أحمد العبداللّه
الغدر لدى الساسة العراقيّين..حردان التكريتي مثالًا
من خلال تتبّعي لجانب كبير من تاريخ العراق السياسي المعاصر وما كتبه مؤرخو وسياسيّو تلك الفترة في كتبهم ومذكّراتهم, لاحظتُ أشياء غريبة ومنكرة, منها؛استسهال الحنث باليمين ونكث العهود, والغدر.. التملّق للحاكم وأعوانه ثم التنكّر لهم بعد مغادرتهم السلطة أو خلعهم منها.. الروح الثأرية والانتقامية بين(رفاق السلاح والعقيدة),كما يُفترض.. النفَس التآمري والطموح الزائد, فلا يكاد يجتمع اثنان من السياسيين؛مدنيّين أو عسكريّين, حتى يكون محور حديثهم هو التخطيط لانقلاب جديد, وإزاحة الحاكم بشكل دموي في الغالب, وإذاعة(البيان رقم واحد). وكل ذلك بذريعة(خدمة)الشعب والأمّة وتحرير فلسطين و(مقتضيات المصلحة العامة)!!.
ومناسبة هذه المقدمة, والتي كنت قد أوردتها في مقال سابق لي, هو قراءتي كتابين عن سيرة الفريق حردان التكريتي, وكليهما تضمن في عنوانه مفردة(الغدر), وإنه كان ضحية لـ(غدر الرفاق). الكتاب الأول لهاتف الثلج وعنوانه(حردان التكريتي..قائد أغتيل غدرًا),صدر سنة 2016, والآخر هو(الفريق حردان التكريتي..ضحيّة الخيانة والغدر)لسيف الدين الدوري, صدر في 2017. ويبدو إن المؤلفيَن كانا في عجلة من أمرهما, و(تسابقا)؛أيّهما يصدر كتابه أولا, فكانت النتيجة دون المستوى المطلوب. إذ أصبحت مسألة تأليف الكتب على طريقة(سلق البيض), أمرًا شائعا اليوم!!.
وكتاب هاتف الثلج الذي ناهزت صفحاته الـ400, نصفها صور!!, يبدو أفضل محتوىً من كتاب الدوري, وتبدو لمسة مؤلِّفه حاضرة في ثناياه من خلال التعقيبات والهوامش. أما كتاب سيف الدين الدوري, والذي تجاوزت صفحاته الـ400, فلا نكاد نستدلّ منه على بصمة المؤلف, فهو عبارة عن(كوبي بست)من كتب ومقالات صحفية, دون تعزيزه بالملاحظات والشروحات الضرورية, ولكنه تميّز عن كتاب الثلج بأنه أورد رسائل حردان التكريتي الإحدى عشرة, الموجّهة للرئيس أحمد حسن البكر من منفاه(الجزائري), وهي تفيض بالمرارة والعتب, ووصيّة التكريتي الأخيرة لأولاده, والتي كتبها قبل شهرين من اغتياله, وكأنه كان يستشعر دنوّ أجله. ولكن تلك الرسائل, والتي أخذت حيّزًا كبيرًا من الكتاب, وهي وثائق مهمة ولم يسبق نشرها كما أعتقد, لم يبذل الدوري جهدًا لتحقيقها من خلال التصويب والتعليق والتوضيح, بل أوردها على علّاتها وبدون أيّ تدخّل منه!!.
***
الفريق الطيار الركن حردان عبد الغفار التكريتي(1925-1971), والذي كان شريكًا فاعلا في كل الانقلابات والحركات بين 1958 و 1968, وشغل مناصب رفيعة خلال تلك الفترة منها؛نائب رئيس الجمهورية, النائب الأول لرئيس الوزراء, نائب القائد العام للقوات المسلحة, وزير الدفاع, قائد القوة الجوية, هو؛عسكري مهني وضابط شجاع وجريء ومعتدٌّ بنفسه, وطيّار لا يُشقُّ له غبار, وإنسان مخلص وغيور على وطنه وشعبه وعقيدته. ولكن جرفته أعاصير السياسة فغرق في مستنقعها الآسن, وهو غير ضليع بدهاليزها وزواياها المظلمة, فقضى نحبه صريع رصاصات الغدر التي صوّبها عليه من كانوا بالأمس رفاقه الذين كان يحسن الظن بهم, وجعل روحه على كفّه لكي يوصلهم للقصر الجمهوري, فـ(استغنوا عن خدماته)بطريقة غير لائقة ولا كريمة وتخلو من المروءة. ولم يكتفوا بذلك, بل لاحقوه إلى المنفى واغتالوه غدرًا في الكويت في 30-3-1971, وهو في قمة نضوجه وعطائه, وحرموا البلاد من كفاءة نادرة.
وصفه الرئيس صدّام حسين خلال تقليده(وسام الثورة من الدرجة الأولى)في أواخر عام 1991, مع المشاركين في(ثورة 17 تموز 1968), بأنه؛( نشمي وشجاع وبطل, وإن لديه طموح كبير جدًا, ويرى نفسه إنه أفضل من كل الموجودين ). وأضاف؛كنّا نتمنّى أن(يزتّ عصاته), حتى إنني قلت له مرّة؛(يا أبو سعد.. ترى من نشوفك محزّم ومشجخ خناجرك, نظل جافلين منك, حتى لو لم تكن تقصد شيئا)!!. وهذا يكشف مقدار(الهلع)الذي تشعر به حكومة البعث من حردان, واهتزاز الثقة بينهما.
وفي مقارنة بينه وبين صالح مهدي عماش, يقول صدّام حسين عنه في ندوة حزبية أوائل الثمانينات, ونُشرت لاحقا في كراس؛(إن عماش كان حزبيا ولكنه جبان.. أما حردان فكان شجاعًا، إلا إنه بلا غطاء حزبي، ولو كان لديه غطاء من داخل الحزب, لربما كان أخذ الحكم)!!. وفي أجواء كهذه تبدو عملية تصفيته أمرًا مفروغًا منه, في نُظم شمولية لا يتّسع الكرسي فيه سوى لشخص واحد, ولكن يتكالب عليه العشرات, وكل واحد منهم يرى نفسه هو أجدر به من صاحبه. فـ(المُلك عقيم), كما يقولون.
ويقدّم الشيخ(علي الندا)*, والذي كان أحد مرافقي الرئيس أحمد حسن البكر لفترة قصيرة بعد عام 1968, شهادة مهمة عنه, وعن قرب, إذ يقول؛(كان حردان التكريتي رجلاً قوياً، ولم أرَ من الرجال بشجاعته وجرأته وقيافته وحسن هندامه, وهو ضابط طيار وبطل, وكان قريبًا جدًا من أحمد حسن البكر، ويثق به لما يتمتع به من قوة شخصية وحضور قوي وفطنة وقوة شكيمة، وصاحب قرار نافذ وقوي). ويضيف الشيخ الندا؛كان حردان(مدلّلًا)لدى أحمد حسن البكر, ولو سمع نصائحه لما وصلت الأمور إلى ما هي عليه الآن. حتى إنه قال له في إحدى المرات؛لو تسمح لي يا أبو هيثم أن أزيحهم بـ(المسحاة)..[ويبدو إنه يقصد بعض الانتهازيين والمغامرين والأشقياء في حزب البعث]. غير أن البكر لم يوافقه على ذلك, وقال له:(إحنا حزب وقيادة ودولة مؤسسات, ونريد أن نبني الدولة برؤية وتأنٍّ وعلى طريق صحيح, وهذا كلام لا يجوز).
إن الاطلاع على جانب من تاريخ العراق المعاصر, ومن ضمنه سيرة شخصيات لعبت أدورًا مؤثرة خلاله, والذي غيّبته أو شوّهته الأنظمة الحاكمة بعد عام 1958, وبعد عام 1968بشكل أخصّ, مفيد للأجيال الجديدة من العراقيين, لكي تدرك إن ما وقع في 2003 وما بعده, ليس مقطوعًا عن جذوره, بل هو في جانب أساسي منه, نتيجة تراكمات وأخطاء سبقته, ابتدأت مع انقلاب 14 تموز 1958 على حكم دستوري شرعي من قبل ضباط استهوتهم لعبة الانقلابات, حانثين بأيمانهم, وذلك من أعظم الكبائر, فكانت النتيجة أن تآمر بعضهم على بعض, واقتتلوا فيما بينهم على السلطة, وأوصلوا البلاد إلى هاوية لا قرار لها.
وإن الذي حصل في العراق منذ سنة 1958, من صراعات وتصفيات وعنف دموي, أضعفت البنية الاجتماعية والقيميّة للبلاد, وأدت لعملية(تجريف)لكفاءاتها وأعمدتها وشخصياتها القيادية. وكان ذلك سببا أساسيًّا في المآل الذي آلت إليه, والذي انتهى بالغزو والاحتلال والتفكّك. فقد خلت الساحة من أهل الخبرة والمخلصين, فمن لم يتم تصفيته, فقد فرَّ بجلده, أو انزوى, ولم يتبقَ في النهاية في الميدان, سوى الانتهازيين والمنافقين والجهلة.
وخلال هذه المدة الطويلة التي ناهزت النصف قرن, كان صدّام حسين هو الشخصية السياسية المحورية الأبرز والأطول حُكمًا, وقد حقّق الكثير من الإنجازات للعراق, وكان يمكنه أن يحقق أكثر باتجاه بناء وترصين المؤسسات الشرعية والدستورية. ولكن بالمقابل كانت فترة حكمه حافلة بالأخطاء والكبوات والكوارث, وطبع عهده بالعنف والقسوة المفرطة, والتي شملت خصومه ورفاقه على حدٍ سواء, وسُفكت خلاله كثير من الدماء. واستغرق في طموحاته القومية على حساب بناء وتطوير وتوعية الإنسان العراقي, ووقع تحت تأثير نشوة الشعارات وهتافات الجماهير الصاخبة, وصرف جهده في التصدّي للمؤامرات الخارجية, ولم يتحسّب لأهمية تحصين الجبهة الداخلية, فكانت النتيجة وبالا عليه وعلى العراق, وتجرّع من كأس الغدر نفسها التي سقاها لكثيرين, ولكنها هذه المرّة كانت كأسًا مزاجها؛سُمًّا أمريكيًّا- فارسيًّا!!.
...........................
* الشيخ علي الندا؛ مقابلة مع جريدة الرياض السعودية في 22-2-2007. وهو شيخ قبيلة البوناصر, وابن عمّ الرئيس أحمد حسن البكر وصهره, وقد تم اغتياله في تكريت بتاريخ 10 حزيران 2008 من قِبل(تنظيم القاعدة)الإرهابي.
2956 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع