د.علي محمد فخرو
النيولبرالية كسبب لمرض الوحدة النفسية
منذ بضعة أسابيع كتبت مقالاً عن الانتشار المتسارع لوباء مرض الشعور بالوحدة والغربة النفسي ووعدت بالدخول في تفاصيل مسبباته وآثاره. ولقد اضطرتني الأحداث الجديدة المتسارعة في الوطن العربي للكتابة عنها وتأجيل متابعة الموضوع.
نبدأ اليوم بإبراز أحد أهم مسببات ذلك الشعور النفسي، وعلى الأخص انتشاره في أوساط الشباب والشابات، بمن فيهم العرب.
إنه ترسيخ ونشر وتزيين مبادئ ومنهجيات الفلسفة السياسية النيولبرالية العولمية وتطبيقاتها في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية على الأخص. هذه الفلسفة التي تمجد بصور جنونية كل أنواع الحرية: حرية الاختيار، حرية الأسواق، حرية عدم الانصياع لأي توجيهات أو تدخلات حكومية أو نقابية أو حزبية أو حتى عائلية في حياة الفرد والمجتمع.
وبالتالي ركزت على تمجيد استقلال الفرد عن أي ارتباط أو مسؤولية، إلا مصلحته الشخصية، وعلى تمجيد الحكومة الصغيرة المحدودة المسؤوليات، و بالتالي خصخصة كل الخدمات الاجتماعية والحقوقية، وعلى تمجيد التنافس إلى حدود المرض واللا قيم وتدمير الخصم، وعلى تمجيد الخروج على و إسقاط كل سلوك مجتمعي، حتى ولو كان على حساب التاريخ و الهوية والقيم الدينية الأخلاقية.
وبالطبع لعب الإعلام غير الملتزم، والخادم للمصالح، في تمجيد أبطال تلك الفلسفة من أمثال مارجريت تاشر ورونالد ريجان ورافعي شعار الطريق الثالث من أمثال بلير وكلينتون ومدرسة شيكاغو الشهيرة وغيرهم من الأبواق ومروجي الصرعات العبثية.
من هنا بدأت مشاعر الوحدة النفسية عند الملايين. فالرأسمالية النيولبرالية قادت إلى مجموعة صغيرة بالغة الغنى وعيش الترف بينما وجدت الأغلبية الفقيرة المهمشة نفسها معزولة ومحرومة، وبالتالي في عزلة عن كل مايجري من حولها، بل و موصوفة بأنها فاشلة وغير صالحة لأي منافسة.
ولما كانت الفلسفة النيولبرالية قد شددت على الفردية الشبه مطلقة فقد الارتباط والتعاطف مع الفقراء، وفقد التعاطف الحكومي معه، وفقد الترابط المجتمعي التاريخي مع الأسرة و الجار والحارة والنقابة والحزب وحتى صاحب مصدر الرزق، ودخل عالم الشعور بالوحدة الوجودية التي لا معنى ولا هدف لها، بل ولا حتى أمان وسكينة فيها.
كان كل ذلك تتويجاً لما قاله رونالد ريجن في ثمانينات القرن الماضي: «إن الكلمات التسع المزعجة في اللغة الإنجليزية هي القول بأنني من الحكومة وأنني هنا لأساعد من يحتاج».
كانت كلمتا الحكومة ومساعدة الآخرين موبوءتين في قاموس النيولبرالية.
وكان تتويجاً لما قالته مارجريت تاشر لشعبها ما معناه : لا يوجد شيء اسمه نقابة أو عائلة أو مجتمع، بل يوجد فقط فرد مستقل مسؤول عن نفسه، ولاتوجد وسيلة لتغيير القلوب والنفوس إلا الاقتصاد.
فجأة وجد العالم نفسه في داخل دوامة النيولبرالية على أوسع نطاق عندما تبنى السياسيون المسؤولون شعارات مؤيدة من مثل التفتيش عن المصلحة، أو عقلية الكلب الذي يأكل الكلب، أو أن الطمع صفة حميدة، أو أن الاستهلاك الفردي النهم يخدم المجتمع والاقتصاد، أو أن كلمات التضامن والتعاطف مع الآخرين هي كلمات من خارج العصر الذي نعيش. وبدأت البرلمانات والحكومات تبشر بمجيء الانسان الجديد: إنسان الاقتصاد HOMO) ECONOMICUS) بدلاً من الإنسان الكائن العاقل.
بتساقط أو ضعف العلاقات الاجتماعية، علاقة بعد علاقة، وصعود الفردية المادية الاستهلاكية العبثية، كان طبيعياً أن يشعر إنسان العصر، وعلى الأخص شاباته وشبابه، المتطلعون إلى حياة رفقة إنسانية بشتى أشكالها الأسرية والاجتماعية والثقافية و الروحية، أن يشعر بالوحدة الوجودية، بل و أن يتساءل إن كانت هذه الحياة تستحق أن تصان وأن يشقى الإنسان من أجلها.
ولذا لن تقف مشاعر الوحدة عند تلك الحدود، إذ شيئاً فشيئاً ستقود إلى أمراض نفسية وعقلية وجسدية بالغة الخطورة، وسنحاول الإشارة إلى أخطرها في كتابات مستقبلية.
لكن دعنا نذكر أنفسنا بأنه ليس المهم هو الوصف والتشخيص وحتى العلاجات للكثير من المحن التي يواجهها إنسان العصر. إنما المهم هو الإشارة إلى أسبابها الحضارية الخاطئة والنضال لمواجهة تلك الأسباب ودحر الذين من ورائها.
ستكون كارثة لو أننا أضعنا الوقت في التشخيص و أهملنا الأسباب.
1102 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع