ضرغام الدباغ
لماذا أنهار الغرب
هناك مصدران مهمان، يبحثان في سقوط الإمبراطوريات العظمى في التاريخ: الأول وهو الأهم هو كتاب العلامة العربي الكبير أبن خلدون والذي لا غنى مطلقا عن دراسته وهو " المقدمة " والكتاب الآخر وهو حديث نسبياً وهو للعالم البريطاني / الأمريكي باول كنيدي ( Paul Kennedy) “صعود وسقوط القوى العظمى”
لنتأمل ونتخيل، وفاة الاتحاد الأوربي، وأعتقد أنه قد توفي، ولكن إصدار شهادة الوفاة سيستغرق وقتاُ لا أستطيع تقديره ..! وسوف لن يكون هناك بيان يصدر فيه هتاف وصراخ .... كلا .. الناس هناك لا يحتفلون ولا يحزنون بالصراخ والضجيج ..! بل سيتم الأمر بهدوء، وبطريقة توحي لك أنهم استبدلوه بصيغ أخرى ... ولكنه في جميع الأحوال توفي ولا قيام بعده ولا ينفع نطس النطاسون مهما برعوا، في إعادته للحياة ..
الحلم الذي حلم به الرئيس الفرنسي ديغول والمستشار الألماني أديناور، والذي أستغرق بناؤه منذ بداية خمسينات القرن الماضي، ثم توالت عملية الطبخ على نار هادئة على يد خلفاؤهما بهدوء لكي لا يثيروا هواجس الآخرين .. الآخرون الذين يرمقون قيام أتحاد كبير، ستشكل كتلة كبيرة في توازنات القوى السياسية / الاقتصادية / العسكرية في العالم، فأن تتقاسم العالم بين طرفين شيئ، وبين ثلاثة أو أربعة أطراف شيئ آخر، وهو أمر غير مستحب للولايات المتحدة، التي ستتهم الأوربيين بقلة الضمير والوفاء، أما (الأطراف) القوة العظمى الأخرى فهي الاتحاد السوفيتي والروس فهم يتقنون العزف على أوتار السياسة الأوربية فسترى أن التناقضات والصراعات ستعم الحلفاء الرأسماليون اليوم أو غداً بينهم، فالتاريخ العالمي لا يعرف حروبا إلا تلك التي كان التوسع وإعادة التقسيم وكسب المزيد من النفوذ والمكاسب ديدنها، دعهم يشعرون بالأمان، فسترى أن الصراع سينشب بعد وقت قصير، وقصير جداً.
لماذا توفي الاتحاد الأوربي، وكان يمنح صورة وردية، حين بلغ اليورو في بعض أيامه، دولاراً ونصف الدولار، ولكن تلك كانت في مرحلة انغماس (انحطاط) الولايات المتحدة في حروبها الدون كيشوتية في أفغانستان ثم في العراق، حيث كانت تحرق يوميا مئات الملايين من الدولارات لحروب عبثية لا معنى لها .. حينها انحط الدولار أسوء انحطاطه، وبلغت أوربا قمة ازدهارها، فكان رد فعل الولايات المتحدة، أن القارة الأوربية قد تمثل ثقلاً في التحالف الغربي / المسيحي العريض، وبالتالي فإن نفوذ الولايات المتحدة ماض في التقلص ضمن محيطها، إضافة للتقلص البطئ على الصعيد العالمي بتعاظم قوة الصين، ومساعي الروس في استعادة هيبة وسطوة الاتحاد السوفيتي، عبر هيمنتها على أسواق الطاقة في أوربا.
بغباء مثير للدهشة، راحت الولايات المتحدة تدمر علاقاتها مع دول وكتل كان يفترض أن تحرص عليها اشد الحرص، فخسرت كتلة كبيرة في العالم تربو اليوم على مليار ونصف من البشر المسلمين منتشرين في جميع قارات العالم، وخسرت بسبب جموحها الشديد نحو الهيمنة في أوربا حلفاء وأصدقاء، وتسببت الاعتداءات والحروب التي شنتها على أمم وشعوب كثيرة، وميلها الشديد نحو النهب والسطو، فالأطماع و السعي نحو السيطرة، ما أفقد العالم الغربي وحدته، ولم ينجم عن استخدامها القوة المفرطة إلا أسوء العواقب بنتيجة إجمالية ملحقة الضرر بالمصالح الأمريكية الاستراتيجية.
والغريب أن لا تستفيد الولايات المتحدة من تجاربها ونكساتها، الولايات المتحدة لا تقبل بعلاقات صداقة، تحالف، بشروط متكافئة، وحين حاولت بريطانيا وفرنسا أن تتصرفا كقوتين عظميين عام 1956، وشنتا بالتحالف مع العدو الصهيوني العدوان على مصر، بدون استلام الأذن والموافقة من الولايات المتحدة، تلقيا عقابا صارماً قاسياً قذف بهما إلى الوراء كدرجة ثانية من القوى العظمى.
الولايات المتحدة كانت هي الساعي من إضعاف الاتحاد الأوربي بدرجة لا تقوى على امتلاك إرادتها، بل وقامت الولايات المتحدة بقيادة تكتلان ضمن الاتحاد الأوربي ضد محاولات ألمانيا وفرنسا في جعل وتطوير الاتحاد الأوربي إلى كيان سياسي / اقتصادي / عسكري قادر على المواجهات. وأسست الولايات المتحدة لها أكثر من رأس جسر في أوربا لهذا الغرض : بريطانيا، النرويج، بولونيا، وربما فلندة أيضاً، بدرجة دعت مؤسسات وشخصيات فرنسية وألمانية، التصريح أن معركة أوكرانيا هدفها هو إركاع ألمانيا وفرنسا ..!
ما هي ملامح الموقف الحالي (النصف الأول من عام 2022) في الاتحاد الأوربي ...؟
1. انسحاب بريطاني رسمي.
2. الاتحاد يوجه عقوبات لخروج المجر (هنغاريا) وإيطاليا من موقف الاتحاد حيال الأحداث الأوكرانية.
3. مظاهرات في العديد من البلدان تطالب بالانسحاب من أوربا (ألمانيا، فرنسا، جيكيا.
4. تلميحات تصل لدرجة التصريح، في شخصيات ومصادر في فرنسا وألمانيا، أن الحرب في أوكرانيا الهدف الأساسي منها تدمير فرنسا وألمانيا ...!
5. إحياء سياسات العسكرة والتسليح،
ولنتأمل كيف وماذا وبأي احتمالات وأي سيناريو، ومفردات سيتم هذا الأمر ..
1. تفسخ الاتحاد الأوربي بشكل تام، بعد أن ستقاتل الولايات المتحدة في أوكرانيا على حساب الأوكرانيين، وستحسب ما تمكنت من ذلك، دولاً أوربية، المتروبولات الرأسمالية الصغيرة تقاتل رغماً عنها من أجل المتروبول الأكبر.
2. تبقى ألمانيا وفرنسا (مؤقتاً) والنمسا، وهولندة وجيكيا وسلوفينيا ضمن الاتحاد الأوربي (كتلة البلدان الألمانية).
3. أن تنجح قوى اليمين في عدة دول أوربية بالوصول للحكم، فتنشأ تحالفات جديدة مناهضة للفاشية والنازية والعنصرية.
4. ستكون أميركا غائبة عن المسرح الأوربي، مع وجود بصمات غير فاعلة لها في: بريطانيا، النرويج، بولونيا.
5. بعد غياب الوجود الفاعل للولايات المتحدة في أوربا، سيشجع قيام أنظمة تميل للتعاون مع روسيا، وخاصة في شرق أوربا.
6. تشكيل تحالفات سياسية بين قوى:
• الأحزاب الشيوعية السابقة، الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية وخاصة (ألمانيا، فرنسا، النمسا، إيطاليا، أسبانيا).
• التكتل الروسي / الأرثودوكسي (روسيا، بيلوروسيا، صربيا، وربما: اليونان، بلغاريا، رومانيا، سلوفاكيا أوكرانيا، عدد من الجمهوريات الصغيرة بعد أن تتضح الصورة الأخيرة).
• تكتل البلدان اليمينية (في حاول نجاحها بالوصول للحكم).
7. ستشهد الولايات المتحدة، في الداخل (هي الآن في مرحلتها الجنينية) تحركات وانشقاقات وصراعات أثنية وطائفية، ستتبلور بين أقطاب رأسمالية بكيانات مختلفة، ولكن بجوهر اقتصادي.
8. باختصار شديد .. الأزمة الأوكرانية أطلقت عمليات سياسية واقتصادية، وصراعات خفية وعلنية، والموقف سوف لن يعود إلى ما كان عليه قبل شباط / 2022، ولكن العملية تفضي إلى تضاؤل قيمة أوربا سياسيا واقتصاديا وعسكرياً.
هذه مرتسمات عامة، تحتمل التأخير أو التقدم، وشدة الظروف ستعمل على منح النتائج أبعاد جديدة .... ولكن التحولات انطلقت ولا تحتمل العودة.
3224 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع