له كل مرة فيطير عقله بذلك. آه كم هي جميلة فقد وقع في حبها بدون شك. لقد اصبح خالاً واتسعت دائرة عائلته المقربة. بقي جالساً يلعب مع سولاف حتى عادت خلود حاملة بيدها صينية فوقها قدحين من الشاي وضعت احداها على طاولة صغيرة امام اخوها ريان والثاني امامها ثم اخذت الطفلة من بين يديه وقالت،
خلود : انا جداً اسفة لانني لم اتمكن من زيارتك بالسجن لان زوجة عمي منعتني من ذلك بالرغم من معارضتي الشديدة لها لكنها هددت بحبسي في غرفة إذا نويت زيارتك بالسجن.
ريان : وهل اجبروك على الزواج؟
خلود : بالحقيقة هم ارادوا ان يغصبوني على الزواج لكنني غيرت رأيي عندما بدأت التمس الطيبة والاخلاق النبيلة لزوجي خزعل عندما كان يزورنا. وبما انه سينقذني من ظلم تلك (السعلوة) زوجة عمك وافقت على الزواج منه بعد فترة شهرين من دخولك السجن.
ريان : هل هو بعمرنا؟
خلود : كلا انه اكبر منا قليلاً.
ريان : وهل سبق له ان تزوج من قبل؟
خلود : اجل ولا يزال. فانا زوجته الثانية.
ريان : يا الهي ما هذه الكارثة؟ وطبعاً تركت الدراسة بعد ان كنت مرشحة لان تكوني الاولى على العراق.
خلود : اجل هذا صحيح، ولكن ماذا كنت ساجني لو انني اصبحت الاولى؟ هل كانوا سيمنحوني وسام الرافدين مثلاُ؟ فالآن انا اشعر بالسعادة والامان في بيتي الذي اسكنني فيه زوجي وهو يحبني ولا يرفض لي طلباً.
وبهذه الاثناء سمعوا باب البيت ينفتح ثم ينغلق ثانية فعلمت خلود ان زوجها قد عاد من العمل. ذهبت اليه لتستقبله ولتخبره بقدوم اخاها للزيارة. دخل خزعل غرفة الاستقبال فوقف ريان وانصدم بالمنظر. نظر الى خزعل وصار يتفحصه فعلم انه بالخمسينات من العمر على اقل تقدير لكنه تجاوز ذلك وابتسم فسمعه يقول،
خزعل : اهلاً وسهلاً بنسيبي العزيز. لو كنا نعلم بموعد خروجك لجئنا الى باب السجن لنستقبلك من هناك.
ريان : لا عليك يا اخي خزعل، فقد اوصلني بعض الاصدقاء معهم الى وسط بغداد ومن هناك جئت بالحافلة.
خلود : زوجي اسمه خزعل لكن الجميع يناديه ابو علي نسبة لابنه الاكبر علي.
ريان : ما شاء الله، وهل علي بالمدرسة؟
قهقهت خلود وقالت،
خلود : ابنه علي خريج كلية الآداب فرع اللغة العربية.
اضاف خزعل بكل فخر واعتزاز،
خزعل : انه حائز على درجة جيد جداً وقد قدم ليصبح مدرساً في احدى الثانويات.
ريان : هذا شيء رائع.
جلس خزعل على الاريكة امام ريان وسأل،
خزعل : هل فكرت اين ستسكن؟
هنا تدخلت خلود على الخط وقالت،
خلود : لماذا لا يسكن عندنا فلدينا غرفة اضافية هنا.
خزعل : دعي اخوك يقرر لنفسه فربما يريد ان يستمتع بخصوصيته بعد خروجه من السجن.
فَهِمَ ريان ان خزعل لا يفضل اقامته معهم لذلك كذّب وقال،
ريان : لا، لقد اتفقت مع احد الاصدقاء ممن افرج عنهم كي اسكن عنده حتى اجد لنفسي مسكناً منعزلاً.
خلود : على العموم بامكانك ان تسكن عندنا وقتما تشاء يا حبيبي.
خزعل : اجل، اجل بيتي مفتوح لك إن اضطررت لذلك.
وقف ريان وقال،
ريان : يبدو ان الوقت قد داهمني. يجب علي الذهاب الآن.
خلود : هذا لا يجوز ابداً، سوف تتناول الغداء معنا اليوم.
خزعل : اجل يجب ان تتذوق طهي اختك فهي ماهرة جداً باعداد الطعام. فلقد تتلمذت على يد زوجة عمك حفظها الله.
ريان : ارجو ان تعذروني لكنني وعدت صديقي كي نتغدى سوية.
خزعل : إذاً تعال وزرنا وقتما تشاء يا نسيبي.
قبّل ريان اخته والطفلة سولاف ثم صافح خزعل وشكره وغادر البيت. كانت تلك الزيارة قد هزت كيانه لما حملت من اخبار لم يكن يتوقعها ولا حتى بالاحلام. فاخته تزوجت من رجل بسن عمه وعنده ولد اكبر منه هو. والآن لديها طفلة جميلة انها سولاف الحبيبة. اجل لقد اصبح خالاً لتلك الملاك الرائع ولكن، الى اين الآن؟ اين سيسكن واين سيقضي هذه الليلة يا ترى؟ هنا تذكر صديقه الدائم عمر. فقد كان في السابق مرحباً به ببيته لكن عمر لم يزره سوى مرتين او ثلاثة عندما كان سجيناً فربما اصبح يستنكف منه بعد ان صار من اصحاب السوابق. دعني اذهب اليه واستقصي الامر. ولكن قبل ذلك ساتناول شطيرة شاورمة لانني اشعر بجوع قاتل.
وبعد ان انتهى من تناول الشطيرة قال، ساركب الحافلة التي طالما ركبتها وانا ذاهب لبيت صديقي عمر.
ولما وصل بيت عمر وقف امامه وضغط على جرس الباب فخرجت له خادمة المنزل ليقول،
ريان : انا اسمي ريان ابحث عن عمر. الا ناديته يا اختي؟
الخادمة : لحظة واحدة لو سمحت.
تركته ودخلت الدار. وبعد قليل خرجت سيدة خمسينية تعرف عليها ريان جيداً كونها ام عمر قال،
ريان : مرحباً يا خالة، جئت لازوركم بعد خروجي من السجن. هل عمر بالدار؟
يا ترى هل سترحب ام عمر وابنها عمر بريان ويدخلاه بيتهم ام انهم سيستنكفون منه ويطردوه كما فعل عمه وزوجته؟ هل ستتبسم له الحياة من جديد ام انه سيجابه المزيد من المصاعب والازمات؟
ستعرف الجواب على تلك التسائلات والمزيد المزيد في الجزء الثاني والاخير من هذه الرواية.
1182 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع