عبدالله حبه – موسكو
غائب طعمة فرمان قبل رحيله
في 17 آب عام 1990 توجه جمع من الاصدقاء والمحبين خلف نعش الروائي العراقي غائب طعمة فرمان الى مقبرة ترويوكوروفا في اطراف موسكو حيث ووري التراب في مثواه الاخير ، وحيث منفاه الابد .
وفي وقت لاحق وفي تشرين الاول من العام نفسه وقف الشاعر الكبير الجواهري في حفل تأبيني له اقيم في دمشق وقال: " لا أدري من منا قد استبق الآخر، فلربما ذكرتني ولربما ذكرتك ، وأنا أناغي أيضا نخلتي"، في إشارة الى رواية الكاتب الراحل " النخلة والجيران". وأضاف الجواهري الكبير قائلا :" إنني عرفتك فنانا وانسانا وطفلا بريئا ، وهذه (الماسات) الثلاث المقدسة التي أعرف ويعرف كل قارئ كم هي الكثرة الكاثرة التي تحمل الزيف منها والمصنوع والمقلد، ولكنني لا أعرف ولا المنجم يعرف، من هم وكم هم الذين يجرؤون ان يقول الواحد منهم للآخر انني أحملها، انني امتلكها، انني استحقها انا الفنان، أنا الانسان، انا الطفل البرئ"..." لقد طوت العصور ألف بساط وبساط من اسمار السلاطين والفراعين والمترفين ، ولكنها لم تقدر ولن تقدر ان تسحب بساطا واحدا من تحت أقدام فنان أصيل، ولا ان تمحو اسماءهم وسمارهم ولا فرحهم ومرحهم ( وهم يحملون همومهم على منكب وهم سواهم منكب) ولا انهم يستعجلون الموت حبا منهم بالحياة ، وبساطك الاخضر الشهر والسامر واحد منها".
مثواه الأخير في مقبرة ترويكوروفا في ضواحي موسكو
إنني أوردت اقوال الجواهري عن غائب فرمان لأنني لم أجد من كتب عن هذا الانسان والكاتب المبدع بمثل هذا الصدق والرؤية العميقة. إن غائب ألمع روائي عراقي يعود اليه الفضل في اخراج الرواية العراقية من التقريرية والصور الساذجة وإلقاء المواعظ الى التصوير الواقعي. ولا أخال ان هناك من يضارعه بين كتاب العراق في اواخر القرن الماضي في كشف أسرار المجتمع العراقي الفقير في الفترة الانتقالية في الخمسينيات والستينيات، وتبقى " النخلة والجيران" بصفتها أروع رواية عراقية كتبت حتى الآن. علما انه بدأ التفكير في كتابتها منذ الخمسينيات، ولكنه لم ينجز العمل بها إلاّ في موسكو وبعد حوالي ثلاثين عاما ونشرت في عام 1966. انه أول عراقي قدم الى ابناء شعبه في رواياته ما يحبون من شخصيات، كما صارحهم بسلبياتهم وتقاليدهم السيئة التي تسلب الانسان ابسط حقوقه وكرامته تارة بإسم الدين وتارة بإسم صيانة النظام القائم.
لقد اعتدت في السابع عشر من آب من كل عام الذهاب الى مقبرة النخبة السوفيتية في تريوكوروفو حيث يرقد غائب الى جانب الجنرالات وكبار المسؤولين في السلطة السوفيتية ومشاهير العلماء والمصممين ورجال الثقافة السوفيت. وذهبت اليها اليوم ايضا حيث وضعت عند قبره باقة زهور تكريما لذكراه ولأفضاله علينا نحن المقيمين هنا حين كان المحور الذي تدور حوله نشاطات الجالية العراقية بموسكو. فلم تكن أية فعالية اجتماعية وثقافية لتكتمل من دون حضور غائب فيها. وترأس الفقيد فترة من الزمن رابطة الكتاب والصحفيين الديمقراطيين العراقيين في الاتحاد السوفيتي.
وقد استذكرت اثناء تجوالي في المقبرة حيث اشجار الصنوبر وأصص الزهور والتماثيل الرخامية كيف تنقل غائب طعمة فرمان في المنافي من فترة مبكرة من حياته حتى استقر به المقام بموسكو. وعانى من الغربة والفقر اينما حل .. في شوارع فيينا وبخارست ودمشق ... وحتى في القاهرة حيث درس ثلاث سنوات في جامعتها والتقى هناك كبار الادباء مثل نجيب محفوظ والزيات وآخرين. ولم يبق في بغداد طويلا بسبب الاوضاع السياسية في اواسط الخمسينيات ويومذاك أصدر كتابه " الحكم الاسود في العراق " الذي نشر في دمشق. واضطر للعمل في الصين مترجما من الانكليزية في مجلة " الصين المصورة". وإلتقيته هناك وحدثني لأول مرة عن خيبة أمله من التجربة الاشتراكية الصينية. وعاد الى العراق بعد ثورة 14 تموز، وعملنا معا في الصفحة الثقافية لجريدة "اتحاد الشعب". وسرعنا ما إلتقينا معا بموسكو في عام 1960 حيث بدأ العمل في دار النشر " بروغريس" ، بينما بدأت دراستي في معهد "غيتيس". وكان لا بد ان نلتقي سوية في احيان كثيرة، وفي المناسبات كنا نجتمع في شقته الصغيرة عند محطة مترو الجامعة سوية مع الفنان محمود صبري والشاعر عبدالوهاب البياتي ( الملحق الثقافي آنذاك) والموسيقار فريد الله ويردي واصدقاء آخرين. وكان هاجس جميع العراقيين بموسكو هو الحنين الى الوطن وتتبع أخباره. وكان غائب يضع جهاز الراديو الترانزستور الصغير عند النافذة في المطبخ ويستمع الى آخر الاخبار من محطة " بي .بي . سي " الناطقة باللغة الانكليزية. اذ لم نكن نلنقط إلا فيما ندر المحطات العربية وبالاخص إذاعة بغداد.
وبعد احداث 8 شباط 1963 الأليمة احتدم لديه أكثر الشعور بالغربة. وفيما بعد قال غائب حول علاقة الكاتب بالمنفى :" ان الروائي حين يكون مجبرا على مغادرة بلاده ويعيش في المنفى لكنه يواصل الكتابة وتكون مواضيعه مستلهمة من واقع شعبه ووطنه فان من الافضل تسمية هذا الادب بالأدب المغترب وليس بأدب المنفى...بالنسبة لي النفي موجود في احساسي الداخلي . وفعلا ، فأنا طوال حياتي لم اشترك في حياة وطني ، اذ كنت مبعدا على الدوام.. لكنني دائم الاحساس بالوطن وحياته فأسطرها في كتاباتي. ان جميع رواياتي تستمد احداثها من داخل الوطن ما عدا " المرتجى والمؤجل"، فقد كتبتها حول المهجرين والمنفيين. وحاولت فيها ان اصور الظلال التي تتركها الغربة على الانسان". علما أنني سألته مرة لماذا لا يكتب عن العراقيين القاطنين في موسكو الذين كان يلتقي بهم يوميا في مقهى فندق " موسكو " فأجاب بأن هناك الكثير من السلبيات في حياتهم ويفضل عدم التطرق اليها. لكنه كتب مع هذا "المرتجى والمؤجل" الذي كان احد ابطالها صديقه عادل العبيدي المهجر الى موسكو وعائلته. واذكر انني كثيرا ما كنت أحثه على كتابة مسرحية عراقية من اجل فرقة المسرح الحديث التي كنت إنتمي اليها لا سيما ان رواياته مترعة بالحوار الجميل ولا تعتمد على الوصف كما لدى غيره من كتابنا. لكنه قال ايضا انه لا
يفهم لغة المسرح بعد. وفيما بعد قام الفنان الراحل قاسم محمد بإعداد نص مسرحي لرواية " النخلة والجيران" بموافقته والذي حتى حاز على إعجابه.
وتبقى في ذاكرتي صورة غائب ذي الابتسامة العذبة التي شاهدتها في الرسم الذي يزين شاهد قبره. فقد كان غائب مثالا للطيبة وطهارة النفس واللسان . ولم أسمع منه يوما خلال عشرات السنين ما يمس أحدا بسوء حتى من بين الاشخاص الذين لم يعجبه سلوكهم. وكما قال المفكر والفيلسوف العراقي هادي العلوي عنه فانه" يعيش في الضوء ولا يألف الظلام. لأنه يحمل السراج في غياهب الفكر المنفي فيضيء جوانب العتمة، ويغسلها بأنوار صباحية، تطهرها من دنس الحاكم والمثقف على حد سواء".."ولقد تجرد من هواجس المثقفين ورذائلهم وحافظ على روح المواطن البسيط وهو في قمة العطاء الثقافي واكتسى ثوب الفضيلة الشعبية".
وراودتني الفكرة وانا اتجول في المقبرة عما فعله وطنه العراق من أجل تخليد ذكراه . ففي روسيا تجد في كل شارع وحي نصب أو لوحة تذكارية تخلد ابداع هذا الكاتب والفنان او ذاك ، كما تطلق عليهم اسماء الشوارع والميادين والمدارس والمكتبات والمسارح وحتى الطائرات والقطارات. ولكن هاجس المسؤولين عندنا الذين يضعون الثقافة ورجال الثقافة على الهامش، يعملون جهدهم على ان ينسى المواطن العادي وجود رجال ابداع عظام كرسوا كل نشاطهم الابداعي الى وطنهم مثل غائب. ومنذ فترة قريب إلتقيت مستشرقا من جامعة اسكتلندية كتب دراسة عن غائب طعمة فرمان ويعكف حاليا على ترجمة " النخلة والجيران". ان غائب طعمة فرمان وغيره من كتابنا وفنانينا في الغربة حملوا ويحملون رسالة ايصال الحقيقة عن شعب وادي الرافدين باختلاف قومياته وطوائفه الى العالم.
17/8/2013 ِ
969 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع