من يجر المنطقة كلها الى فوضى الدم؟؟؟

                                          

                      د.محمد عياش الكبيسي

 مجزرة رابعة العدوية لا تختلف كثيرا عن المجازر التي تشهدها المنطقة خاصة في العراق وسوريا وإن بدت نشازاً في السياق المصري الذي ظل محافظا على استقراره وهدوئه النسبي.

المجزرة في البعد المصري تعني الكثير، وينبغي للمصريين أن يقفوا عندها طويلاً، فهي من ناحية تمثل انتهاكاً صارخاً لحرمة الدم المصري وكرامته، وحقيقة أن هذا الاستهتار بالدماء لم تعرفه مصر ولا تاريخها العريق والموغل في سفر الوجود الإنساني على هذه الأرض، بحيث إننا نشعر بالحاجة إلى إجابات عميقة عن الأجواء الثقافية والتربوية التي من الممكن أن تنتج كل هذا الشذوذ الذي وصل إلى حد إحراق الجثث والإجهاز على الجرحى ومحاصرة المستشفى والمماطلة في إصدار تصاريح الوفيات!
الجريمة تجاوزت حرمة الدماء إلى محاولة إفساد صلة الرحم المعهودة بين الجيش والشعب، فلقد كان الجندي المصري يمشي مرفوع الرأس بين أهله وهو يشعر بحنوهم واحتضانهم له، وأنه مصدر فخر لهم وهذا هو الوضع الذي يستحقه بالفعل، لكنه اليوم لا أدري بأي وجه سيواجه الثكالى من أمهاته وأخواته؟ كيف يكون حامي الدار هو من ينتهك حرمة الدار؟ كيف يكون الأمر العسكري مبرِّرا له أن يضع رصاصه في صدر أخيه وأخته؟
اللافت للنظر هنا أن هذا الجيش قد بدا مهنيا ومحايدا أيام الثورة على مبارك، ولكنه انقلب كل هذا الانقلاب اليوم، ولا أظن أن سطوة السيسي كانت أشد من سطوة حسني مبارك لكن هذا قد يكون مؤشراً على ارتباط القادة الكبار بمواقف أو التزامات مسبقة اقتضت هاذين الموقفين المتباينين.
هناك بعد آخر للجريمة وهو محاولة تأجيج الصراع الطائفي بين المسلمين والأقباط والذي وصل إلى حد إحراق المساجد والكنائس، وهو لا شك غريب عن طبيعة الشعب المصري وتاريخه المشرّف في صناعة النموذج الأمثل للتعايش السلمي. الإطار الأوسع لمشهد الجريمة في سياقها المحلي هو المسار السياسي، فإن الديمقراطية الوليدة في مصر قد أصيبت بمقتل وهي في عمر أحوج ما تكون فيه إلى الرعاية والحماية، فالعملية ليست انقلاباً على الشرعية أو على الإخوان، بل هي انقلاب على أسس الديمقراطية وثقافتها، ومن ثم صناعة الثقافة المضادة للديمقراطية، وهذا ما بتنا نسمعه ونقرأه خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي من كفر بالحل الديمقراطي وتسفيه لدعاته، وميل واضح للحل (الجهادي) وربما هناك حالة من الحنين الخفي إلى عصر الديكتاتوريات والقيادات المركزية الصارمة! وهذه الانتكاسة لن تكون لصالح (الحل الإسلامي) كما يتوهم البعض، بل ستكون لصالح الأجهزة القمعية ودولتها العميقة.
أما في بعدها الإقليمي فإن هذه الجريمة أكّدت أن المنطقة كلها مقبلة بالفعل على مرحلة جديدة من تاريخها قد تكون أخطر بكثير من مرحلة الاستعمار المباشر ومعاهدة سايكس بيكو التي تمكنت من تفتيت الأمة والفصل بين مواردها الطبيعية وبين مواردها البشرية.
إن الدول العربية المحورية في المنطقة (العراق وسوريا ومصر) كلها قد دخلت في دائرة الفوضى الخلاقة أو (فوضى الدم) هذه الدول هي التي تميزت بجيوشها القوية ومواردها البشرية الضخمة إضافة إلى رصيدها الحضاري المتميز، لكنها اليوم تتساقط بنسق متوال وكأنها تسير على سكة مرسومة!
ربما لا نتفق على التفسير التآمري للأحداث المتعاقبة، لكن لو رجعنا إلى الوراء فإن باب الفتنة قد كسر بالفعل باحتلال العراق ثم بالقرار الأميركي المشؤوم بحل الجيش العراقي وما أعقبه من تشكيل المليشيات البديلة والتشجيع على فوضى السلاح، حتى وصل العراق بالفعل إلى بوابة الهاوية والاحتمالات المفتوحة والتي لا تستثني ضياع العراق كدولة أو إلحاقه بإيران أو تقسيمه إدارياً بعد ما قسم ثقافياً واجتماعياً، وهذا كله جاء بتطبيق حرفي للسياسة الأميركية المتحالفة مع السياسة الإيرانية بشكل واضح.
في سوريا لا يمكن أن نتهم الأميركيين بكل ما يجري، حيث يبدو الأمر وكأنه شأن محلي بامتياز، فهناك ثورة شعبية عفوية يواجهها نظام ديكتاتوري بكل أجهزته القمعية، لكن من حقنا أن نتساءل وفق قانون (المصلحة) وليس (نظرية المؤامرة)؛ هذه إيران عرفت أن لها مصلحة في بقاء النظام السوري فراحت تحشد له كل قواها الذاتية وأذرعها الخارجية، وهناك روسيا التي مارست الدور نفسه، وهناك في الطرف المقابل تركيا وبعض الدول العربية والتي تحاول دعم الثورة أو التخفيف من وطأة الصراع عن كاهل المدنيين والأبرياء السوريين، لكن الأميركيين يتصرفون وكأن الأمر لا يعنيهم! وكأنهم الوحيدون الذين ليس لهم مصلحة في كل ما يجري رغم تباين النتائج المتوقعة لهذا الصراع المرير! وهذا الموقف الخجول والضبابي لا شك أنه بحاجة إلى تفسير.
في مصر لا يكاد الموقف الأميركي يختلف عنه في سوريا سوى بعض الاتصالات وربما الضغوط الناعمة على هذا الطرف أو ذاك والتي تسربت بطريقة ما إلى وسائل الإعلام، فهل نصدّق أيضا أن مصر كلها لا تعني البيت الأبيض سواء كانت بثوبها الإسلامي (الديمقراطي) أو ببزتها العسكرية الديكتاتورية!
في تعقيبه المباشر على المجزرة أعلن أوباما عن تنديده باستهداف المدنيين وإيقافه لمناوارات (النجم الساطع) المشتركة بين الجيشين المصري والأميركي، وهو ما يعني النأي بالنفس عن عار الجريمة والتلويح بتخفيض مستوى الدعم للجيش المصري، ولا يحتاج المراقب إلى مستوى عال من الذكاء ليدرك أن هذا الموقف لا يسهم بحل الأزمة بقدر ما يسهم بإضعاف الجيش المصري بعد أن تم توريطه بدماء الأبرياء، ولنتذكر هنا كيف تورط الجيش العراقي باحتلال الكويت ليفقد بهذا سمعته وهيبته في محيطه العربي مما مهّد فيما بعد لضربه ومحاصرته ثم تفكيكه وإنهائه دون ردة فعل تذكر من هذا المحيط الذي كان يموج حباً وتقديراً لمواقف هذا الجيش وتاريخه المشرّف.
ربما لا تزال هناك فرصة لتدارك الوضع المصري قبل أن ينزلق إلى دائرة الفوضى العامة التي يشهدها الهلال الخصيب، والمطلوب الآن هو التفكير بأفق أبعد من كل ما حصل والعمل على إعادة ترتيب الأولويات في هذه المرحلة الحرجة، فهل نحن أمام خلاف حول الشرعية وبرامج متشاكسة إسلامية وعلمانية، أو نحن أمام مسؤولية تاريخية للحفاظ على مصر ووحدتها واستقرارها؟
إن ما يجري اليوم على أرض مصر لا يمكن فصله عن ما جرى للعراق وسوريا، هناك من لا يريد بمنطقتنا وأمتنا خيرا، وقد بات واضحا أنه ليس معنيا بنصرة هذا الطرف أو ذاك بقدر ما هو معني بإحراق المنطقة بنار أهلها ووقودهم، ثم تهيئة الأرض لمشروع جديد قد لا ندرك أبعاده ومخاطره الآن، وإذا كنا بغفلتنا ونظرتنا القاصرة قد أسهمنا بإحراق هذه الأرض، فلنعد العدة للمستقبل، وليكن لنا دور في بنائها على الأسس التي تحقق لنا قدراً من الاحتفاظ بهويتنا وكرامتنا.
إنه لمن المؤسف أن نتحدث عن قدر الأميركيين وخارطتهم التقسيمية الجديدة أو قدر الإسرائيليين ودولتهم الكبرى أو قدر الإيرانيين وهلالهم أو منجلهم الممتد من البحرين حتى بيروت، وكل هذه المشاريع تتشابك وتتقاطع فوق جثثنا وأشلائنا ثم نبقى مستسلمين وكأننا ننتظر أقدار السماء

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

900 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع