حاتم جعفر
رياض أبو القماچي.مُقتطع من نص روائي، سيُنشَرْ قريباً.
ما إن إقترب منهما حتى أقدم رياض وعن عمدٍ على رفع وتيرة صوته، في حركة متعمدة، هدفَ من خلالها على ما يبدو جذب إنتباه أحد المارة والتحدث معه في أمر ما فكان له ما أراد. فبشكل مفاجئ ورغم عدم معرفته الجيدة به وعلى النحو الذي يسمح له بالتوسع والتمادي في الكلامء، طلب من الشخص الذي صادف مروره، ومن دون مقدمات، مساعدته من أجل أن يجد له بنت الحلال وبأسرع وقت ممكن،شريطة أن تكون أرملة ولم تبلغ بعد الخمسين من العمر، ويفضل أن يكون لها من اﻷبناء ذكورا فقط، غير انه لم يتلقَ الإستجابة الكافية والمرضية.
رياض لم يكتفِ بهذا القدر من الإجابة لتجده منتقلا الى موضوع آخر لا يقل طرافة ومباغتة ومن دون مقدمات، ليسأل ذات الشخص عن كمال عاكف، مُقدم برنامج ركن الهواة المعروف، والذي كان يُبث من على شاشة التفزيون العراقي في فترة الستينات المنصرمة، وإذا ما كان حقا قد وافاه اﻷجل ليلة البارحة أم هي مجرد مزحة. كاد الرجل أن تفلت منه ضحكة مجلجلة الاّ انه كتم عليها بقوة وليواصل طريقه.
أمّا رياض فقد عاد ثانية الى جو التفاوض الذي كان يجريه قبل قليل مع أحد اﻷشخاص، لكي يبيع له حزمة من أشرطة مطاطية، تستعمل خصيصا لصيد الطيور، وكأن شيئا لم يكن، إذ لم تبدو عليه أية ردات فعل أزاء الرجل المستطرق. ومن الجدير بالذكر، فإن في حديث الطرفين(البائع والمشتري) ما ينطوي على الكثير من اللقطات والحوارات التي لا تفرض على مَنْ يترصدها من الإشارة اليها فحسب بل والتوقف عندها والإستمتاع بسماعها وذلك لغرابتها، وﻷنها أيضا تكشف عن طبيعة شخصيتيهما ومدى عفويتهما. فعلى سبيل المثال فإن رياض أوشك وبشكل مفاجئ على الإنسحاب من إتمام (الصفقة) وذلك قبيل وضع اللمسات اﻷخيرة، أو لنقل على وجه ألدقة تظاهره بذلك، من أجل ممارسة المزيد من الضغط على المشتري على ما يبدو.
الأدهى من ذلك وأثناء سيرورة التعامل بينهما، والأخذ والرد وكيفية الوصول الى السعر المناسب الذي سيرضي ويستقر عنده الطرفان، بل ليرضى عنه رياض أولاً وأخيراً، فإنه ولكي يمرر (صفقته)، فقد راح يُقسم وبكل ما يؤمن به من مقدسات، وبأرواح الأحياء قبل الأموات، بأنه قد تساهل كثيراً في السعر الذي اقترحه، مبديا إستعداده التام لبيع أشرطته وبأي سعر كان، حتى لو تطلب الأمر وجاء على حساب نسبة الربح التي كان قد وضعها لنفسه. بل راح أبعد من ذلك حين أعلن عن رغبته في تحمّل جزء من الخسارة، وذلك نزولاً عند رغبة الشخص المقابل، الذي يستحق كما يقول رياض كل الخير، لحسن أخلاقه وتصرفه معه.
ما يمكن أن نخلص اليه وكما بدا واضحاً من طريقته وأسلوبه في الكلام، ومن خلال بعض المؤشرات الأخرى ذات الصلة، أكدت وباﻷدلة القاطعة بأنَّ رياض مفاوض ذكي ومن الطراز الأول، ويتمتع بخبرة واسعة في هذا المجال. وأثبت كذلك قدرة عالية على المناورة وفي كيفية التعامل مع الآخر والوصول به الى ما يبتغيه، وبالسعر الذي يناسبه والذي كان قد حدده سلفاً ووضعه في باله وناور عليه، حتى وإن اعتقد الطرف الآخر أو سيظن بأنه توفق ونجح في عملية الشراء هذه، وان رياض سيخرج منها خاسرا، أو على الأقل لم يستطع الحصول على ما كان قد خطط ووضع له من سعرٍ.
العجيب في الأمر، إن رياض وطيلة عقود عمره الأربعة أو ما يزيد عليها ببضع سنين، لم يُشاهد ولا لمرة واحدة وفي كل حياته وهو مرتديا بنطالاً الاّ في ذلك اليوم، مما سبب له الكثير من الإزعاج والإرباك، في وقفته وفي حركته. لذلك راح يداري حرجه بمختلف الطرق، فمرة يشد من قوة ضغط الحزام الذي يحيط بخصره لتثبيت بنطاله الذي بدا واسعاً عليه وبما لا يدع مجالاً للشك، ومرة يرخيه من دون سبب مقنع أو مبرر، وفي اخرى تجده ممسكاً به بيديه الإثنتين ومن الجانبين خشية انسداله أو هكذا يبدو لمن يراقبه.
وبعد مرور قرابة الساعة من المفاوضات الماراثونية والمفصلة، وصلا أخيراً الى اللحظات الأخيرة والحاسمة من اتمام الصفقة والى المشهد اﻷخير منه، فقد أخرج الطرف الثاني من جيبه مبلغاً معيناً من المال، كانا وعلى ما يبدو قد اتفقا واستقرا عليه وبالتراضي، مع حرصهما الشديد وفي تلك اللحظة بالذات أن لا يراهما أحدا، أو بالأحرى أن لا يُرى مقدار المبلغ الذي سَيُدفَعْ، دون أن نعرف سبباً لذلك أو نجد له تفسيراً، لعله شأن خاص وأظنه كذلك فليس هناك وعلى أكثر تقدير من احتمال آخر.
بالمقابل فقد أعطى رياض الأشرطة المتفق عليها الى صاحب العلاقة ولكن بعد أن أفرغها من الكيس ليحتفظ به لنفسه وللصفقات القادمة. عند هذه اللحظة اُثيرَ إشكال جديد لم يكن بالحسبان ولم يأتِ على بال أحد، إذ راح المشتري متسائلا، أن كيف له إقتناء أشرطة الصيد المطاطية بدون القاعدة التي ستركب عليها وتثبتها لتصبح كاملة، جاهزة للإستعمال؟.
وبسبب من هذا الإعتراض الغير متوقع، فقد اُعيدت المفاوضات بينهما الى المربع الأول، وراحا يكرران من جديد ما كانا قد فرغا منه قبل قليل. بين شد وجذب اقتنع رياض كما يبدو بإعتراض صاحبه ومن غير ان يفصح عن ذلك، كي لا يظهر بمظهر الضعيف وتُسجَّل ضده احدى النقاط، فراح وعلى طريقته وبالإعتماد على خبرته، يُعيد التفاوض مرة اخرى ومن غير ملل أو كلل، مع بعض الإشارات التي كانت تصدر منه بين حين وآخر، والتي ستعطي للطرف الثاني إيحاءاً بتسامحه وتساهله في السعر، وذلك ليزيد من طمأنته ونيل رضاه، واضعاً في حسابه ونصب عينيه القادم من (الصفقات).
وتعزيزا للثقة فقد أودعَ أشرطة الصيد عند المشتري المفترض ومن غير أن يحاسبه عليها حتى إتمام عملية البيع مئة في المئة. لذا ولكي ينهي الموضوع ويحسمه بسرعة، إستأذن من صاحبه ليغيب عنه بضعة دقائق، ريثما يذهب الى كَراج أبيه، الواقع بالقرب من مكان وقوفهما، والذي كان رياض قد اتخذ من أحد زواياه المهملة، وبعد أن أجرى عليها بعض التحويرات والتغييرات، لتكون بمثابة مخزناً احتياطياً،سيحفظ فيه مقتنياته ومتعلقاته الشخصية كعُدة عمله و(تجارته)، وليستفيد منه ويستعين به عند الحالات الطارئة كالتي تجري معه اﻵن.
لم تستغرق فترة غيابه أكثر من عشرة دقائق حتى عاد رياض بحلة جديدة، مسترخياً هذه المرة، واثقاً من مشيته، يدوس الأرض بل يدكّها دكّا وبقدمين مستقرين ثابتين، بعدما أبدل بنطاله الذي لا أظنه سيعود اليه مرة أخرى، مرتدياً هذه المرة دشداشته العتيدة، والتي يتماهى لونها والى حد كبير ولون المكان حيث يقفان عنده مع اختلاف بسيط، ومن دون أن يشد وسطه بذلك الحزام الذي أزعج خصره بل كل جسده حتى دقائق خلت، والذي استمر معه قرابة الساعة. وَمَن يعرف رياض عن قرب فسيخرج بإنطباع مفاده بأن دشداشته هي الأخرى تأبى مفارقته تحت مختلف الظروف، بل حتى أصبحت ملازمة له وتشكل جزء من هويته، رغم تبدل الأزمنة وتغيرات العصر، وانقلاب أنظمة وتبدل أشكال حكم، وما رافق كل ذلك من تحولات في الذوق العام.
وعلى ذكر الدشداشة أو الجلابية كما يُصر على تسميها أخوتنا المصريين، فله منها وعلى حد قوله وبفخر سبعة، يوزعها على مدار الأسبوع، سيرتديها تباعاً وبواقع واحدة كل يوم. أمّا موعد إستحمامه فقد اختار يوم اﻷثنين، ليأتي متزامنا مع عطلة الحلاقين، وفي ذلك حكمة لم يفصح عنها، حيث يتوجه الى حمامه الخاص والذي يقع بجانب غرفته العتيدة، والتي تشكل جزءاً كما سبق القول من كَراج أبيه، بعد أن أجرى عليه بعض التعديلات الضرورية ليكون استعماله حكراً عليه. يلي ذلك ارتداءه لإحدى دشداشاته النظيفة، والتي سيكون قد هيئها وعلَّقهاسلفاً على مسمار، قوي وثابت وبحجم ملفت للنظر هو اﻵخر، ليلبسها ليوم واحد فقط وهكذا دواليك.
مدَّ رياض يده اليمنى الى جيب دشداشته الطويل جداً والذي ربما سيصل أو سيجتاز ركبته، ليُخرج منه آلة صيد الطيور، البدائية الصنع، الشائعة آنذاك وأظنها لا زالت حتى يومنا هذا، حيث سيمنحها مجاناٍ، كهِبة الى المشتري وسط فرحة عارمة لا يمكن وصفها. وللعلم فهو أشهر من عُرف بصناعتها بين أبناء المدينة، وإن سألتم عنها فهي عبارة عن خشبتين رفيعتين، بطولين وسمكين متساويين تقريباً، قد يعادل قطر الواحدة منها سبابة اليد، جرى إعدادهاسلفا لتكون جاهزة للإستعمال، بعد إدخال بعض التحسينات والتعديلات عليها، كبردِها وتشذيبها من الزوائد ليصبح ملمسها ناعماً قدر المستطاع.
بالمناسبة فإن رياض نفسه، لم يسبق له أن جَرَّبَ هواية الصيد في حياته ولا لمرة واحدة رغم بيعه لتلك الآلة وتخصصه بها وتفننه في صناعتها: ألم يكن من الأجمل أن تتركوا الطيور تُحلّق عالياً بدل أن تصطادوها وتسقط كما الذبيحة على الأرض؟.صحيح ان الجملة الأخيرة كان ينبغي أن نسمعها من صائدي الطيور انفسهم، غير انها صدرت منه ولا تستكثروا على الرجل ما قاله، فقلبه أرقُّ من ورق الورد، وأكثر رحمة وشفقة وزهد من جمهرة كبيرة ممن يدعي النُسكَ والتعبٌدْ.
وقبيل مغادرة المشتري وهو حامل معه آلة الصيد تلك بأشرطتها بعد إتمام الصفقة بنجاح، فاجئه رياض بأن دعاه وبشكل لم يكن يتوقعه الى وجبة غذاء مجاناً بل وعلى حسابه الخاص. أمّا لماذا وما هي المناسبة فالعلم عند صاحب الدعوة، ولكن يُمكننا وعلى ضوء تجارب سابقة تفسير الأمر على النحو التالي: إذا ما شعر رياض بالرضا عن الطرف الثاني الذي كان يفاوضه أثناء عملية البيع والشراء، ولامسته ولو نسمة خفيفية خاطفة من الراحة، فسيفتح له قلبه قبل باب جوده وكرمه.
لذا وأزاء هذا العرض السخي والغير متوقع والمقدم من رياض ومن دون أي مقابل يُذكر، سيجد المشتري أن لا خيار أمامه سوى الإستجابة الفورية وبحماس لتلك الدعوة الكريمة، حتى من غير أن يسأل أو يسائل نفسه عن أسبابها ومبرراتها وخلفياتها، خاصة وإن الجوع قد ضربه وإستنزف جُل طاقته، فضلا عن أنَّ جيبه قد اُُفرغََ تماماً ولم يبق معه ولا حتى فلساً واحداً، بعدما دفع كل ما بحوزته لقاء تلك اﻷشرطة وآلة الصيد المرفقة معها، والتي ستظمن له وكما يأمل ويفترض صيداً ثميناً.
أمّا إذا وصله إحساس مغاير، يشير الى أنَّ المشتري من الصنف الثقيل والمزعج (هذا طبعا بحسب رؤوية وتقدير رياض)، فَسَيُلزم نفسه ويعاهدها على التحمل والصبر والمطاولة، إستعدادا لخوض شكل آخر من أشكال التفاوض والتي سيشدد فيها من شروطه، وصولا الى تحقيق هدفه والمتمثل بإجبار الطرف الثاني على الخضوع والقبول بأي مبلغ يضعه ومن دون مساومة تُذكر، ومن دون دعوته أيضا حتى على قدح ماء فارغ.
وبعد مضي قرابة النصف ساعة من الوقت، قضاها بصحبة المشتري في مطعم الشباب لصاحبه طيب الذكر والثرى، جوري، فها هو أمامك من جديد رياض أبو القماچي، بشحمه ولحمه وإمتلاء جسده. ولولا إنحناءة ظهره بسبب ضخامته لكان من المؤكد أن يوصف بصاحب الطول الفارع، ولراح يباهي ويجاري بل ينافس خيرة شباب المدينة في هذا الجانب،
وما دمنا نتحدث عن رياض فلا بأس من المضي الى نقطة أبعد قليلاً لنقول: إذا حدث التباس ما وأشْكِلَ عليك الأمر في تحديد هوية من يكون ذلك الشخص أو صَعُب وصفه لِمَنْ يسأل عنه، أو أردت التعريف به وتمييزه عن الآخرين، فما عليك الاّ أن التنبيه الى سبابة وإبهام الرجل الذي تعنيه، فهما وفي أكثر اﻷحيان ممدودتان الى قاع فمه، لتجده منهمكا وعلى عادته في البحث بين
أسنانه عن بقايا لحم أو أي صنف آخر من الطعام، يعتقد بأنه قد تسلل واستقر في مكان ما بين قواطعه أو غيرها من أضراسه، فقل عند ذاك وبكامل الثقة واليقين انه رياض أبو القماچي وليس من أحد سواه. فالرجل سوف لن يهدأ له بال إن لم يُخرج من فمه كل ماهو عالق فيه، وستجده على مدار الساعة في رحلة من البحث المضني والشاق، والتي ستنتهي بكل تأكيد بالفشل الذريع، حيث سيتعذر عليه العثور على أي شيء يُذكر بين أسنانه، رغم ما بذله من جُهدٍ ووقت.
وللمزيد من التعريف به، فشخصيته بسيطة سهلة، يشبه الماء العذب في جريانه. فطري، عفوي في سلوكه وتصرفاته وفي أحاديثه. مكشوف للآخرين وليس فيه من سرٍ يخفيه. وجهه ضحوك، ذو وجنتين مليئتين بالخير والبركة والطيبة. سمح، لا يعرف المداهنة ولا ألاعيب الكبار رغم تجاوزه مرحلة الشباب بما لا يقل عن العقدين من السنين.
واسع الرحمة على روحك الطاهرة يا رياض، ونم قرير العين في أبديتك، أيها الطفل الوديع، الكبير في أصلك.
السويد ــــ مالمو
913 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع