قراءة في قصيدة ( صليب الحلم) للشاعر حسين حيدر

 علي عبدالأمير

قراءة في قصيدة ( صليب الحلم)للشاعر حسين حيدر

يتوق حسين حيدر كأحد الحالمين لنقش أثر خالد في ذاكرة الشعر الشعبي العراقي، إقتفاءً بأثر أصحاب التجربة الشعرية المؤثرة وعلى وجه الخصوص أصحاب القصيدة الحرة (قصيدة التفعيلة) أمثال (مظفر النواب، وعلي الشباني، وطارق ياسين وذياب كزار وغيرهم) .

حيث يخطو هذا الشاب السومري خطوات وئيدة ولكنها واثقة، في طريق الشعر، ويؤمن بأن التجربة الشعرية لا تقتضِ كثيراً من النصوص، وإنما تقتضي بعض النصوص الحقيقية التي تكون بعيدة عن التكلف والتصنع.
إنه ينتقي مفرداته، وينسجها بحذر، فقد كتب أولى قصائده التي كانت بعنوان (ذنب عابد) فحين خرجت هذه القصيدة للضوء، إمتدحها الكثير من الشعراء والمهتمين.
وفي ظل كل هذا الإستنساخ المشوه للشعر، يمسك حسين حيدر فرشاة خياله ليرسم أبهى اللوحات التي تعبر عن مكنونات خياله الجامح، حيث تحمل في طياتها بذرة التجدد والتمرد.
إنه يخالف السائد في الشعر الذي نقرأه أو نسمعه اليوم، وذلك من خلال تركيب جمله، وإنتقاء مفرداته بعناية فائقة، والأهم طريقة إختيار موضوعاته.
وهو كذلك يرى بأن الشعر ما هو إلا أداة تجسد مرآة تعكس ذات الشاعر، فهو حين يكتب الشعر ليس لذات الشعر فحسب، وإنما ليفهم ذاته، وليفك بها الرموز والألغاز التي تزخر بها أناه.
بعد هذه المقدمة عن الشاعر يمكننا الآن أن نقف على أعتاب إحدى قصائده، وهي قصيدة (صليب الحلم)، آخر القصائد التي كتبها لحد الآن. ونحن هنا ليس بصدد تفكيك القصيدة وتطبيق قواعد الشعر الصارمة عليها، بل للوقوف على جمالياتها والغوص في المعنى المؤول لأبياتها.
عند قراءتي لعنوان القصيدة، إحتجت فترة لكي أستوعب أبعاده بالكامل، فالعنوان وحده يحتاج لتفسير وتأويل، وهو بذلك يكون مفتاحاً للنص الذي يليه، وهو أيضاً ما يجعل القارئ مهيئاً لإستقبال للنص.
في الحقيقة وُلِـد هذا النص في محاولة للرثاء، وليس أي رثاء، إنه من نوع خاص، حيث يرثي حسين حيدر شخصاً لا زال على قيد الحياة، أو بمعنى آخر إنه يرثي نفسه، ويرثي أحلامه، وكل الوعود التي كان بإنتظارها.
''اجيت ارثيج..
شفتج فوك شباجي بحسن نجمة.. ونسيت ارثيج..
بدت تكتب دموعي عليج''
يرى الشاعر من خلال نافذة أمله، نجمةً بعيدة، ولكنها لامعة، إنها نجمته، نجمةً تبلغ من الجمال والسحر، بحيث تنسيه ما كان عازماً عليه، تنسيه رثائها ومعاتبتها. فيترك الأمر برمته لدموعه، لتعبر عما عجز عن البوح به.
''صفناتي..
وحزن جنح القصايد
وجفن والصوت
ماجاسنج وغنيت..؟
يدور الشاعر في دوامة تساؤلاته متحيراً، ما فائدة كل هذا الحزن والشعر والتفكير إن كانت لا تلامس بعضاً خواطركِ؟
وهو حين يقول (حزن جنح القصايد...) فهو يحرك ما لا يتحرك، ويلبس الشعر جناحان ويجعله يطير طيراناً حزيناً مكتئباً.
''أخافن لا يفز طيفج
يشح الماي..
سراب تبده بعيوني..
غيابج رمح بعيوني..
شعرج بعده بعيوني''
يكتب الشاعر هذه الأبيات في وجل، حتى لا يتسرب بعض من الوعي إلى خياله، فهو منتشي بذكرها ولا يريد لأي شيء في هذا الكون أن يوقضه من أحلامه، ويخاف أن يختفي طيف محبوبته، فيكون ضمئاً لرؤيتها.. ثم يستدرك بعدها أن كل ما كان يخاف منه واقع لا محالة، ويؤطر هذا الفزع بصورة سريالية مرعبة، ذات أبعاد واسعة، (غيابج رمح بعيوني)
كما تخلف هذه الأبيات مفارقة عجيبة في إحساس المتلقي، حينما تنتقل من الجملة السريالية المفزعة، إلى جملة رقيقة (شعرچ بعده بعيوني)
''بمحرابچ..
يصلي الوحي الياخذني الرفيف
العشك والنسيان..
بصليبج صوت ياخذني الاغاني الدنيه والبيبان
جفج للحدايق سالفه وكيعان''
يتناسى الشاعر في هذه الأبيات كل همومه، وهوس الغياب الذي تلبس حبيبته، ليغازلها بطريقته الجنوبية ( المملوحة) إنه يسلي نفسه ويهبها فسحة ولو ضئيلة من الأمل، يغازل كما هو دائما بمفردات شفافة وجمل مستحدثة فيقول مثلاً (جفچ للحدايق سالفة وگيعان) ثم يسترسل في الوصف ونرى انه أصبح شديد الوله بها، والمرء لا يتمكن من وصف شخص ما أو شيء ما بهذا الوصف الدقيق إلا اذا كان شاعراً أو عشاقاً أما حسين حيدر فهو كلاهما شاعر وعاشق.
'' اصابيعچ عشر وردات
تندل كل حزن بيه.. وعذابچ..
عذابچ ساجية لدمي"
يتمعن الشاعر في أدق للتفاصيل ويصفها وصفاً مذهلاً فهو يرى بأن أكف حبيبته لا تحمل اصابع بل (عشر وردات).
أن اكثر مايبهرني في نصوص حسين حيدر هو الإستدراك، ففي هذه المقطوعة يجعل التحكم في موسيقى النص بيد القارئ. أو حين يلقي القصيدة بصوته، فيعطي لصوت وقفة تسمح للمتلقي بإستيعاب البيت الشعري.
"من ياصوت گلبي اندلج وغناج
من ياطيف غنت روحي على البيبان
وعيونج ولاية آخ"
في هذه الأبيات يترك الشاعر الباب مفتوحاً للتساؤل حين يقول (من ياصوت گلبي اندلج وغناج) هل هذا إستفهام أم تعجب؟ إنه يترك الخيار للمتلقي ليفسره كيفما أراد، وفي الشطر الأخير يصل الشاعر لنشوة الوجع والحزن ويصف عَيني حبيبته بأنها منبعاً للقهر والوجع.
"برموشج لكيت طيور تبحر والغيوم شراع
بعيونج شفت شمسين تتجلى وضواها انباع
انتِ القزح والنرسيس وتراب المطر والگاع"
لا زال حسين حيدر يسافر في تلك التفاصيل التي تغيب عن الأنظار إلا عن نظر الشاعر فهو يرى بأجفان حبيبته لوحة فنية متألقة ومتكاملة، حيث يسافر الطير على متن الغيوم، وتلك صورة فنية رائعة يصفها هذا الجنوبي المليح، غير إنه يتحسر ثانية وهو يرى سنا عينيها معروضا في سوق الغياب.
وفي الشطر الأخير هناك إشارة مبهمة الى الإسطورة الإغريقية القديمة(نرسيس)(انتِ القزح والنرسيس) إنه توظيف مدهش ينم عن إطلاع الشاعر وحسن قراءته.
وفي اخر الابيات من القصيدة يقف الشاعر مذهولاً ومتحيراً
"اكول ارثيج
بس شرثيج
يلتم العطش غيمة على عيوني من اگول ارثيج
يلتم الرذاذ بحزن صفناتي من اريد ارثيج"
بالتأكيد لا يمكننا أن نصل إلى عمق المعنى الكامن في ابيات القصيدة ولكنها محاولة للتاؤيل، لأن التفسير متروك للمتلقي، (كل يفسره حسب تفكيره) وهذا من سمات الشعر الحديث، وبالرجوع إلى المقطوعة فإنها تجمع النقيضين (يلتم العطش غيمة) فالشاعر يرمز لدموعه بالغيمة التي تكونت من حرارة الشوق والعطش الذي يخلفه الغياب.
'' انتي تاريخ الحزن والذكرى واحلامي وضماي..
انتي تاريخ الدمع..
من يطفه كلبي...
ويشتعل بالدم غناي''
وهذه آخر مقطوعة في القصيدة، ويقول إن كان للحزن تاريخ إن كان للدمع تاريخ، فهو أنتِ، حينما ينطفئ نبض هذا القلب وتشتعل آخر قطرة من الدم غناءً وتخليداً لذكرى هذا الحب.
وفي الختام لا يسعني إلا أن أتمنى التوفيق والتألق للصديق الشاعر حسين حيدر..

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

730 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع