د. محمد عياش الكبيسي
في كل الأزمات السياسية الحادة والمستعصية على الحل يتطلع الناس بشكل أو بآخر إلى الحل الخارجي، وهو بحد ذاته يثير قدرا من المجادلات الدينية والسياسية حول مفاهيم الولاء والبراء أو السيادة والاستقلال، فإذا أضيف إلى هذا أن الخارج لن يتدخل في شؤوننا إلا وفق مصالحه هو وليس مصالحنا نحن، وأنه كذلك غير مؤتمن على العقود والاتفاقات لاسيما أنه الطرف الأقوى فإن هذه المجادلات ستأخذ أبعادا أخرى أشد تنافرا وأشد خطورة.
في أزمة الكويت 1990 وقفت الأمة كلها على مفترق طرق، ولم تكن الفتاوى الدينية بأقل اصطفافا وتنافرا من المواقف السياسية، وكل هذه الفتاوى مسلّحة بنصوص الكتاب والسنّة وقواعد الضرر والضرورة، ولم يتردد بعضها من استخدام مصطلحات التكفير والتخوين حتى كادت الأمة أن تنقسم دينيا وثقافيا بعد أن انقسمت سياسيا وعسكريا.
ربما تكرر المشهد نفسه في الأزمة الليبية، حيث فقدت الثورة قدرتها على مواجهة كتائب القذافي وقواته الجوية الضاغطة، وبعد سلسلة من الجرائم البشعة التي ارتكبها القذافي انحسرت الثورة إلى المنطقة الأبعد (بنغازي) وكادت أن تكون نهاية الثورة بالفعل، بل كان من المتوقع أن يقوم القذافي بحملة عقاب جماعي لن تستثني أحدا، آنذاك تصاعدت المناشدات الرسمية والشعبية لمطالبة المجتمع الدولي بالتدخل، ولم تكن الفتاوى الدينية بمعزل عن هذا، إلا أن حدة الخلاف لم تكن كسابقتها، وهذا مؤشر على تغير أو تطور ملحوظ في القناعات الدينية والثقافية، ربما لأن التدخل هذه المرة كان جويا وليس بريا، وربما لأن الضرورة بالفعل قد وصلت إلى أقصى درجاتها.
في سوريا تجمعت كل الضرورات المسوغة لقبول التدخل الأجنبي، فقد أضاف الأسد إلى كل تلك الجرائم واستخدامه للسلاح الكيماوي انحيازا للمشروع الصفوي الطائفي الذي يشكل تهديدا مباشرا لهوية الأمة وعقيدتها، إلا أن هذا لا يعني أن تلك المجادلات ستتوقف، فهناك فصائل (المجاهدين) والتي تشعر أنها في حالة حرب كونية مع الغرب، وأنها قد تكون المستهدفة بهذا التدخل، كما أن هناك الفصائل الفلسطينية والتي لا ترى في الغرب إلا حليفا استراتيجيا للصهاينة، وهي إن كانت قد اتخذت موقفا أكثر حكمة واعتدالا في الوضع الليبي، فإنها في سوريا قد تختلف بعض الشيء مع تفهمها الأكيد لحالة الشعب السوري ومتطلبات إنقاذه من الموت والدمار، وعليه فإن مجادلاتها ستكون سياسية ومصلحية ولن تصل إلى مستوى المجادلات العقدية التي تديرها فصائل (الجهاد العالمي).
في العراق ستعيش المقاومة العراقية وحاضنتها الطبيعية حالة من الاضطراب والجدل الداخلي، فهي إن أجمعت على ضرورة التخلص من الأسد ونظامه المجرم، فإنها ستبقى متخوفة من إمكانية عودة الأميركان بشكل أو بآخر إلى جوارها، لاسيَّما أن المقاومة العراقية تختلف عن شقيقتها الفلسطينية في تقويم الموقف (الأميركي الإيراني)، حيث تنظر إليهما المقاومة العراقية على أنهما حلف واحد، وهذه ثقافة راسخة لدى العراقيين، وأما الخلاف بينهما حول الملف السوري فلا يراه العراقيون إلا خلافا شكليا أو جزئيا.
هناك من يتجاوز كل هذا الجدل ليدفعه الورع السلبي للاختباء خلف مقولة: (اللهم أشغل الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بينهم سالمين)، وهذا لا يمثل إلا حالة من الشلل الفكري والعملي والاستسلام لنتائج الصراع كيفما كانت.
رغم ملحوظاتنا الكثيرة على الفتوى الشهيرة التي أصدرتها هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية إبان الأزمة الكويتية إلا أن الفتوى قد نقلت هذه المسألة بالفعل من دائرة العقيدة إلى دائرة الفقه، ومن دائرة الثوابت الشرعية المقدسة إلى دائرة الاجتهاد والمصلحة، وقد استدلت الفتوى بدخول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بحماية المطعم بن عدي ليتجنب به سخط قريش بعد عودته من الطائف، والمطعم لا يختلف عن كفار قريش من حيث المعتقد ولا من حيث موقفه العام من الدعوة، فالمسألة لا تعدو كونها مسألة تقدير موقف وحسابات المصالح والنتائج، وليس لها صلة بعقيدة الولاء والبراء.
من هنا يمكن القول: إن هذه المجادلات تعبر عن حاجة ملحة تمليها طبيعة الواقع وليست الرغبة في موالاة الكافرين أو عدمها، وتحت هذا العنوان ينبغي أن تدور كل الحوارات والنقاشات.
إن الحاكم الظالم باستطاعته اليوم أن يقتل الملايين من شعبه في يوم واحد نتيجة للتطور الخطير في صناعة أسلحة الدمار والإبادة الشاملة، ولا يمكن مواجهة هذه الأسلحة بشجاعة القلوب وقوّة السواعد، وحينما تحصل المواجهة العامة لأي سبب كان فإن مصير هذه الشعوب سيتعرض للخطر المؤكد، ولا يبقى أمامهم إلا مواجهة المصير المجهول أيا كان، أو الاستعانة بالقوى الخارجية أيا كان شكلها ولونها ومعتقدها، ومن يتذكر مآسي المسلمين في البوسنة والهرسك وتعرض أكثر من خمسين ألفا من بناتهم للاغتصاب على يد الجيش الصربي يدرك معنى هذه الحاجة وأبعادها وتداعياتها.
إنه لمن التغرير بالنفس أن نلوذ بمقولات الإيمان والتوكل على الله المجردة، ونقول: لو كنا صادقين لنصرنا الله، ونستشهد بقوله تعالى: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ) وننسى أن محمدا وهو نبينا الذي علمنا هذه الآيات هو من استجار بالمطعم، وهو الذي حفر الخندق تجنبا للمواجهة، وهو الذي فكّر بأن يمنح شطرا من ثمار المدينة للقبائل المشركة التي جاءت تحاربه في غزوة الأحزاب، وهو الذي عقد صلح الحديبية مع قريش وهي تحتل الكعبة وتضطهد المسلمين، وهو الذي تحالف مع خزاعة المشركة ضد قريش المشركة! وننسى أيضا أن القرآن نفسه هو الذي قصّ علينا قصة أصحاب الأخدود الذين تمكنوا من إبادة المؤمنين حرقا مع شهادة القرآن لهم بالإيمان (وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ).
إنه لمن الخطورة بمكان أن تستخدم هذه المقولات الإيمانية لهدم القواعد الشرعية وأصول الاجتهاد والنظر في مصالح العباد ومآلات الأمور وعواقبها، وهذا النهج الانتقائي الأحادي لا شك أنه داخل دخولا ما في مفهوم قوله تعالى: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) كما أنه يعبّر عن عجز معرفي في البحث والاستنباط والمقارنة بين النصوص، ولذلك يقول علماؤنا: (ليس الفقيه الذي يعرف الحلال من الحرام، بل الفقيه الذي يدرك أرجح المصلحتين وأخف الضررين) وأخشى ما نخشاه أن تتعلق آمال الناس بنصر الله الأكيد وفق هذه المقولات المجردة، فإذا أبطأ النصر انقلبت هذه الآمال إلى انتكاسة إيمانية تظهر آثارها السيئة حتى في أداء الشعائر ومستوى الالتزام بأمهات الأخلاق التواصلية مع المجتمع.
إننا لا نشك أننا نعيش حالة من الضعف واختلال موازين القوى لصالح أعدائنا أكثر بكثير من يوم الأحزاب، ومن مصلحتنا أن نتجنب المواجهة بأقصى ما يمكن وأن نقيم العلاقات السلمية مع جميع دول العالم، بيد أنه إذا امتحنا في ديننا وكرامتنا وأعراضنا فإن الموت عندنا أهون من ذلك، ومن حقنا الشرعي أن نصنف الأمم والشعوب والدول الأخرى بحسب موقفها من قضايانا فندرأ الضرر الأشد بالأخف والأكبر بالأصغر وهكذا، وهذا يتطلب وعيا عميقا بأهداف الآخرين ومشاريعهم وسلم مصالحهم.
1174 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع