أحمد العبداللّه
صدّام حسين .. مبروك الرئاسة١٠٠٪!!
في 8 - 8 - 1995, انشقَّ(حسين كامل)عن النظام الذي كان فيه بموقع الرجل الثاني عمليًّا, وفرَّ إلى الأردن مع شقيقيه وابن عمّه, بسبب خلافات شخصية بينهم وبين عدي صدّام حسين. وكان لذلك النبأ وقع الصاعقة داخل العراق وخارجه, لأنه كان خارج دائرة التوقعات تماما. وعقد بعد وصوله بيومين مؤتمرًا صحفيًا بدفع من ملك الأردن, والذي أراد استثمار هذا الانشقاق لإعادة إحياء(الاتحاد الهاشمي). وخلال المؤتمر أعلن حسين كامل, معارضته للنظام والسعي لإسقاطه!!. وأذكر وقتها إن إذاعة(مونت كارلو)أجرت مقابلة مع الكاتب المعارض حسن عليوي(العلوي), فعلّق على ذلك بقوله؛(اثنان فقط لديهما القدرة على تخليص العراق من صدّام حسين, هما؛الله وحسين كامل. وبهرب حسين كامل, لم يبقَ إلّا الله)!!.
(حسين كامل حسن المجيد)؛ العريف الذي لم يكن يعرفه أحد تقريبًا لغاية العام 1979, وهو بالكاد قد اجتاز مرحلة الدراسة الابتدائية. ولكنه انهالت عليه الرتب والمناصب؛(هيل بلا كيل)!!, فصار مرافقًا للرئيس ومديرًا لجهاز الأمن الخاص, وخلال عشر سنوات فقط, صعد من رتبة ملازم(دمج)إلى رتبة فريق أول ركن ووزيرًا للدفاع, و(مشرفًا)على نصف وزارات الدولة العراقية!!. وكان بين سنتي 1991- 1995, هو الرجل الأول بعد الرئيس بلا منازع*. وشخص بعقليته وتكوينه ومؤهلاته, لا يتحمل مثل هذه(الطفرة الصاروخية), فتكون نهايته السقوط السريع حتمًا, وهذا هو الذي حصل في النهاية. إنه؛ الصعود الذي يسبق الهاوية!!.
أدرك الرئيس صدّام حسين بأن شرعيته قد أصيبت بضرر بالغ, والتي هي أساسًا قد انحدرت بعد سنة 1991, بعد وصولها لذروتها عام 1988. فحسين كامل هو صنيعته وأقرب الناس إلى قلبه, وهو قبل ذلك قريبه المقرّب وصهره المحبّب**. فكان لا بُدَّ من عمل شيئ لترميم ما يمكن ترميمه. فتم نفض الغبار عن نصّ دستوري مهمل منذ تشريع الدستور(المؤقت)!!عام 1970, والذي يقرر بأن مجلس قيادة الثورة هو الذي يختار رئيس الجمهورية بدون تحديد مدة زمنية لولايته. فبعثوا هذا النص من مرقده بعد ربع قرن!!, وأجروا عليه تعديلًا, حيث حُدِّدت العهدة الرئاسية بسبع سنوات قابلة للتجديد بدون عدد, ثم يصادق على ذلك البرلمان شكليًّا, وبعدها يُعرض على الاستفتاء الشعبي المباشر.
تولّى عزت الدوري هذه المهمة, فالرجل يملك باعًا طويلًا بهكذا فعاليات و (كفاءة) لا ينكرها أحد!!. وتم تحديد يوم 15-10-1995 لمبايعة الرئيس بلا منافس, وكانت النتيجة وكما هو متوقع الفوز بالرقم(السحري)الذي يعشقه كل الحكام العرب؛(99.96%)!!. أي إن بضعة آلاف فقط من العراقيين لم يصوّتوا للرئيس أو وضعوا ورقة بيضاء في الصندوق. وبعد إعلان النتائج في مساء اليوم نفسه, شنَّ عليهم عزت الدوري حملة شعواء ووصفهم بـ(الخونة)***, وغيرها من التهم الجاهزة!!.
بعد سبع سنوات بالضبط, تكرّرت(المسرحية), ولكن هذه المرّة كانت أكثر هزليّة. فالبلاد مقبلة على أحداث جسام ستغيّر تاريخ العراق والمنطقة, وينبغي عمل شيئ, ليس في سوح الوغى, ولكن في صناديق الاقتراع, ولا بد من تلافي(الخطأ)الذي حصل في المرة السابقة, فكان التصويت هذه المرّة بـ(الإجماع), وفاز الرئيس بنسبة 100%!!, وهي نسبة لم يسبقه بها أحد من العالمين. وفي وقتها كانت الإذاعة والتلفزيون تكرّر عرض إنشودة وطنية عُملت خصّيصًا لهذه المناسبة, يقول مطلعها؛(مبروك الرئاسة 100%)!!.
وبعد أقل من ستة أشهر على(استفتاء الـ 100%), وقعت البلاد في براثن احتلال غاشم ومزدوج؛أمريكي - فارسي, دمّر البلاد وقتل وشرّد العباد, وكان الرئيس وأركان حكمه في عداد المشرّدين, فالملايين التي انتخبته بـ(الإجماع), توارت عن الأنظار و(تبخّرت), أو صاروا من جماعة(المظلومية)!!, وقسم آخر منهم أصبحوا مخبرين. ولم يجد صدّام حسين من ملاذ له سوى غرفة طينية بسيطة في مزرعة طباخه السابق قيس النامق, حيث قبع فيها ولم يغادرها تقريبًا لمدة ثمانية أشهر, حتى تم أسره فيها, بدلالة أو وشاية من حارسه الشخصي (المُدلّل)!!. والغريب جدًا هو تمسّك صدّام حسين بالبقاء في المزرعة المذكورة كل تلك المدة الطويلة, وجيش الاحتلال الأمريكي يسرح ويمرح فيها أو حواليها, وطائراته المسيّرة ترصدها من السماء, آناء الليل وأطراف النهار!!. بينما لمّا كان حاكمًا, كان لا ينام في مكان واحد, يومين متتاليين!!.
صدّام حسين عندما كان فتىً يافعًا, قاده حسّه الأمني المبكر, لمغادرة الوكر الذي لجأ إليه مع رفاقه بعد عملية اغتيال عبد الكريم قاسم عام 1959, وأصرَّ على المغادرة وهو جريح, من دون باقي المجموعة التي كانت معه, والذين قُبض عليهم في الوكر المذكور, ونجا صدّام حسين وحده بما يملكه من قابلية فطرية أو مكتسبة في استشعار الخطر. فلماذا هنا يبدو وكأنه فقدَ تلك الخاصيّة؟!. هل هو الانكسار والإحباط واليأس التي انتابته بفعل الكوارث والمصائب التي صُبّت على رأسه في تلك الفترة الزمنية العصيبة, وهو يرى بلده قد احتُلّ, وكثيرون من الذين بايعوه وأقسموا له كذبًا ورياءًا بالأمس القريب قد انفضّوا من حوله. وهو الذي كان في العقد الأخير من حكمه بشكل خاص, قد قرّب إليه الكثير من أولئك الانتهازيّين من بائعي الكلام.
هل كانت إقامته الطويلة نسبيًّا في هذا المكان وعدم أخذه بالأسباب, نوعًا من الاستسلام السلبي للأقدار, بعد أن رأى ما رأى, والذي عرضت لبعضه آنفا؟. هل هو نوع من التفاؤل بالمكان الذي يذكّره بما حدث له عام 1959 وعبوره من المنطقة نفسها تقريبًا, ونجاته من خطر داهم كان يلاحقه حينذاك؟.
ولكن شتّان ما بين الأمس واليوم..اختلفت الظروف وتغيّرت أحوال الناس وأخلاقها. لقد كان صدّام حسين(نسيج وحده), وكان على مدى نصف قرن؛(مالئ الدنيا وشاغل الناس),وسيظل هكذا لزمن طويل قادم, سواء اتفقنا معه أو اختلفنا. وُلد يتيمًا, وقضى نحبه شهيدًا, وسيخلُد في ذاكرة الملايين من الناس, المشهد الأخير له وهو يقف مُبتسمًا على منصّة الإعدام بثبات وشمم, مردِدًا الشهادتين. ومن(بيت الطين)كانت البداية,وفي(بيت طين)لا يبعد عنه كثيرًا,ولا يفصل بينهما سوى نهر دجلة, كانت النهاية!!, ولكن الفاصلة الزمنية بينهما كانت سبعة عقود إلّا قليلا. وهكذا تماثلت النهاية مع البداية. وهذا هو حال الدنيا بتقلّباتها, والتي كان يقول عنها سيّدنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(رضي الله عنه)؛يا دنيا غُرّي غيري!!.
...............................................
* يبدو إن حسين كامل قد أصيب بلوثة في عقله في المدّة التي سبقت انشقاقه. فبعد هروبه طٌلب من كل من تحدث معه بحديث غير عادي أن يكتب تقريرًا بذلك. وكان أهم تلك التقارير هو الذي كتبه ضابط كبير في الحرس الجمهوري ويشغل موقعًا قياديًّا فيه, وفحواه؛ إن حسين كامل بدأ يُسمعه في الفترة الأخيرة كلامًا ربما أراد منه أن يجسّ نبضه, من قبيل؛(ألم يأن لعمّك أن يترجّل عن بغلته؟)!!. ويبدو إنه بدأ يفكر بالقفز على ظهر البغلة وإزاحة(عمِّه)عنها!!.
** من فرط إعجاب الرئيس صدّام حسين بـ(حسين كامل), إنه أطلق عليه تسمية(ابن شبعاد)!!. وبعد انشقاقه وهروبه, شبهّه بـ(يهوذا الإسخريوطي)!!.
*** أنا كنتُ أحد هؤلاء(الخونة)!!, فقد وضعتُ في الصندوق ورقة بيضاء, كرسالة احتجاج مكتومة. ولكن في الاستفتاء الثاني, صوّتُّ بـ(نعم). لأن البلاد كانت مهددة باحتلال وشيك, وليس قناعةً بهكذا ممارسات مصطنعة ولا تمتُّ للواقع بصلة.
2963 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع