خالد الدوري
في نشوء النظرية السياسية في الاسلام/ ج٥: السلطانُ الخليفة:
السلطان: لفظ يدل على أكثر من معنى، فقد يأتي بمعنى السلطة أي القوة والقهر والتسلط، وقد يأتي بمعنى الحجة والبرهان. وقد وردت هذه المعاني في عشرات الآيات في القرآن الكريم. قال سبحانه وتعالى: (وَقَالَ ٱلشَّيْطَٰنُ لَمَّا قُضِىَ ٱلْأَمْرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَٰنٍ إِلَّآ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِى فَلَا تَلُومُونِى وَلُومُوٓا۟ أَنفُسَكُم)(6). فـ (سلطان) أي: قوة وقدرة أقهركم بها على متابعتي. ومثله قوله تعالى: (يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا۟ مِنْ أَقْطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ فَٱنفُذُوا۟ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَٰنٍ)(7). (إلّا بسلطان) أي: بقوة ولا قوة لكم على ذلك.
وبمعنى الحجة والدليل والبرهان كما في توعد سليمان (عليه السلام) للهدهد: (لَأُعَذِّبَنَّهُۥ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَا۟ذْبَحَنَّهُۥٓ أَوْ لَيَأْتِيَنِّى بِسُلْطَٰنٍ مُّبِينٍ)(8). أي: ببرهان بيّن ظاهر على عذره في الغياب. ومثله قوله سبحانه وتعالى:( قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَٰدِلُونَنِى فِىٓ أَسْمَآءٍ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم مَّا نَزَّلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَٰنٍ فَٱنتَظِرُوٓا۟ إِنِّى مَعَكُم مِّنَ ٱلْمُنتَظِرِينَ)(9). من سلطان أي: من حجة وبرهان.
من الناحية النظرية: كان من الطبيعي أن يطلق لفظ خليفة على اعلى هرم السلطة، مُمَثّلاً في شخص واحد، وهو من يسوس الأمة المسلمة. وكان الرأي السائد في القرون الأولى لجمهور علماء الأمة، ان منصب الخلافة يخصص لشخص واحد في كل المعمورة مهما إتسعت دار الإسلام. فلا يجوز أن يُعقد لخليفتين في نفس الزمن. لإعتبارات فهموها من نصوص أحاديث شريفة كقوله (صلى الله عليه وسلم): (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما)(1) وهو محمول على دفع الثاني لأنه خارج على الإمام الشرعي. وكذا حديث: (ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر)(2). واستدل العلماء بمثل هذه النصوص على منع إقامة إمامين أو خليفتين للأمّة في وقت واحد. لأن ذلك يؤدي إلى الشقاق، والفتن وتفرق جماعة المسلمين. وذكر النووي إتفاق العلماء على عدم جواز تعدد الخلفاء سواء إتسعت رقعة دولة الإسلام أم لم تتسع.
شَذَّ لعصرهم البعض ومنهم فرقة الكرامية (3) ألذين أجازوا وجود أكثر من خليفة في وقت واحد. محتجين بأن علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، كانا أمامين واجبي الطاعة كلاهما على من معهما من الأتباع. وأن الأنبياء قد تتعدد في الزمن الواحد، والأمامة اولى. وهذا الإحتجاج ضعيف: لأن معاوية إنما هو والي الشام من قبل الخلفاء السابقين، ولم يدَّعِ الولاية لنفسه على الأمّة. وأما الإحتجاج بتعدد الأنبياء فيبطله نص الحديث حيث يقول: فاقتلوا الآخر منهما.
الأصل وحدة الخلافة:
ان الرؤية الفقهية لوحدة الخلافة ومنع التعدد. هي الأصل. بيد انها مع التطور السياسي وإتساع رقعة الدولة اتخذت منحًا أكثر مرونة. وتعدد من قالوا بالجواز المشروط بالظرف والضرورة. كأن يكون هنالك ما يحول دون فردية الخلافة.
الواقع التاريخي يشهد أنه لما إتسعت دولة الإسلام وأصبحت مترامية الأطراف، وتباعدت ألأقطار المسلمة، وضعفت قبضة القيادة المركزية على أوصال الدولة وأطرافها. تعسّر ألإنقياد للخليفة الشرعي الواحد، وتعذر على الخليفة في ذات الوقت أن يسوس الأمّة ككل، لتعذر وصول اوامره ومساندته مثلاً في وقت مناسب، وظهر عجزه في أن يبسط نفوذه الفعلي على الجميع . فكانت تلك الظروف تتيح للفقهاء القول بجواز تعدد الخلفاء. ونجد فيما سطّره الامام الجويني تعليلاً لبعض أسباب الجواز في قوله: (منها اتساع الخطة، وانسحاب الإسلام على أقطار متباينة، وجزائر في الحج متقاذفة، وقد يقع قوم من الناس نبذة من الدنيا لا ينتهي إليهم نظر الإمام، وقد يتولج خط من ديار الكفر بين خطة الإسلام، وينقطع بسبب ذلك نظر الإمام عن الذين وراءه من المسلمين، فإذا اتفق ما ذكرناه فقد صار صائرون عند ذلك الى تجويز نصب إمام في القطر الذي لا يبلغه أثر نظر الإمام)(4).
وهذا يفيد بجواز نصب خليفة أو إمام في البلد الذي لا يبلغه أثر نظر الإمام. أو حين تتباعد الأصقاع والأقطار كالأندلس في الغرب وخراسان في الشرق..
واقع الأمة سابقًا يشير الى أنّ بعض ولاة الأقاليم قد إستقلوا في إدارة شؤون ولاياتهم بعيدًا عن سلطة الخليفة، وإن كانوا خاضعين له إسمًا. بما هو أشبه بالحكم الذاتي. وبرز الولاة كملوك وأمراء لها وزنها وشهرتها وتتمتع بسلطات وشعبية واسعة في تلك ألأرجاء، وكانت تلك ألأقطار الناهضة ربما تضاهي وتنافس في قوتها قوة الخلافة "العباسية" الشرعية في بغداد، وفي مصر لاحقًا، وكان الشائع اطلاق لقب أمير أو ملك والقابًا أُخرى على من يتولى القيادة في تلك الأرجاء. وعندهم طموح لتوسيع البلاد التي يحكموها وضم الشعوب والقبائل، تحت شعار رسالة الجهاد والتبليغ لدين الإسلام. فإكتسبوا النفوذ والصيت والسمعة.
على أي حال. لم تلجأ هذه الممالك والأقطار الناهضة الى مناداة حكامها بالخليفة، وغالب الظن كي لا يتعدد الخلفاء في أُلأمّة المسلمة الواحدة، وتحاشيًا للنكارة المتوقعة من علماء الأمّة وفقهاء الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية، ولكونهم غير مستوفي بعض شروط منصب الخلافة المتعارف عليها كالقرشية مثلاً، وعرفانًا من هذه ألأقطار الناشئة بشرعية الخليفة العباسي، وتبعيتهم له ولو صورياً. ولصيتهم وسلطتهم إختاروا لمن يتصدر القيادة منهم، مخاطبته تحت مسمى (السلطان) بدلاً من إسم الخليفة. كمسمىً سياسي مع ما فيه من دلالة دينية الى حد ما، بإعتبار ان اللفظة من مفردات القرآن الكريم. فتَسَمّوا بالسلاطين، ومارسوا السلطنة وورّثوا سلطتهم وسلطنتهم لذريتهم، كما يقتضي مفهوم السلطنة.
أول من لُقِّبَ بـ (السلطان)؟:
أطلق أولاً لقب (سلطان) بشكل فخري على بعض الوزراء واصحاب النفوذ في العصر العباسي في القرن الثاني زمن الخليفة هارون الرشيد. وربما حملت اللفظة الدلالة على السلطة الروحية التي يتمتع بها حاملها. وأوائل من حظي بهذا التكريم اعمدة الأسرة البرمكية الذين هم في الحقيقة وزراء لمساعدة الخليفة في إدارة شؤون البلاد كخالد وجعفر، بيد أنهم أصبحوا اصحاب نفوذ وسلطة واسعة في بلاط الرشيد، وآلت اليهم فعليًا مقاليد الإدارة بشكل شبه مطلق. وشكّلوا مراكز قوة تتحكم في الخليفة والجيش والعباد. ومن أجل إزاحتهم تولى الخليفة هارون الرشيد التخلص منهم لاحقًا.
سلاطين العهد الغزنوي والسلجوقي:
أن أول من أُطلق عليه لقب (سلطان) كلقب سياسي رسمي لمن يتولى السلطة العليا كحاكم للبلاد كان هو السلطان محمود بن سُبُكْتِكِيْن الغزنوي الذي حكم الدولة الغزنوية في الفترة من سنة 998م لغاية سنة 1030م في زمن الخلافة العباسية. وهي بلاد مسلمة سنيّة امتدت على رقعة واسعة في بلاد الهند وما وراء النهر وكانت عاصمتها غزنة الواقعة حاليًا في أفغانستان جنوب غرب العاصمة كابول.
نشأت الى جوارها دولة السلاجقة المنافسة لها، وكانت تتنامى قوتها بإضطراد وإتسعت الأرض التي تسيطر عليها، وكان من تولى الحكم فيها طُغرُل بك الذي حكم سنة (1037م- 1063م) ويُعتَبر المؤسس الحقيقي للدولة السلجوقية حيث أجهز على الدولة الغزنوية وهيمن على مناطق شاسعة في وسط آسيا وسهل إيران والأناضول، وأعلن نفسه سلطانا، كمظهر يتناسب مع الواقع السلجوقي الجديد الذي تؤسسه نهضتها في بسط نفوذها على الأرض. لقد كان من المناسب حمل لقب السلطان لحكام السلاجقة العظام، وفي نفس الوقت لا يتجاوز إتخاذهم لقب السلطان على مسمى الخلافة الرسمية المتعارف عليها للعباسيين. ومع أن قوة السلاجقة واقعًا تتفوق على قوة الخلافة، إلا أنهم لم يدّعو أنهم خلفاء المسلمين لأنهم كانوا يعتقدون ان الخلافة للعرب وفي قريش.
ولكن ولكون الخليفة العباسي هو الرئيس الأعلى لبلاد الإسلام. وفي بادرة حسن نية من الدولة السلجوقية بعد أن أصبحت هي القوة العظمى، في أنها لا تنافس الخلافة العباسية على السيادة. وإنما هي ظهير لها. أرسل السلطان طُغرُل بك رسالة إلى الخليفة العباسي (القائم بأمر الله في بغداد الخليفة السادس والعشرون من خلفاء بني العباس) يطلب منه الإعتراف بمملكته الجديدة وبالسلطنة، فأقره الخليفة حاكمًا شرعيًا على المناطق التي كانت تحت يده. وحثه الخليفة على القدوم الى بغداد وتخليصها من قبضة البويهيين، فشَكّلَ السلاجقة آنذاك ظهيرًا قويًا للخلافة، وإنضمت اليه جيوش الخلافة، وأخضعوا من ناوأهم العداء، وأسقطوا البويهيين في العراق وفارس. وأعادوا للخلافة العباسية هيبتها. بعد ان كادت تتلاشى بفعل الهيمنة البويهية على بغداد.
مضى لقب السلطان لقبًا لمن خَلف السلطان طُغرُلبك طوال العهد السلجوقي. وأجد من المناسب ان أُورد تلميح السيوطي في كتابه (حُسنَ المحاضرة) وإعجابه بالسلاجقة نقلاً عن إبن فضل الله العمري في (مسالك الابصار في ممالك الامصار) في معرض بيانه لمصطلح السلطان حيث يقول: (ان الاصطلاح ان لا تطلق هذه التسميه الا على من يكون في ولايته ملوك، فيكون ملك الملوك فيملك، مثل مصر، او مثل الشام، او مثل افريقية، او مثل الاندلس، ويكون عسكره عشرة الاف فارس او نحوها، فان زاد بلادًا او عددًا في الجيش، كان اعظم في السلطنه. وجاز ان يطلق عليه السلطان الأعظم، فإن خُطبَ له في مثل مصر والشام والجزيرة ومثل خراسان وعراق العجم وفارس ومثل افريقية والمغرب الاوسط والاندلس، كان سَمتُهُ سلطان السلاطين كالسلجوقيّة )(10).
أخذت الدولة الأيوبية من السلاجقة لقب السلطان، حيث يُعدُّ صلاح الدين الأيوبي مؤسس الدولة الأيوبية أول مَنْ اتخذ لقب السلطنة من حكام مصر. وليستمر حمل اللقب في مصر بعد الدولة الأيوبية لينتقل الى الدولة المملوكية، حيث لُقِّب حكامها المماليك بالسلاطين.(1250م- 1517م).
خلفاء وسلاطين العهد العثماني:
العثمانيون بإعتبارهم إمتداد للسلاجقة الأتراك، أخذوا اللقب عنهم، ووسموا حكامهم بالسلاطين العثمانيين، أما وقد قويت شوكتهم، وإمتدّ سلطانهم على معظم شعوب دولة الإسلام، وكانوا يحملون شعار الدعوة والجهاد، والإنقياد للأحكام الشرعية. الأمر الذي يمكن أن يبوئهم عن جدارة لزعامة المسلمين، وحمل أعباء الخلافة. لذا نهض لتحقيق هذا الأمر السلطان العثماني القوي سليم الأول المعروف بـ (ياووز) أي القاطع. تاسع سلاطين بني عثمان، الذي تولى الحكم سنة (1512م الى 1520م).. وأخذ على عاتقه ضم الديار الشامية والمصرية الى الدولة العثمانية بعد هزيمة المماليك بقيادة طومان باي في معركة الريدانيّة (وهي قرية صغيرة تابعة لمركز المنصورة في محافظة الدقهلية في مصر) سنة 1517م. عند ذلك دانت له الحجاز سِلمًا، واستلم مفاتيح الحرمين الشريفين حيث بلغت قوة الدولة العثمانية ذروتها.
رأى السلطان سليم ياووز أن الخلافة غير منحصرة في قريش ولا في آل بيت النبي (صلى الله عليه وسلم) وإنّما المسلمون في الأهلية لها سواسية ، لافرق بين عربي وغير عربي. فكان التوجه أن يحوز على هذا الأمر. وهو ماحصل من خلال تنازل آخر خلفاء بني العباس (محمد بن يعقوب المتوكل على الله) عن الخلافة العباسية الصُوَرية الى السلطان سليم. وكان الخليفة يقيم في القاهرة في ظل المماليك. فنقل السلطان سليم ياووز الخلافة من العباسيين في مصر لتستقر عند السلاطين العثمانيين في أسطنبول. ليعود لها دورها الحيوي ويُسبَغ عليها الهيبة والرهبة من جديد، في عالم لا يحترم الّأ الأقوياء. ودخلت مؤسسة الخلافة مقترنة بالسلطنة مرحلة وتجربة جديدة بالإنتقال من العرب الى ألترك. وبويع السلطان سليم الأول ياووز بالخلافة. وأعلِنَ كأول خليفة للمسلمين في دولة سلاطين بني عثمان. فكانت الخلافة والسلطنة في إسطنبول تجري بعد الخليفة السلطان سليم ياووز على هذا المنوال، فهم سلاطين وخلفاء في آن. حتى انتهت الخلافة العثمانية في نهاية الربع الأول من القرن العشرين.
المصادر والمراجع:
(1) صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري في كتاب الامارة رقم الحديث 1853 ج12 ص337 مؤسسة قرطبة للطباعة والنشر والتوزيع ط2/ 1414هـ - 1994م.
(2) (مصدر سابق) رواه مسلم في صحيحه في كتاب الإمارة وهو جزء من الحديث رقم 1844 ج12ص 322 .
(3) الكرَّاميَّة هي فرقة كلامية من فرق المرجئة، ظهرت في النصف الأول من القرن الثالث الهجري. وسُميت بذلك نسبة إلى مؤسسها وصاحبها الأول محمد بن كرام السجستاني.
(4) غياث الأمم في التياث الظلم: لإمام الحرمين أبو المعالي الجويني ص128 تحقيق د. مصطفى حلمي ود. فؤاد عبد المنعم الناشر: دار الدعوة للطبع والنشر والتوزيع.
(6) الآية 22 من سورة إبراهيم .
(7) الآية 33 من سورة الرحمن.
(8) الآية 21 من سورة النمل.
(9) الآية 71 من سورة الأعراف.
(10) حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة للحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي ج2 ص125 تحقيق محمد ابو الفضل إبراهيم ط1/ 1387هـ - 1968م.
البريد الالكتروني عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
1155 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع