في نشوء النظرية السياسية في الأسلام: ج٣، لقب الإمام

خالد الدوري

في نشوء النظرية السياسية في الأسلام: ج٣ ، لقب الإمام:

أورد الفيروزابادي في قاموسه المحيط بأن (أمَّهُ) قَصَدَهُ، كأتمّه وأمَّمَه وتأمّمه ويممه وتيممه، والتيمم الوضوء بالتراب، اصله التأمم. بكسر الميم الدليل الهادي، والجَمَل يَقدِم الجِمال. والإمام ماأتُمّ به من رئيس او غيره (1). والإمام كذلك خشبه البناء التي يُسَوّى عليها البناء. والامام الذي يقتدى به، وجمعه أئمّة.(2) كما اورد إبن منظور صاحب لسان الميزان هذه المعاني بقوله: (الأمَّ: بالفتح القصد، أمّهُ يؤمَّه إذا قصده، وأتمّه وتأمّمه ويمّه وتيمَّمه... وأمّ القوم وأمَّ بهم، تقدمهم وهي الإمامة)(3).

أئمة الهدى:
فكلمة الإمام تفيد المعاني المتقدمة كالقصد الى جهة معينة، او الدليل والهادي والارشاد والقيادة والرئاسة والقدوة، وقد وردت بهذه المعاني في عدّة مواضع من القران الكريم كما في قوله سبحانه وتعالى: ( وإذ إبتلى إبراهيم ربُّهُ بكلمات فاتَمّهنّ قال اني جاعلك للناس إماما)(4) وقال سبحانه وتعالى عَقِبَ ذكر بعض الأنبياء: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا، وأوحينا إليهم فعل الخيرات، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وكانوا لنا عابدين)(5). فالقرآن الكريم يصف الأنبياء بالأئمة كونهم قدوات ودعاة هدى. ووردت لفظة الإمام كذلك في الحديث الشريف كما في الحديث المروي عن حذيفة بن اليمان: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)(6). وحديث أنس بن مالك: (إنما جعل الإمام ليُؤتمّ به، فإذا كبّر فكبروا، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلّى قاعدًا فصلّوا قعودًا أجمعون)(7).
أئمة الضلال:
ولا يقتصر استعمال كلمة إمام على مفهوم الخير وإمامة الهدى فقط، وانما إستعملت كذلك للدلالة على الشر والضلال، كما في قوله تعالى: (وجعلناهم أئمة يدعون الى النار ويوم القيامة لا ينصرون)(8) وقد أورد هذا الإستعمال ابن منظور، حينما قال: (والإمام: كل من إئتم به قوم كانوا على الصراط المستقيم أو كانوا ضالين)(9). فلفظ الإمام قد يطلق ويراد منه أهل الضلال.
علاقة اللقب بإمامة الصلاة:
جرى واقع الحال عند الفقهاء والمتكلمين أن يطلق لقب الإمام على الرئيس الأعلى للدولة، لأنه يؤم الناس في الصلاة، وتشبيهًا له بإمام الصلاة في إتباع اقواله وافعاله والاقتداء به، وقد كثر اقتران كلمة إمام بموضوع الصلاة في أبحاث الفقهاء حتى شاع هذا المعنى بين الناس(10). والواقع من الناحية السياسية أن اللفظ من الالقاب المستجدة للحاكم المسلم، حيث لم يكن يعرف في زمن الخلافة الراشدة ولا في زمن الخلافة الأموية. وإنما ظهر على الارجح في العراق في زمن الدولة العباسية. (11) والأصل فيه ان الشيعة هم واضعيه ويقصد به نوع من التزكية ، يعبِّرون به عن التمجيد لمن يقوم بأمرهم. وأصبح اللقب شائعًا أن مقصودهم به هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه وأرضاه) لأنه كان يَؤم الناس ويصلي بهم، والواقع يقول أن إمامة الصلاة كانت كذلك شأن من سبقه ممن تولي امور المسلمين. وبهذا الإعتبار فإن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هو أول إمام في الإسلام. ولكنهم إعتبروا اللقب مقصورًا على علي بن أبي طالب نصًا وتعيينًا وفق مذهبهم. وأنه امامة خاصة ومنصب إلهي. ولهم في هذا ما يؤمنون به من مُستنَد. وهذا الطرح أضفى بُعدًا دينيًا على اللقب من خلال تخصيصه وإحاطته بصفات العصمة والغيب وأن الدنيا لا تخلو من إمام...إلخ. "ولا شك أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه وأرضاه) إمام ديني وسياسي، لا يختلف على ذلك إثنان. وحديثنا هنا لا يتعلق بالجانب الشخصي للإمام، كما إننا لا نناقش الأدلة لدى علماء الكلام والفقهاء والفرق التي خاضت في مفهوم الإمامة. وإنما نستعرض منشأ اللقب ومئآلاته ومُحدّداته سياسيًا وإجتماعيًا وعلميًا." وعلى أي حال، جنح بعض الشيعة الى أن لقب الإمام يطلق على ألأئمة الإثنى عشر فقط. غير انهم توسعوا فأسبغوا لقب ألإمام كذلك على مرشد الثورة الإسلامية روح الله الخميني، وهكذا خليفته الخامنئي. فأصبحوا يُخاطَبون بالإمام.
من جانبهم لم يجد أهل السنة غضاضة في لقب ألإمام ولا في استخدامه. ولكنهم رأوا انه لقب عام شامل يصلح لكل بر تقي صالح يتولى أمر الأمة، ويؤمها في الصلاة، وأنه لا نص صريح صحيح يخصص به شخصٍ بذاته. وأن معنى ألإمام واحد في اللغة والإصطلاح، ولذا يمكن ان يطلق على كل من تتوافر فيه معاني الإمامة، مِن رئيس وعالم وعابد ممن يمكن أن يقتدى بهم بفعل أو قول، أو حتى كتاب، كما جاء ذلك في القرآن الكريم: (يوم ندعو كل أناس بإمامهم)(12). أي بكتابهم.
ورأوا أن أئمة الهدى في العلم والعبادة يمكن أن يظهروا في أي زمان ومكان في العالم. وقد يكونوا من العرب أو من غيرهم. وبما أن اللفظ عام فقد إحتاج العلماء والفقهاء للتمييز بين امامة الصلاة وإمامة الدولة. وصنّفوا الإمامة الى امامة صغرى وإمامة كبرى، واصطلحوا على تسمية هذا الضرب "رئاسة الدولة" (بالإمامة المطلقة او الكبرى) لِعِظَم المسؤوليات والواجبات الكبيرة المنوطة بها، وتمييزًا لها عن الإمامة الصغرى، التي هي إمامة الصلاة.
الإمام هو رئيس الدولة:
أحبَّ السلف الأوائل استخدام العديد من أوصفات التبجيل والتوقير مثل: العلّامة، الفهّامة، الشيخ، الحبر، وحيد عصره، فريد دهره، العارف، فقيه زمانه، شيخ الإسلام، المحقق، والحافظ، الى غير ذلك. وتجنبوا إستخدام وصف الأمام، لأنهم قصروه على المتولي لأمر الأمة. وقد منع إبن حزم وأغلب الفقهاء والمتكلمون ألأوائل إستعمال مصطلح (الإمام) مطلقا على غير الرئيس الأعلى. فلا يطلق بصيغته المجرّدة على أئمة المساجد، او الفقهاء، او المحدثين، او غيرهم الّا بالإضافة. كأن يُقال إمام الحديث وإمام الفقه، وإمام التفسير... إذ يقول إبن حزم: (لا يقع على – الفقيه العالم وعلى متولي الصلاة بأهل مسجد اسم الإمامة- إلّا بالإضافة لا بإطلاق. فيقال فلان إمام في الدين، وإمام بني فلان. فلا يطلق لأحدهم إسم الإمامة بلا خلاف من أحد من الأئمة الاّ على المتولي لإمور أهل الإسلام... وكذلك اسم الخلافة إطلاق لا يجوز أيضا الّا لمن هذه صفته)(13)
غير أنَّ إطلاق لقب الإمام على ألأعلام تم الإعتياد على إستعماله بعد ذلك، (فاللقب مضافأً ألى) أصبح متعارفًا إطلاقه على العديد من ألأعلام أصحاب الصنعة والمهن، وأصحاب العلوم المختلفة ، وجرى ذلك في القديم والحديث، سواء من السُنّة أو الشيعة. فقيل: إمام الحج، وإمام الجمعة، والإمام الشافعي، والإمام مالك، والإمام أحمد، والإمام الصادق، والإمام البخاري، والإمام الذهبي، وهكذا مضى التماهي في العصر الحاضر فقيل على سبيل المثال: الإمام محمد عبده، والإمام محمد الغزالي...
لقب الإمام ألأعظم:
لم يقف الأمر عند حدود مصطلح الإمام (مجردًا) (ومضافًا الى)، وإنما تعددت صياغاته، فجرى الذهاب به الى مستوى إعلى. فأطلِق لقب الإمام مقرونًا بصيغة المبالغة، فقيل "الإمام الأعظم"، وقصدوا به الإمام أبي حنيفة النعمان (رحمه الله). (ت150هـ)، لغزارة علمه وبُعد نظره في الإستنباط الفقهي. وقد تعاظم إنتشار لقب الإمام الأعظم في العصر العثماني بشكل كبير جدّاً، لاعتماد العثمانيين رسميًا في تشريعاتهم على الفقه الإسلامي الحنفي، لمرونة مبانيه في إيجاد حلول للمعضلات السياسية والإدارية المستجدة، بالإضافة الى وجود نزعة روحية صوفية عند العثمانيين، مبناها تعظيم العلماء والقيادات الروحية البارزة.
لقب الإمام، والشهادات العلمية:
على أننا يجب أن ندرك أنّ لقب (ألإمام)، و(ألإمام ألأعظم)، ليست شهادات، أو درجات علمية وفخرية تمنح بطرق رسميّة من قِبَل المؤسّسات الدينية والعلمية والجامعية جراء تقديم إطروحات ونتاجات وتآليف يتم مناقشتها، كما هو الشأن في منح شهادات الماجستير والدكتوراه في وقتنا الحاضر. كما ولا يحصل عليها حاملها بفرمان سلطاني، بعد وصوله الى مرحلة معينة من البحث والدراسة. كما وانه لا وجود لقانون مكتوب ينظم منح هذه الألقاب. وإنما هو لقب ينبثق بعفوية كنتاج وتعبير عن إنبهار الناس، والأتباع وخاصة أصحاب القلم والكتابة، بالقدرات العلمية أو الروحية التي يمتلكها الشخص، ويتميز بها عن الآخرين، فيوسم بتلكم الألقاب. ومن ثم يمضي التعارف والإشتهار - العفوي أو المقصود - بهذه الألقاب على من وُسِمَ بها. وهذا أشبه ما يكون في عصرنا الحاضر بما يفعله الإعلام المرئي والمطبوع من اسباغ الألقاب "سلبًا أو إيجابًا" على المتميزين من أهل الفن والرياضيين والعلماء والسياسيين وغيرهم. فهذا النجم قيصر وذاك سلطان وهذه سندرلا، وتلك كوكب الشرق، فيتلقف المعجبون هذه الألقاب وتستهويهم، ويتم التداول بها.
لقب ألإمام ألأكبر:
وهكذا تنوع الخطاب بلقب الإمام ليصل الى مستويات أخرى متقدمة، وليصبح لقبًا يمنح بشكل قانوني ورسمي، حين اتخذت مصر خطوتها في تشريع قانون سنة 1961م، يُمنح بموجبة شيخ الأزهر الشريف لقب (الإمام الأكبر) ويتم تعيينه بقرار من رئيس الجمهورية، وأنه يُختار من بين أعضاء مَجمَع البحوث الإسلامية بالأزهر. ويعتبر الشيخ محمود شلتوت هو أول من حمل لقب الإمام الأكبر. ويحمل اللقب في الوقت الحاضر شيخ الأزهر الدكتور أحمد محمد الطيب.

المصادر والمراجع:
(1) القاموس المحيط 4 / 76 "باب الميم" طبعة مطبعة السعادة مصر.
(2) الصحاح للجوهري 5/ 1865 تحقيق احمد عبد الغفور عطار، ط2 ، 1042هـ - 1982م.
(3) لسان العرب لإبن منظور 14 / 287 دار بيروت للطباعة والنشر/ بيروت 1388هـ- 1968م.
(4) سورة البقرة، الآية 124.
(5) سورة الأنبياء، الآية 73.
(6) جزء من حديث في صحيح البخاري 8/63 المكتبة الاسلامية/ تركيا 1979م/ طبع مؤسسة اليف أُوفست/ تركيا. والحديث كذلك في صحيح مسلم 3 / 1476 تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، نشر وتوزيع رئاسة ادارة البحوث العلمية والافتاء والدعوة والارشاد بالسعودية 1400هـ - 1980 م.
(7) البخاري رقم الحديث 671 ج1 ص222 تقديم وتحقيق عبد القادر شيبة الحمد ط1 1429هـ- 2008م
(8) سورة القصص، الآية 41.
(9) لسان العرب (مصدر سابق) 14 / 287.
(10) النظم الاسلامية، نشأتها وتطورها للدكتور صبحي الصالح 291 دار العلم للملايين ط1، 1385 هـ- 1965 م.
(11) مآثرالأنافة للقلقشندي 1/ 21 تحقيق عبد الستار فراج، (سلسلة رقم 11 تصدرها وزارة الارشاد والانباء في الكويت 1964 الكويت.
(12) سورة الإسراء، الآية 71.
(13) الفصل في الملل والأهواء والنحل لإبن حزم الظاهري 4/ 90. دار المعرفة للطباعة والنشر/ ط2، 1395هـ- 1975م.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

762 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع