الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل
الإنشاد الديني وبعض من رموزه المعاصرين في الموصل.. الجزء الثاني
عرف العراقيون الإنشاد الديني منذ أقدم العصور في حضارات وادي الرافدين القديمة وكان يُعرف بالتراتيل. وتطور الإنشاد الديني في العصر الإسلامي وكان يدور حول فلك قصائد حسان بن ثابت.
ثم تطور أكثر في العهدين الأموي والعباسي واشتهر عدد من المنشدين مثل أبو عيسى صالح وإسحاق الموصلي وإبراهيم الموصلي، وزرياب الموصلي (789-857م)، وغيرهم كثيرون ممن اشتهروا بغناء وتلحين القصائد الدينية والأناشيد.
وفي زمن الدولة العثمانية، سطع نجم الحافظ الملا عثمان الموصلِيّ (1854-1923م) في أواخر الدولة العثمانية الذي اشتهر كمقرئ للقرآن وكمنشد ديني ونال حظوة كبيرة عند السلطان عبد الحميد الثاني.
لقد قام المُلا عثمان الموصلِيّ بتنظيم لون خاص من الإنشاد الديني وجعل له قواعد وأساسيات خاصة به، وشاع هذا اللون من الإنشاد الديني في الشام والعراق وبلدان أخرى، وأخذ يُردَد في المناقب النبوية ومجالس الذكر.
للموصليّ الكثير من الموشحات الدينية التي تُسمى (تنزيلات)، وقد تم تحوير ألحانها إلى أغاني أشهرت في العراق والعالم العربي وتركيا، كما أخذت بعض ألحان الموصلي صفة العالمية فشاعت في العديد من بلدان العالم الغربي والشرقي.
ومن الذين برزوا في مجال الإنشاد الديني في العراق وعاصروا المُلا عثمان الموصلِيّ: عبد الستار الطيار وعبد الرزاق القبانچي والد الأستاذ محمد القبانچي، ومحمد علي خيوكة والد قارئ المقام حسن خويكة وملك سامي وحسن داود وآخرون.
كما اشتهر المنشدين بشكل مميز في حلب السورية، حيث تشتهر حلب بالموشحات الدينية والقدود الحلبية، وهي تعتبر عاصمة الطرب الأصيل في الوطن العربي.
لقد ترك المُلا عثمان الموصلِيّ بصمات واضحة في حلب وتتلمذ على يديه هناك سيد درويش الذي نقل عنه ألحان خالدة مثل زروني بالسنة مرة وطلعت يا محلى نورها شمس الشموسة.
ومن أبرز تلاميذ الموصلِيّ من السوريين الشيخ أحمد أبو الخليل القباني (1833- 1903م)، الذي أخذ عن أستاذه فن النغم والألحان، لاسيما الموشحات، والذي من أشهر ألحانه: (صيد العصاري يا سمك بني)، (يا طيرة طيري يا حمامة... وديني لدمّر والهامة)، (يا مال الشام يا الله يا مالي طال المطال يا حلوة تعالي).
من إبداعات الموصلِيّ موشح (يا غزالا في الفلا ما أجملك)، وقد سجل هذا الموشح سيد أمين الموصلِيّ سنة 1922. ويُقرأ هذا الموشح كثيرا في الأذكار الصوفية والتهاليل في العراق والعالم العربي، كما كان يُقرأ في جامع أبو حنيفة النعمان في الأعظمية في بغداد حيث يمتزج كل أنواع العشق ويذوب في بوتقة العشق الأوحد بأروع أداء.
هناك جدل حول كاتب هذا الموشح، حيث تذكر بعض المصادر أنه من كلمات الشاعر السوري الشيخ أمين الجندي (1766-1841م) ومن ألحان المُلا عثمان الموصلِيّ. في حين تذكر مصادر أخرى أن هذا الموشح قد نقله السيد كامل النجم من مجموعة تنزيلات قام بجمعها المرحوم جميل بن سيد أحمد أحد شغالة المُلا عثمان في العام 1947 ضمن مجموعة مخطوطة.
لقد أكد الدكتور عادل البكري (1930- 2018) أن شِعر ولحن هذا الموشح من ضمن أعمال الموصلِيّ، كما ذكر موقع (المعرفة) هذا الموشح من ضمن أشهر أعمال المُلا عثمان في الموسيقى.
يقول الدكتور عادل البكري: "لقد كان عثمان الموصلِيّ أستاذاً في تلحين الأغاني وفي فن الموشحات وله الحان كثيرة متداولة. ومن أجمل هذه الأغاني ذات اللحن البديع والتي تذيعها فرقة القدود الحلبية في سوريا موشح (يا غزالاً كيف عني أبعدوك). هذا ولم يتأكد لنا أن هذا الموشح من نظم عثمان الموصلِيّ وتلحينه إلا بعد ملاحظة البيت الأخير من الموشح (ربنا لا تخز "عثمان" إذا ... نَزل القبر ووافاه المَلَكْ) والذي ذكر فيه اسمه، وهي عادته في نظم الأشعار والموشحات حيث يذكر اسمه في آخر مقطع منها". ومن أشهر من أنشد هذا الموشح الفنان الحلبي صباح فخري (1933-2021م)، والمنشد الحلبي محمد خير حلواني (1933-1987).
كما كان هناك اهتمامات واضحة بالإنشاد الديني في بلدان المغرب العربي في المغرب والجزائر وتونس، وله طعمة المميز المتأثر بالموشحات الأندلسية النفيسة.
التوأمان الموصل وحلب:
حلب الشهباء هي توأم الموصل الحدباء، تربطهما روابط تاريخية وطيدة منذ القِدم وفي مختلف المجالات. والتشابه بين الموصل وحلب يشمل مجالات مختلفة، وكانت التجارة مزدهرة بين هاتين المدينتين منذ القِدم، والعديد من تجار الموصل كان عنوانه (تاجر حلب)، حيث كانت القوافل التجارية تنقل البضائع المختلفة بين الموصل وحلب. وقد تم تسمية شارع في أيمن الموصل (شارع حلب)، وهو (شارع السعدون) بجوار الإعدادية الشرقية، حيث كانت هناك فنادق ينزل بها التجار القادمون من حلب.
وفي مجال الغناء والإنشاد الديني فقد كانت حلب من المحطات المهمة في حياة شيخ الموسيقى العربية المُلا عثمان الموصلِيّ والذي ترك بصماته الوضحة فيها، ومنها مصطلح (القدود الحلبية) والذي تم استعارته من أغنية المُلا عثمان الخالدة (قدّك المياس يا عمري).
المنشد محمد الحلبي:
هو (محمد عبد الحميد البدراني)، والمعروف في الموصل باسم (محمد الحلبي)، هو منشد ديني متمكن يمتلك صوتا رخيما جميلا وينشد على الطريقة الحلبية.
ومحمد الحلبي هو منشد عراقي من مواليد الموصل عام 1981، محلة (باب المسجد) في (حضيرة السادة) بشارع فاروق في الموصل القديمة.
والده الشيخ الحاج (عبد الحميد البدراني) كان معلمه الأول في الإنشاد. وكان جد الحاج عبد الحميد لأمه حلبي يعمل صباغا للأقمشة، وقد تنقل بين عدد من البلدان ومنها تركيا، ثم استقر في الموصل وفتح مصبغة في محلة (باب جديد) في الموصل. وتوفي في الموصل سنة 1941 ودفن في مقبرة جامع النبي شيت في الموصل. وقد بقيت بناته المتزوجات في الموصل، ثم رجعت بقيت عائلته إلى حلب عام 1951 واستقرت فيها.
تزوج الحاج عبد الحميد من إحدى قريباته الحلبيّات، وبقى لمدة عشرة سنين ولم يُرزق بولد، ثم رزقه الله بأربعة أبناء بعد أن عزّم له أحد الصالحين في الموصل، وكان الشيخ (محمد الحلبي) هو ابنه البكر، وهو من مواليد 1981. وقد درس (محمد الحلبي) في مدارس الموصل ثم درس العلوم الشرعية في كلية (الإمام الأعظم) في الموصل.
غادرت عائلة الحاج عبد الحميد البدراني الموصل إلى حلب سنة 1999 بسبب تردي الأوضاع المعاشية في العراق، وتزوج ابنه محمد من فتاة حلبية. وتتلمذ محمد الحلبي في حلب على يد المنشد الحلبي الشهير حسن حفّار (1943-2020) والذي يعتبر آخر شيوخ الطرب في بلاد الشام. وقد نال محمد الحلبي على حظوة أستاذه حسن حفّار والذي أفرد له موقع الصدارة بين باقي تلاميذه.
ثم جاءت الأزمة السورية والظروف الصعبة التي شهدتها حلب الشهباء منذ سنة 2011 وما تلاها من أحداث قاسية، فعادت عائلة الحاج عبد الحميد الحلبي أدراجها إلى العراق لتستقر في الموصل الحدباء منذ العام 2012.
والمنشد الشيخ (محمد الحلبي) من الشخصيات الدينية المعروفة في الموصل، وهو إمام وخطيب مسجد (العلي العظيم) في حي الكندي الأولى في أيسر الموصل.
ندعو الله تعالى أن يبارك بعائلة الحاج عبد الحميد البدراني، وأن يبارك بالمنشد الشيخ محمد الحلبي ويرزقه الذرية الطيبة، وكل رمضان وأنتم بخير وبحفظ الله تعالى.
https://www.youtube.com/watch?v=2ShQe5QMey8
1118 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع