د. اسعد الامارة
النفس .. وما تُخفيه !!
تعرف النفس تمامًا ما تم اخفاءه، ولا تريد أن تعرف ، لا تريد المواجهة ، لأن المواجهة مؤلمة ، يهرب الإنسان من عالمه الخارجي ، لأنه هرب من نفسه، كلنا نحمل في دواخلنا أضدادنا ، لا نتقرب لهذا الضد الذي كَونَ هذا الذي يضايقنا ، ليس لدينا القدرة على مواجهته ، رغم أننا نعرفه تمامًا، كما هو في حالة الوسواسي ، يعرف أنه يقوم بفعل غير صحيح، ولكنه يصر على القيام به ، ما هذا الصراع المحتدم في النفس؟ تقول "هيلين دويتش" فالذي يجعل الصراع الفعلي المرتهن بالواقع ، صراعًا عصابيًا هو العجز الذاتي عن حله. وتضيف " دويتش" ان كل إنسان يَكون في حقيقة الأمر في حالة مستمرة من الصراع الكامن ، مع العلم الواقعي من جانب ، ومع قواه الذاتية الداخلية من جانب آخر، وتضيف "دويتش" ان الحل المنسجم لهذه الصراعات الداخلية والخارجية أمر يتعلق بشخصيته ولكل فرد أسلوبه الشخصي المميز في مواجهة الاحباط السوي .
انها النفس في رحلة البحث عن البناء وتكوين اسس الشخصية التي نستدل على مكوناتها من خلال ما يصدر عنها من سلوك، حيث قال علماء النفس أن السلوك هو تكوين فرضي، بمعنى أننا نستدل على ما هو متكون في دواخلنا من أبنية نفسية وفكرية ومعنوية، نلمسه في سلوكنا بعد أن تحول إلى واقع، أو قصيدة شعر ، هفوة وفي ذلك يقول استاذ الأجيال العلامة "مصطفى زيور" إن الإنسان فيما يبدو لنا منه لا ينطبق على نفسه ، فهو ليس هو، وهو ليس ما هو "مصطفى زيور – في النفس ، ص 403"
سنحاول في السطور القادمة كيف تم بناء - بنية هذا التكوين، أقصد به التكوين النفسي، أو التكوين الفكري، أو التكوين المعنوي، الذي ينتج لنا الأدلة من خلال السلوك الصريح ، أو الإيماءات ، حركة الجسد بالرفض والقبول من خلال العيون ، أو الهفوات وزلات اللسان والقلم ، أو كما يقول سيجموند فرويد عملاق النفس البشرية مؤسس التحليل النفسي : بأن الهفوة تنطوي على قصد، وهي أن القصد في بعضها يُستبدل به قصد آخر استبدالًا كليًا، كما هي الحال حين ينطق الفرد بعكس ما يريد.
ما أعجب لهذه النفس مما تحمله من تلاعب ليس في الألفاظ فحسب ، بل في ما يصدر عنها والأمر سيان بينهما . وقول فرويد " أن فلتات اللسان تنجم في كثير من الاحيان عن قصد مشين يلبس لبوس الاسم المحرف.
يرى فرويد من خلال عمق دراسته لما يدور في النفس بهذا الجزء قوله : فليست الهفوات وليدة المصادفة، بل أفعال نفسية جدية لها مغزاها، وتنجم عن تضافر قصدين مختلفين، أو على الأصح عن تعارضهما، فضلا عن ذلك بأن الكثير منا ينسى ، يتناسى ، أو لا يريد أن يتذكر، بل أن نفسه ترفض استدعاء ما طلب منه تنفيذه، نتسائل هل هذا شيء عفوي؟ هل هذا شيء مقصود؟ هل هذه رغبة لاشعورية في عدم فعل هذا الأمر؟ ويقدم لنا فرويد الدليل بقوله : إن نسيان تنفيذ القرارات والمشروعات يمكن أن يعزى بوجه عام إلى دافع مضاد يتعارض مع تنفيذ القرار، ونقول لا رغبة له في ذلك، أو رفض لما يصدر له من أمر ، وهذا له دلالة ومعنى !! فالرجل الذي ينسى يوم موعد زواجه، أو ينسى ما تطلبه زوجته من مشتريات كلفته بها قبل عودته للبيت ، لم يكن أمر عفوي ، أو عشوائي ، أو غير ذو معنى ، لابد أن يكون خلفه دافع ، والله أعلم ما هذا الدافع؟ ولكن المشتغلين في التحليل النفسي يعرفون تمام المعرفة هذه الظواهر في النفس وما يصدر عنها!! هو يعرفه تمامًا مثل الشخص الوسواسي الذي يعرف ما يقوم به ، وقبل أن يفعل، من فعل سخيف ، لكنه يصر على القيام بفعله هذا. وتقول "نيفين زيور" أننا نجد لدى الأسوياء صراعات عصابية ، تعبر عن نفسها بأشكال جدً متنوعة ، وتضيف " نيفين زيور " قولها إن هناك تكوينات عرضية تشبه العصاب النفسي " الاضطراب النفسي " للدفاع من وجهة النظر الوصفية البحتة ، دون أن تحمل الميكانيزمات " الآليات" نفسها ، فالحصر الهائم والهيبوكوندريا "توهم المرض" والوهن ذو الأسباب النفسية ، والاكتئاب العصابي يمكن أن يقترب في بعض سماته من العصاب النفسي للدفاع ، حيث الوعي نفسه بالحالة المرضية بجانب الاستمرارية نفسها فيما بين الاضطراب والشخصية قبل المرضية ، والمتصل نفسه بين السواء والمرض " وللاستزادة يمكن الرجوع إلى كتاب الدكتورة نيفين زيور – في التحليل النفسي "
إذا ضاقت النفس بما في داخلها ولم تستطع تحويله إلى سلوك مقبول إجتماعيًا ، أسريًا ، مهنيًا ، لأنه غير مقبول ، مستهجن ، مرفوض ، واستطاعت النفس أن تهرب من نفسها ، فتلجأ إلى التخفي والتحايل على الرقيب ، ويكون الحلم هو موطأ الأسرار بلا قيود ولا رقابه ، فيتقيأ الإنسان ما ضايقته تلك الأفكار ، وما يحمل من تأوهات كادت أن تخنقه في حالة الوعي – الشعور ، فهرب بها إلى اللاشعور – اللاوعي ، ظهر لنا الحلم كرغبة في قول لا يريد قوله بالعلن ، عبر عن نفسه في الطريق الذهبي – الملكي إلى اللاشعور ، فالحلم رغبة ، لكنها في الواقع مقموعه ، وفي اللاشعور كبت لما يرغب ، وقول " جاك لاكان" مجدد فكر التحليل النفسي الفرويدي : الحلم هو الحدث الذي بفضله تمر المتعه إلى اللاشعور – اللاوعي.
يرفدنا العلامة "مصطفى زيور" بفكرة رائعة قوله : يطلق سراح اللاشعور إذا ما تدثر بالجمال ، ونقول بالشعر ، والأدب ، والرواية ، والقصة ، والمسرح ، والخطاب المؤثر بالنثر والتأليف بأنواعه وغيرها .
لنا رحلة نفسية في البحث والبناء عما يدور في النفس وحناياها من ديالكتيك غير منتهِ ، متجدد لأن النفس متجددة – ديناميكية – لا تتوقف لحظة عن التفكير ، والتفكير هو الذي يسبب لنا دائمًا الاضطراب النفسي ، وأوله القلق – الحصر بأنواعه ، القلق الدافع ، القلق الهائم ، ومن ثم القلق المرضي ، أم في حالة القلق كموقف ينتهي بإنتهاء الموضوع الذي سبب التفكير الزائد ومن ثم القلق به .. لنا رحلة مع النفس لا تنتهي .
1176 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع