د. علي محمد فخرو
الحاجة للابتعاد عن صراع الثنائيات المتضادة
لا يتعب المثقفون العرب من الرجوع المتكرر لثنائيات الأفكار ومسالك الفعل الضروري مع ما يرافقه من ذرف دموعهم بسبب عدم قدرتهم على حسم موضوع تلك الثنائيات.
وفي الأغلب يرجعون أسباب عدم الحسم إلى عجز الأمة الفكري والثقافي والسلوكي التاريخي وإلى بلادة الفرد العربي في التعامل مع الفكر والواقع مع كثير من التحامل الجارح.
ولقد مر أكثر من قرنين والمثقفون والإصلاحيون يدورون في هذه الحلقة المفرغة..ولا أعرف أمة أنهكت كل قواها العقلية والتحاورية في الصراعات حول الثنائيات مثل ما فُعل بأمتنا ومثلما فعلت بنفسها. منذ طفولتنا ونحن نسمع الصراخ والعويل حول ثنائية الإيمان والعقل، السلفية والحداثة، الدين والعلمانية، الفرد والجماعة، القطر العربي والوطن العربي، العروبة القومية والإسلام، الرجل والمرأة، الولد والابنة، العلوم والآداب... إلخ... من الثنائيات المتواجهة المتصارعة التي يراد، بإصرار طفولي عجيب، لأحدها أن يزحزح الآخر ويعلو عليه وفي النهاية يعلن انتصاره كمبدأ أو شعار أو فكر أو استراتيجية أو إيديولوجية تتبناها غالبية الناس.
ولا يعرف الإنسان سبب عدم قبول تعايش وتحاور وتنافس تلك الثنائيات دون أن يعلن الحكم بانتصار هذه أو تلك. بل يسأل الإنسان نفسه: هل حقاً أن واحداً من المجتمعات الأخرى قد حسم تلك الثنائيات، بالمعنى الذي نريده في بلاد العرب، أم أن جميع المجتمعات البشرية، دون استثناء، تعيش فيها كل أنواع الثنائيات جنباً إلى جنب، وأن الذي حسم هو وجود نظامي تحاور وتنافس متسامحين فيما بين كل ضدين وترك الأمر للزمن ولتبدل الأحوال لكي يقررا في النهاية حياة هذا أو موت ذاك.
دعنا نأخذ مثال ثنائية الدولة القُطرية ودولة الوحدة القومية. لقد طرح الموضوع منذ خروج العرب أولاً من تحت عباءة الحكم العثماني، ثم طرح بعد أن أمعن الاستعمار الغربي في تمزيق الوطن العربي إلى دول وطنية متباعدة بعضها عن بعض.
وكان طبيعياً أن يكون رد فعل البعض هو طرح شعار وحدة الأمة في دولة اندماجية واحدة، خصوصاً بعد أن زرع الكيان الصهيوني في فلسطين وبدأ يشكل خطراً وجودياً على كل العرب. لكن القوى السياسية الثلاث التي طرحت شعار الوحدة العربية، وهم حزب البعث العربي والحركة الجماهيرية الهائلة التي قادها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر ونظام الحكم في مصر وحركة القوميين العرب، لم يوفقوا في إيصال مشاريعهم إلى بر الأمان، لأسباب خارجية وداخلية كثيرة فصلت في مئات الكتب والمؤتمرات.
لكن ما إن تعثر ذلك المشروع العربي الكبير حتى أطل علينا البعض، بالعقلية الثنائية إياها، لا بالمناداة لإصلاح ما تعثر في الماضي وإنما باعلان انتصار الدولة القُطرية التي أصبحت قدراً لا راد له عند هؤلاء.
والواقع أن الموضوع برمته يطرح بشكل خاطئ، إذ ما المشكلة في التعامل مع وجود الدولة الوطنية القُطرية، والعمل على أن تقوم بواجباتها التنموية، والانتقال بها إلى مرحلة ديموقراطية متقدمة وحقيقية، وفي نفس الوقت، ودون تضاد أو صراع أو الدخول في معركة الثنائيات، العمل على أن تتوجه الدولة الوطنية نحو تحقيق وحدة عربية متدرجة تضامنية وتعاونية في البداية إلى أن تنضج شروط قيام وحدة أكثر اقتراباً من الاندماج والانصهار المتفق عليه بتراضٍ ديموقراطي شعبي في المستقبل؟
ما الذي تجنيه الحملة التي تعتبر أن الإيمان بوحدة الأمة العربية يوتوبيا خيالية وصلت إلى مرحلة الموت، وأنها إيديولوجية من مخلفات القرن الماضي العربي المتعثر، وبالتالي آن أوان إغلاق ملفها، وأننا لم نعد بحاجة إلى تجذيرها ونشرها فيما بين صفوف الشابات والشباب العرب؟
ثم عن أية دولة وطنية قُطرية عربية يتحدثون؟ أليست هي الدولة العربية الحديثة التي مر على وجودها قرابة القرن ومع ذلك فشلت فشلاً ذريعاً في بناء تنمية إنسانية مستدامة، وفي الانتقال إلى الديموقراطية والتخلص من الاستبداد، وفي تقديم مشروع تجديد ثقافي وحضاري، وفي استقلال وطني حقيقي بعد أن أصبحت مستباحة من قبل كل من هب ودب من دول الاستعمار، وفشلت في الدخول في عصر العلم والتكنولوجيا، وفي ألف ساحة وساحة أخرى؟ هل حقاً أن الحل العربي يكمن في العيش مع الدولة القطرية الفاشلة مهما كانت نواقصها؟
ثم ألا يرى هؤلاء أن قوة ومكانة بلدان مثل الولايات المتحدة الأميركية والصين وروسيا وألمانيا والهند، بل وقوة ومكانة تكتل مثل الاتحاد الأوروبي، أحد أسبابها الرئيسية هي اتحاد مكوناتها وأممها في وحدة سياسية لدولة واحدة؟ أو في تكتل تضامني تعاوني قائم على أسس متينة؟
ما نحتاج أن نعلمه لشباب الأمة هو أنهم في الوقت الذي يتعايشون حالياً مع الدولة القطرية ويسعون إلى تحسين أوضاعها الكلية، عليهم، وفي نفس الوقت، أن يطالبوا هذه الدولة الوطنية بالسير في طريق خطوات وحدوية تنتهي بقيام وحدة الأمة العربية في كيان وحدوي قوي يساعد هذه الأمة على أن تكون في مصاف الأمم القوية سياسياً واقتصادياً وعلمياً وتكنولوجياً ومعرفياً، أي إنسانياً بكل معنى الكلمة، وأن تخرج من جحيم مشاكلها الحالية.
موضوع الدولة القُطرية والدولة الوحدوية يجب أن يخرج من عبث الثنائيات المتصارعة ويدخل في حوار التناغم والفعل والتقوية لكلا المكونين حالياً، مع الأمل ألا يطلب أحد التضحية بأحلام هذه الأمة في وحدتها الوجودية الشاملة التامة في المستقبل.
984 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع