الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ متمرس/ جامعة الموصل
حمّام العليل وحديث الذكريات: الجزء الأول
حمّام العليل، أو (حمّام علي) كما يسميها أهل الموصل، هي ناحية تابعة إدارياً إلى قضاء الموصل مركز محافظة نينوى، وتبعد حوالي (27 كم) جنوب شرق الموصل، وتقع على الضفة اليمنى من نهر دجلة.
تشتهر حمّام العليل بمياهها الكبريتية الحارة مما أكسبها شهرة متميزة لاستخداماتها العلاجية، فضلاً عن موقعها السياحي، حتى إن اسمها اقترن بحمّاماها الشهيرة. هذه الحمّام يقصدها الناس في موسم الصيف ليستحموا بها، على أساس إنها تساعد في أن تبريء من الأمراض الجلدية كالجرب والحكة والبثور والأكزيما.
يعود تاريخ ينابيع المياه المعدنية في حمّام العليل لأكثر من 800 عام على الأقل، وهي تُعد من أكبر ينابيع المياه المعدنية في العراق وأكثرها غزارة.
لقد سُميت ناحية (حمّام العليل) تيمنا بمياه الينابيع التي هي وسيلة علاجية لكثير من الأمراض الجلدية. كما تُعد علاجا ناجعا لكثير من الأمراض المزمنة كالروماتزم وبعض الأمراض والطفوحات الجلدية كالجرب والأكزيما والحساسية، لاحتواء مياهها على الكبريت ومجموعة من المعادن التي تدخل في صلب صناعة الأدوية الكيميائية المعالجة لتلك الأمراض.
ذكر حمّام العليل الرحّالة الجغرافي ياقوت الحموي البغدادي (1178-1229م) بقوله: "انها تقع بين الموصل وقرية جهينة قرب عين القار غربي دجلة، وهي عين ماؤها حار كبريتية، يقول أهل الموصل ان بها منافع والله أعلم".
كما ذكرها الرحّالة الفرنسي تافرنييه والذي قدِم إلى العراق في القرن السابع عشر وقال عنها: "رسونا قرب حمّام حار المياه، على بعد رمية بندقية من دجلة، وكان مزدحماً بالمعلولين الذين أمُّوه للاستشفاء من كل حدب وصوب. إنها تتألف من عدة عيون معدنية أهمها ثلاث هي: العين الكبرى، وعين زهرة، وعين فصوصة، وهي ذات مياه كبريتية حارة وتنبع عند الشاطئ الأيمن".
كذلك ذكرها الرحّالة الإنكليزي جون أشر عام 1864م، عند خروجه من الموصل على ظهر (كلك) متوجهاً إلى بغداد فقال: "وصلنا إلى (حمّام علي) وفيه تنبع عيون كبريتية من تربته القريبة من النهر، وكانت رائحة البخار الخارجة منه نفاذة ولاذعة للغاية، والرياح تحمله إلى مكان وقوفنا. وتعد من أكبر ينابيع المياه المعدنية في العراق وأكثرها غزارة، وسميت الناحية تيمناً بمياه الينابيع التي يُزعم أنها تشفي المرضى".
لقد ذكر الدكتور محمد نزار أن الباحث والمؤرخ والفلكي الدكتور محمد صديق الجليلي (1903-1980) قدّم كتاباً بعنوان (الاصطياف في حمّام العليل) وقد طُبع الكتاب سنة ١٩٦٥، وذكر فيه أن الدكتور فائق شاكر السامرائي قد جمع كرّاساً عما قيل في وصف أحوال حمّام العليل ما بين مستهجن ومادح من الشعر العامي الموصلي، وأُهدِي إليه ثلاثة قصائد.
ويُعتبر الدكتور فائق شاكر السامرائي من ظرفاء بغداد وقد عاصر العهد الملكي في العراق وكان من المقربين من رجال الحكم آنذاك، وتسلم رئاسة صحة لواء بغداد ثم رئيس صحة الموصل 1939 ـ 1941.
القصيدة الأولى في كرّاس الدكتور فائق شاكر السامرائي هي للشاعر والأديب الموصلي الملا جرجيس بن درويش المتوفي 1727م، وهي خالية من العنوان وتنوف على الثلاثين بيتاً، ذم فيها أحوال حمّام العليل في ذلك العصر واستهجن الاصطياف، ومما جاء فيها:
قد عُدِمَ الرأيُّ وقلَّ الصوابُ ... وزاحمَ الحزمُ أمور الصعابِ
محضتُكَ النُّصحَ بما قلتَه ... وأنتَ أدرى بعد ذا بالصوابِ
وجاءت القصيدة الثانية في الكرّاس خالية من العنوان أيضا وهي للمفتي وكان ممن يحبون حمّام العليل فنظم قصيدة من أربعين بيتاً يعارض فيها قصيدة الملا جرجيس الموصلي في حمّام العليل ويرد عليه ويصف أحوال الاصطياف في عصره ويحبذها، ومما جاء فيها:
كم من عليل زال عنهُ العنا ... فيها وكم عوفي فيها مُصابُ
عتباً علي من ذمها سابقاً ... جرجيس في تشنيعها إذ أعابُ
أما القصيدة الثالثة في الكرّاس فهي لإسماعيل حقي آل فرج (1892-1948م) الذي كان من أنصار حمّام العليل والمدافعين عنها، وقد حملت القصيدة عنوان (ذكرى حمّام العليل)، وهي على خلاف القصيدتين السابقتين جاءت حاملة عنواناً رئيساً، وتزيد عن المائة بيت، وقد عارض فيها قصيدة الملا جرجيس الموصلي ورد عليه ووصفها وصفا مفصلاً من بيان موقعها وحدائقها الجميلة ومنتزهات الحمّام الليلية على ضفاف نهر دجلة، وحركة العمران في الحمّام؛ ومما قاله فيها:
بل إنني بالعكس شاهدتُها ... حمّام اُنسٍ بصفاءٍ مُشاربُ
لله حمّام إذا جِئتها ... من حُسنهِا تَلقَ البَديعَ العُجابُ
حدائقُ غلب بأنحائها ... باكرها الممطر داني الرَبابُ
شوارعُ الحمّام قد عُبدَتْ ... وشُجرت سهوله والروابُ
وكم بالاستحمّام من لذةٍ ... فيهِ فهل تنوي إليهِ الذهابُ؟
السفر إلى حمّام العليل:
يمكن السفر إلى حمّام العليل عبر طريق البر القديم المحاذي لنهر دجلة من خلال قرية (ألبو سيف) مرورا بطريق الحيّة، أو عن طريق الموصل/بغداد.
لقد ذكر الدكتور محمد صديق الجليلي أن السفر لحمّام العليل قبل دخول وسائل النقل الحديثة كان عن طريقين، أولهما السفر عن طريق النهر وكان يتم بوساطة الطرادات (مفردها طرادة) وهي قوارب متوسطة الحجم تتسع لخمسة أو عشرة أشخاص، أو بواسطة العبرات (مفردها عبرة) وهي أكلاك صغيرة ينصب على ظهرها مظلات صغيرة لجلوس المسافرين.
إن السفر عن طريق النهر كانت تكتنفه بعض الخطورة، وتشير المصادر التاريخية إلى أن عائلة (أحمد) الابن الأكبر للمُلا عثمان الموصلِيّ (1854-1923م) قد غرقت بالكلك في نهر دجلة قرب منطقة (حمّام العليل).
أما السفر براً في الماضي، فكان إما على ظهر الخيل أو على ظهور الحمير التي كانت تسير على شكل قوافل تسمى بالكروان، وأما المرضى فكانوا يُحملون إلى حمّام العليل بوساطة التختروان (بالفارسية تخت روان: أي السرير السيار) وهو على شكل هودج كبير الحجم يحمله بغلان يسير أحدهما وراء الآخر.
وبعد دخول أول سيارة إلى الموصل سنة 1919 بدأ أعداد السيارات يزداد، وتم استخدامها للنقل الداخلي ثم الخارجي.
محطة قطار الموصل:
يُعد العراق من أوائل دول الشرق الاوسط استخداما للقطارات لنقل المسافرين والبضائع. وعند إنشاء محطة قطار الموصل عام 1930م، كانت أول انطلاقة للقطار منها باتجاه بغداد، وكانت حمّام العليل أول المحطات التي يقف بها القطار، حيث سُجلت أول رحلة تم تسييرها بين بغداد والموصل سنة 1940.
لقد كان القطار الوسيلة الأكثر إقبالاً بين العراقيين حتى أواسط تسعينيات القرن الماضي، وذلك لأنه وسيلة آمنة للنقل فضلا عن رخص تكاليفه وانتظام توقيتاته.
ويذكر (محمد أحمد) مدير محطة قطار الموصل أنه "قد زار العديد من الرؤساء والملوك والمسؤولين الكبار والفنانين المعروفين محطة قطار الموصل على امتداد تاريخها، وفي هذه المحطة طوّرت الروائية البريطانية الشهيرة (أغاثا كريستي) مغامراتها البوليسية، كما غنّت كوكب الشرق أم كلثوم في قاعة الاستقبال الملكية الملحقة بهذه المحطة، كما نزلت الفنانة صباح في فندق المحطة في مهرجان الربيع". وباختفاء هذه المحطة يختفي جزء من تاريخ العراق، وتاريخ مدينة الموصل الاستراتيجية وبوابة العراق نحو سوريا وتركيا و أوربا.
لقد عانت سكك الحديد بالعراق من تقلبات الأوضاع والإهمال وذلك بسبب الظروف القاسية التي مرت بالبلد، وكان هناك قطاران فقط حتى صيف العام 2010 يغادران الموصل كل أسبوع باتجاه (غازي عنتاب) في تركيا. وتتطلع الأنظار الآن لإعادة الحياة لسكك الحديد داخليا بين المحافظات؛ وخارجيا مع دول الجوار.
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.
819 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع