د. جابر أبي جابر
الأحزاب والتنظيمات السياسية في روسيا قبل ثورة أكتوبر
في أواخر القرن التاسع عشر بدأت تظهر بروسيا أحزاب وتنظيمات سياسية متأخّرة بذلك حوالي نصف قرن عن بلدان أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية. ومن اللافت أنه تشكلت أولاً أحزاب ذات اتجاه اشتراكي وفيما بعد لحقت بها أحزاب ليبرالية ثم أحزاب محافظة، بينما شهد الغرب عملية معاكسة. وعليه فقد نشأت في البداية أحزاب يسارية بأطراف الإمبراطورية الروسية (فنلندا: الحزب الاشتراكي الديمقراطي الفنلندي-1899، بولونيا: الحزب الاشتراكي البولندي-1992 وحزب البوند-1897، أرمينيا : حزب الطاشناق-1890) ثم تلتها بعد بضع سنوات أحزاب اشتراكية شمل نشاطها كافة أرجاء البلد.
- حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي(بجناحيه البلشفي والمنشفي)
في آذار/ مارس عام 1898عُقد بمدينة مينسك المؤتمر الأول لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي بمبادرة من نشطاء " اتحاد النضال لتحرير الطبقة العاملة"، الذين لم تطالهم قبضة الشرطة السرية. وقد قام بيوتر ستروفيه بإعداد مانيفست الحزب. وشارك في المؤتمر 9 مندوبين عن شتى التنظيمات الاشتراكية الديمقراطية. ولكن لم يتم في واقع الأمر تأسيس الحزب نظراً لعدم إقرار برنامجه ونظامه الداخلي، زد على ذلك أنه جرى اعتقال ثمانية من أصل المندوبين التسعة قبل اختتام أعمال المؤتمر. ولم يظهر حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي كحزب بالمعنى الكامل للكلمة إلا في المؤتمر الثاني المنعقد صيف عام 1903 ببروكسل ثم في لندن بعد اضطرار المندوبين لنقل جلساته إلى هناك نظراً لملاحقتهم من قبل الشرطة البلجيكية.
وقد أجرى هؤلاء 37 جلسة شهدت مناقشات حامية وخلافات عميقة حول طائفة واسعة من المسائل المتعلقة بالنظام الداخلي للحزب، وبعض الوثائق التأسيسية الأخرى. وآنذاك سعى لينين جاهداً إلى فرض رؤيته لطبيعة النشاط الحزبي وتصوراته بخصوص شروط العضوية، التي سبق أن أوردها في كتابه" ما العمل؟". وحسب اعتقاده ينبغي للحزب أن يشكل مجموعة منظَّمة وانضباطية من الثوريين المحترفين. وفيما يتعلق بشروط العضوية أكد لينين وجماعته على النزعة المركزية الصارمة والانضباط شبه العسكري لأعضاء الحزب، بينما وقف مارتوف وأنصاره ضد أساليب قمع الحرية الفردية للأعضاء وطالبوا بأن يسمح للمتعاطفين بالانضمام للحزب. وأثناء التصويت على البند الأول من النظام الداخلي حول مبادئ العضوية في الحزب رجحت كفة مارتوف بدعم من بليخانوف. ولكن لدى انتخاب أعضاء اللجنة المركزية وهيئة تحرير صحيفة الايسكرا حصل مؤيدو لينين على الأكثرية. ولهذا جرى تسميتهم بالبلاشفة أي أصحاب الأكثرية، بينما دُعيَ أنصار مارتوف بالمناشفة أي أصحاب الأقلية.
وتسنى لجماعة لينين الحصول على الأكثرية بفضل انسحاب مندوبَين عن رابطة الاقتصاديين في الخارج، إذ ذهب التيار الاقتصادي إلى أن نشاط العمال ينبغي أن يقتصر على النضال النقابي والصراع الاقتصادي مع الرأسماليين وبالإضافة إلى ذلك انسحب من المؤتمر ممثلو حزب البوند الخمسة احتجاجاً على رفض المندوبين، بأغلبية ساحقة من الأصوات، إدراج مطالبهم بخصوص اعتبار هذا الحزب الممثل الوحيد لتطلعات البروليتاريا اليهودية. وفيما بعد أضحى البلاشفة أقلية في الحزب. ولكنهم احتفظوا بهذه التسمية لسنوات طويلة. ("تاريخ روسيا في القرن 20 " بإشراف أندريه زوبوف. المجلد (1)، موسكو. دار نشر"ايكسمو". 2016، ص. 157- 158).
وفي ختام أعمال المؤتمر أقر المشاركون برنامج حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي ونظامه الداخلي، الذي تضمن بنوداً عديدة منها إسقاط النظام القيصري في روسيا والدعوة إلى انعقاد جمعية تأسيسية منتخبة من قبل الشعب كخطوة أولى في طريق تحقيق أهداف الحزب. ونص البرنامج على ضرورة إقرار يوم عمل من ثماني ساعات، واتخاذ قانون الاقتراع العام، وتنظيم العمل النسائي، وكذلك منح الدولة معاشات تقاعدية للمُسنّين والمُعاقين، وحظر عمل الأطفال، ودعم كافة الحركات المناوئة للحكم القيصري.
وقد شملت الخلافات الفكرية بين جناحي الحزب أربع مسائل :
1- معارضة المناشفة إدراج مطلب دكتاتورية البروليتاريا في برنامج الحزب.
2- رفض المناشفة لاقتراح البلاشفة إدخال المطالب المتعلقة بالمسألة الزراعية.
3- مطالبة أنصار المناشفة (الحزب الاشتراكي البولندي والبوند) بحق الأمم في تقرير مصيرها.
4- وقوف المناشفة ضد إلزام العضو بالمشاركة الحتمية في إحدى منظماته.
وعلى العموم فإنً كفة البلاشفة رجحت في القضايا المتعلقة ببرنامج الحزب، بينما كان الفوز حليف المناشفة في قضايا العضوية. وفيما بعد جعل لينين من جناحه تنظيماً تآمرياً راديكالياً مرصوصاً بانضباط متين ساعياً للاستيلاء على السلطة بأي شكل من الأشكال ومهما كلف الثمن.
وهكذا نشأ حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي بجناحيه - البلاشفة والمناشفة. ومن اللافت أن أعضاء الحزب العاديين لم يروا آنذاك اختلافاً جوهرياً بين الجناحين. وقد شهد الحزب انتقال بعض الشخصيات البارزة من جناح المناشفة إلى جناح البلاشفة وبالعكس. فعلى سبيل المثال انضم بليخانوف إلى معسكر المناشفة بينما انتقل تروتسكي إلى صفوف البلاشفة في نهاية الأمر بعد أن كان لسنوات طويلة خارج الجناحين يدعو باصرار إلى توحيد الحزب.
سعى المناشفة للسيطرة على قيادة الحزب، ولهذه الغاية سارعوا إلى إنشاء "مكتب المناشفة" كبديل عن اللجنة المركزية. وقد تسنى لهم إحراز بعض النجاحات في هذا الاتجاه إذ انضم بليخانوف إلى صفوفهم وخرج لينين من هيئة تحرير الايسكرا فأُعيد تشكيلها لصالحهم. كما انتقل إلى معسكرهم البلشفيان السابقان ليونيد كراسين وفلاديمير نوسكوف. وعلى هذا النحو حصل المناشفة على الأغلبية في اللجنة المركزية أيضاً مما دفع لينين إلى الرد على هذا التحول الملائم لمنافسيه في مقالة "خطوة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء" حيث انتقد بشدة آراء المناشفة بخصوص البناء الحزبي وطرح تصوراته حول طبيعة الحزب كطليعة واعية للطبقة العاملة. وقد كان جناح البلاشفة منهمكاً في التحضير لمؤتمر الحزب الثالث حيث عقدت الآمال على الإطاحة باللجنة المركزية الموالية للمناشفة وإنشاء هيئة إعلامية خاصة بالبلاشفة من خلال إصدار صحيفة "فبيريود" (إلى الأمام).
انعقد المؤتمر الثالث لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي في لندن خلال الفترة الواقعة بين 12 و27 نيسان/ أبريل عام 1905 في ظروف اندلاع الثورة الروسية الأولى. وقد رفض المناشفة المشاركة في هذا المؤتمر وأقاموا كونفرساً خاصاً بهم في جنيف.
وقد سبقت انطلاق المؤتمر الثالث أعمال تحضيرية عديدة قام بها البلاشفة منذ آب/ أغسطس عام 1904، إذ عقد اجتماع استشاري دعا إليه لينين وشارك فيه 22 مندوباً. وبعد انتهاء الاجتماع المذكور صدر نداء موجه إلى كافة أعضاء الحزب. وقد عبّر هذا النداء عن آراء المندوبين ومواقف المنظمات الحزبية، التي يمثلونها، بخصوص الوضع داخل الحزب ورؤيتهم لطرق تحسينه. وأعرب أصحاب النداء عن قلقهم إزاء تفاقم الخلافات بين الجناحين البلشفي والمنشفي للحزب ومخاطر انهيار وحدته وأعلنوا أن الصراع الداخلي خرج عن إطار الالتزام الحزبي وأدى إلى انعدام الانضباط وحدوث الفوضى في صفوف الحزب. وأشار واضعو النداء إلى أن اللحظة التاريخية تستدعي توحيد كافة الجهود للضلوع بالمهام الجبارة الملقاة على عاتق الطبقة العاملة في روسيا لخوض المعركة الحاسمة ضد القيصرية.
وشارك في المؤتمر الثالث 38 مندوباً (منهم 14 مندوباً بصفة استشارية) يمثلون معظم المراكز الصناعية الكبرى في البلد وكذلك 21 لجنة حزبية. وتجلت المهمة الرئيسية للمؤتمر في وضع نهج تكتيكي موحد للحزب في ظروف الثورة القادمة. وقد طرحت على بساط البحث قضايا عديدة من أبرزها الإعداد للانتفاضة المسلحة والموقف من الحركة الفلاحية وتعديل البند الأول من النظام الداخلي للحزب (حول تحديد مفهوم عضو الحزب). وخلال أعمال المؤتمر لعب لينين دوراً فعالاً حيث كان يقوم بإعداد مسودات القرارات وتحديد مواقف الحزب إزاء كافة القضايا الأساسية المطروحة على بساط البحث .
انتخب المؤتمر لجنة مركزية جديدة على رأسها لينين كما قرر المندوبون إصدار صحيفة جديدة ناطقة بلسان الحزب أُطلق عليها تسمية " البروليتاري" وكُلّف لينين بإدارة تحريرها. وقد أقر المؤتمر نظاماً داخلياً جديداً للحزب وفقاً للصيغة، التي طرحها لينين أثناء انعقاد المؤتمر الثاني. كما وجه انتقادات شديد للمناشفة وشجب السياسة "المعادية للحزب"، التي تنتهجها هيئة تحرير صحيفة الايسكرا .
في تلك الفترة كانت الخلافات بين الجناحين تدور حول عدة مسائل أبرزها تحديد القوى المحركة للثورة في روسيا. فقد اعتبر البلاشفة أن البروليتاريا هي الطبقة الوحيدة ذات المصلحة في الإطاحة التامة بالنظام القيصري بينما من مصلحة البرجوازية الحفاظ على بقايا النظام واستخدامه في قمع الحركة العمالية.(ميخائيل غيللر والكسندر نكريتش. تاريخ روسيا 1917-1995. الطوباوية في السلطة. المجلد(1). موسكو، دار نشر"ميك" ، 1996).
- الاتحاد العمالي العام في ليتوانيا وبولندا وروسيا (بوند)
خلال المؤتمر التأسيسي، الذي انعقد بمدينة فيلنوس في 25-27أيلول/سبتمبر عام 1997، نشأ "الاتحاد العمالي العام في ليتوانيا وبولندا وروسيا (بوند)" كحزب اشتراكي يهودي يدعو إلى الديمقراطية وتشريك وسائل الإنتاج واتّباع التعاليم الماركسية. وقد حضره ممثلو المجموعات الاشتراكية الديمقراطية اليهودية في ليتوانيا وبولندا وبيلوروسيا. وبعد عام شارك البوند في المؤتمر الأول لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي كتنظيم له استقلاليته الذاتية في القضايا، التي تخص البروليتاريا اليهودية. وفي الأعوام 1898-1900 مارست المنظمات الحزبية التابعة للبوند النضال الاقتصادي المطلبي للعمال اليهود حيث نظمت 312 اضراباً للعمال اليهود في بولندا الروسية ("مملكة بولندا") مما ساعدها على توسيع وترسيخ نفوذها في المناطق الشمالية الغربية من الإمبراطورية الروسية.
وقد دعا البوند إلى منح يهود أوروبا الشرقية استقلالية قومية ثقافية وإنشاء منظومة تعليم علمانية. كما أعلن الحزب عن تأييده لتطوير الثقافة بلغة اليديش، التي كان يتحدث بها يهود ألمانيا وبعض البلدان المجاورة، والتي حالت دون اندماج اليهود في الثقافات الأخرى وحافظت على تمايزهم. ومن جهة أخرى وقف البونديين ضد هجرة اليهود إلى فلسطين.
نشأ حزب البوند على قاعدة حلقات التنوير وصناديق الإضرابات اليهودية، التي ظهرت في مطلع العقد الأخير من القرن التاسع عشر بالمناطق الغربية من الإمبراطورية الروسية.
وكان زعماء الماركسيين اليهود مثل تيموفي كوبلزون وأبرام موتنيك وهارون كريمير وفاسيلي بيرمان وإيساي ايزنشتادت يقومون بنشاط دعائي لاستمالة العمال والحرفيين والمثقفين إلى صفوفهم. وقد كانوا يفسرون الماركسية حسب تصوراتهم التقليدية عن الرسالة الخاصة للشعب اليهودي ويطرحون فكرة تمايز البروليتاريا اليهودية المضطهدة والمحرومة من أبسط حقوقها عن البروليتاريا الروسية وغيرها. وسبق لمارتوف أن قدم البرهان السياسي على هذه الآراء في خطاب ألقاه عام 1895 أثناء الاحتفال بعيد العمال العالمي في مدينة فيلنوس ونشر لاحقاً بهذا الصدد كتاباً بعنوان "منعطف هام في تاريخ الحركة العمالية اليهودية".
وفي مطلع القرن العشرين لجأ البوند إلى ممارسة الإرهاب رداً على أعمال السلطات القيصرية. ولكن قرارات المؤتمر الخامس للحزب (صيف عام 1903) منعت الأعضاء من القيام بأعمال إرهابية ثأرية. وقد وصل عدد أعضاء البوند في سنوات الثورة الروسية الأولى (1905-1907) إلى حوالي 34 ألف عضو حيث أصبح تنظيماً قوياً ونشيطاً في الشارع اليهودي. وفي تلك الفترة اقترب الحزب في منطلقاته التكتيكية من البلاشفة حيث أعلن تأييده لمقاطعة انتخابات الدوما الأولى وعارض تشكيل حكومة من ممثلي الكاديت. كما دعم تكتيك تحالف البروليتاريا مع الفلاحين. وفي عام 1906 قرر البوند في كونفرنسه السابع المنعقد بمدينة بيرن السويسرية الانضمام إلى حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي وسحب مطلبه الخاص باعتباره الممثل الوحيد للبروليتاريا اليهودية. وفي تلك الفترة كان البوند أقوى تنظيم اشتراكي ديمقراطي في روسيا واتسم بجودة التنسيق والانضباط وتماسك أعضائه.
وبعد انحسار الموجة الثورية في روسيا عقب ثورة عام 1905 مال البوند إلى المناشفة، الذين ارتأوا أن مطلب هذا الحزب بخصوص الاستقلالية الثقافية القومية لليهود لا يتنافى مع البرنامج القومي للاشتراكيين الديمقراطيين في روسيا بينما كان البلاشفة يعارضون ذلك أشد المعارضة.
وفي كونفرنسه التاسع المنعقد عام 1912 بفيينا دعا البوند إلى إلغاء القوانين المقيدة لتنقلات اليهود في أرجاء الإمبراطورية الروسية وإلى منحهم حق الاحتفال بيوم السبت. وهنا يصبح واضحاً تماماً طرح جماعة البوند مجدداً لمسألة الجمع بين المصالح الطبقية والمصالح القومية الدينية. وبعد وقوع الانشقاق الكامل بين المناشفة والبلاشفة في عام 1912 بقي البونديون ضمن الجناح المنشفي للأسباب المذكورة أعلاه.
أثار نشوب الحرب العالمية الأولى انشقاقاً في صفوف البوند حيث انقسمت منظماته إلى مؤيدين لدول الوفاق وإلى أنصار لألمانيا بينما شغلت قيادة الحزب مواقف وسط اليمين. ولكن الأوساط الاجتماعية اليهودية بغالبيتها أعلنت عن دعمها الحازم للتوجه الروسي. وقد دعا كونفرنس البوند المنعقد في كييف (حزيران/يونيوعام1915) العمال اليهود إلى الدفاع عن الوطن. ولكن، من جهة أخرى، شارك الحزب في مؤتمر زيميرفالد للاشتراكيين اليساريين المناوئين للحرب واعترف بمقرراته مع بعض التحفظات.
وبعد ثورة فبراير عام1917 اتسع نفوذ الحزب حيث شارك ممثلوه مشاركة فعالة في سوفيتات نواب العمال والجنود ببتروغراد وموسكو ومدن أخرى. ووقف البونديون إلى جانب الحكومة المؤقتة، التي سارعت منذ الأيام الأولى إلى إلغاء القوانين والأوامر والقرارات المقيدة لكافة نواحي الحياة الاجتماعية لليهود في روسيا.
عارض البونديون ثورة أكتوبر واعتبروا وصول البلاشفة إلى السلطة اغتصاباً لإرادة الشعب. وفي المؤتمر الثامن للحزب المنعقد في كانون 1/ ديسمبر عام 1917 قرروا المضي في مقاومة البلاشفة بالطرق السلمية والبرلمانية حيث ذهبوا إلى أن الجمعية التأسيسية كفيلة بإبعاد هؤلاء عن السلطة. وبعد قيام البلاشفة بحل هذه الجمعية وتوقيع صلح بريست مع الألمان (آذار/ مارس عام 1918) اتجه الحزب نحو العمل على الإطاحة بالسلطة السوفيتية رغم ظهور تيار معتدل يرى إمكانية خوض الصراع مع البلاشفة عبر مجالس السوفيتات.
وبحلول عام 1918 تشكلت داخل الحزب ثلاثة تيارات أحدهما يساري يدعو إلى المشاركة في أعمال السوفيتات للسعي إلى دعوة الجمعية التأسيسية ثانية. أما التيار الثاني فقد طالب أنصاره بمقارعة البلاشفة وعدم الاعتراف بالسلطة السوفيتية. وبالنسبة للتيار الثالث فإنه كان وسطياً يمثل أنصار "المعارضة البرلمانية" ضمن السوفيتات.
اعتبر البوند الصهيونية حركة برجوازية رجعية تسعى إلى صرف اهتمام الجماهير اليهودية عن الصراع السياسي في روسيا. ولم يرَ في اليهود شعباً يهودياً واحداً مما جعله ينبذ السياسة اليهودية الكونية ويحصر أهدافه في تحصيل الحقوق المدنية والاستقلالية الثقافية ليهود روسيا . كما ذهب الحزب إلى أن المشروع الصهيوني لن يؤدي إلى حل المسألة اليهودية لأن الدولة الصهيونية لن تستوعب جميع اليهود في العالم. كما أنها تفقدهم المبرر في المطالبة بحقوقهم الاقتصادية الاجتماعية والمدنية حيثما وجدوا. وأكد البوند على أن الافتراض الصهيوني بأزلية معاداة اليهودية بين الأمم الأخرى يهدف، في واقع الأمر، إلى تمييع الصراع الطبقي وعرقلة تطور المواطنة لدى اليهود وتعزيز عقلية الغيتو الانعزالية. وإلى جانب ذلك عارض البوند تدريس اللغة العبرية وشدد على ضرورة إيلاء الاهتمام باللغة اليديشية وثقافتها.
وكان هذا الحزب المنظم الرئيسي لفصائل الدفاع الذاتي، التي شكلها اليهود في روسيا لصد هجمات القوميين الروس المعادين لليهود (جماعات المئة السود).
بعد انتهاء الحرب الأهلية في روسيا هاجر إلى أوروبا الجزء الأعظم من ممثلي الجناح اليميني في البوند. أما اليساريون فقد أعلنوا حل الحزب (عام 1921) وانتسب جلَّهم إلى الحزب البلشفي. وقد شغل العديد منهم مناصب قيادية في أجهزة الدولة ثم تعرض الكثيرون منهم إلى القمع والتنكيل خلال التصفيات الستالينية الكبرى.
- حزب الاشتراكيين الثوريين
لم تتراجع الحركات الشعبوية في تلك الحقبة من تاريخ البلد رغم الخسائر، التي تعرضت لها من جراء ممارسات النظام القيصري القمعية ضدها. ففي الأسبوع الأول من كانون 2/ يناير عام 1906 ظهر في روسيا حزب ثوري ديمقراطي غير ماركسي ضمن عملية توحيد شتى الحلقات الشعبوية الجديدة ذات التوجه اليساري وهو حزب الاشتراكيين الثوريين الذي ترأسه فكتور تشيرنوف. وكان من أبرز شخصياته أيضاً نيكولاي أفكسنتيف وغريغوري غيرشوني ويفنو آزيف، الذي كان عميلاً للشرطة السرية القيصرية. وقد تطلع الاشتراكيون الثوريون إلى تحقيق الثورة الاشتراكية واعتبروا طبقة الفلاحين القوة المحركة الرئيسية لهذه الثورة.
شغل هذا الحزب مكاناً بارزاً في منظومة الأحزاب الروسية إذ كان أكبرها من حيث عدد الأعضاء والمؤيدين وأكثر نفوذاً ضمن التنظيمات الاشتراكية غير الماركسية. وقد استغرقت الأعمال التحضيرية لتأسيسه ردحاً طويلاً من الزمن وذلك بعد اندماج المجموعات والاتحادات الشعبوية مثل "اتحاد الاشتراكيين الثوريين الروس" و"مجموعة الاشتراكيين الثوريين" و"رابطة الاشتراكيين الثوريين" وغيرها ضمن حزب موحد في عام 1901. ولكن المؤتمر الأول للحزب لم ينعقد إلا في مطلع عام 1906 وذلك في جزيرة ايمارتا الفنلندية حيث جرى إقرار برنامجه السياسي ونظامه الداخلي المؤقت تحت شعار" في النضال تحصل على حقوقك". وقد انتخب المندوبون لجنة مركزية مؤلفة من خمسة أعضاء. ومن الشروط الرئيسية للعضوية قبول برنامج الحزب والخضوع لقراراته والمشاركة في إحدى منظماته. وقد نص البرنامج على إنشاء جمهورية ديمقراطية وإصدار قانون للاقتراع العام والمباشر بحيث يحق لكل مواطن بلغ العشرين من عمره انتخاب مرشحيه بصرف النظر عن الجنس والدين والقومية.
ودعا البرنامج إلى إطلاق الحريات الديمقراطية بما في ذلك حرية الضمير والتعبير والصحافة والاجتماعات والجمعيات والإضراب وضمان حصانة الفرد والمسكن. كما أكد رفض الاشتراكيين الثوريين الاعتماد المفرط على الطبقة العاملة واعتبر الحزب سنداً رئيسياً للفلاحين والعمال والمثقفين، الذين يشكلون طبقة كادحة واحدة. وفيما يتعلق بالاشتراكية فقد شدد البرنامج على الحرية السياسية والديمقراطية كمقدمة هامة لتحقيق الاشتراكية. وأشار إلى ضرورة الانتقال السلمي التدريجي إلى النظام الاشتراكي في روسيا بدون ثورة مسلحة. كما شدد على ضرورة تمتع القوميات بحكم ذاتي ضمن دولة فيدرالية وعلى حقها في تقرير مصيرها.
وكان الموقف من الفلاحين والمسألة الزراعية نواة البرنامج. فخلافاً للماركسيين، الذين ذهبوا إلى أن طبقة الفلاحين في الإمبراطورية الروسية تسير نحو الانقراض، وأن الأراضي في البلد ستكون من نصيب مالكي العقارات والأطيان الكبار بينما سيلحق الإفلاس بملايين الفلاحين الصغار، لم يأخذ الاشتراكيون الثوريون بمثل هذه التنبؤات وأعربوا عن ضرورة صون المشاعة الفلاحية، والحفاظ على نمط الحياة السائد لقرون عديدة في الأرياف، وتفهم تصورات الفلاحين التقليدية، ودعم أفكارهم، التي تؤكد على أنه لا ينبغي لأحد أن يمتلك الأرض وأن العمل فقط يتيح للمرء الاستنفاع بها. فالتشريك كان يعني إلغاء الملكية الخاصة للأراضي ولكن دون تحويلها إلى ملكية للدولة أي دون تأميمها وإنما جعلها ملكاً متاحاً لعموم الشعب مع حظر عمليات البيع والشراء.
وهكذا فقد أولى الاشتراكيون الثوريون اهتماماً بالغاً بأوضاع الفلاحين الروس، الذين كانوا يشكلون الأغلبية الساحقة من سكان البلد(80%) ، كما أعلنوا أن الفلاحين لا يؤيدون فكرة الصراع الطبقي وإنما يميلون إلى الاستقرار، الذي يمكن أن يتم من خلال التوزيع المتساوي للأراضي. وهكذا فإن مفاهيم الثورة عند حزب الاشتراكيين الثوريين اختلفت اختلافاً جوهرياً عن المناشفة والبلاشفة فلم يكن هذا الحزب يعترف بضرورة اجتياز مرحلة الثورة البرجوازية الديمقراطية، نظراً لمستوى تطور الرأسمالية الروسية وطابعها المميّز وفق اعتقادهم. وقد ذهبوا إلى أنه ليس من الضرورة حدوث ثورة برجوازية في روسيا لأنه سبق أن جرت في البلد "ثورة من الأعلى" خلال الإصلاحات الكبرى، التي قام بها القيصر الكسندر الثاني في الستينات والسبعينات. فهي، بحسب تعبيرهم، أعطت زخماً قوياً لتطور الرأسمالية إذ شهدت روسيا تحولاً من السلطة المطلقة القائمة على نظام القنانة إلى "بيروقراطية النبلاء والبرجوازيين". ورأى الاشتراكيون الثوريون أن الهاجس الرئيسي للثورة لا يكمن في الرأسمالية النامية وإنما في أزمة الزراعة. واعتبروا أن ثمة دوراً هاماً للفلاحين في الحركة الثورية إلى جانب البروليتاريا والمثقفين. وقد رفضوا الاعتراف بهيمنة البروليتاريا ولم يعتبروا الفلاحين طبقة برجوازية صغيرة.
ورغم بُعد اليهود الروس عن العمل الزراعي وطبقة الفلاحين عموماً، فعلى غرار البلاشفة والمناشفة والأحزاب اليسارية الأخرى، انحدر منهم العديد من مؤسسي وقادة هذا الحزب مثل غريغوري غرشوني وميخائيل غوتس ويفنو آزيف ومارك ناتانسون وايليا روبانوفتش وايليا فوندامنسكي(بوناكوف). كما كان عددهم كبيراً ضمن التنظيم القتالي (الإرهابي) للحزب مثل دورا بريلانت وراحيل لورييه وليبا سكورسكي وميخائيل ليفنسون وأبرام بوريشانسكي وغيرهم. ومن ضمن نشطاء الحزب البارزين نيخيميا رابيتشيف والد رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق اسحاق رابين وكذلك بينخاس روتنبورغ أحد منظمي تظاهرة يوم الأحد الدامي ببطرسبورغ في 9 كانون 2، التي أدت بعد بضعة أشهر إلى اندلاع ثورة عام 1905. وبعد هجرته إلى فلسطين كان روتنبورغ أحد مؤسسي منظمة هاغاناه العسكرية ومؤسس شركة الكهرباء الفلسطينية.
وبعد انعقاد المؤتمر الأول للاشتراكيين الثوريين انفصل عنهم تياران . وقد أدى ذلك إلى تشكيل حزبين مستقلين وهما حزب الاشتراكيين الشعبيين الممثل للتيار المعتدل وحزب اتحاد الاشتراكيين الثوريين الراديكاليين الممثل للتيار اليساري المتطرف . وقد كان أصحاب التيار الأخير يدعون إلى ممارسة الإرهاب وشن حرب عصابات في الأرياف ضد السلطات المحلية والإقطاعيين.
شهدت فترة الثورة الروسية الأولى(1905-1907) ازدياداً ملحوظاَ في عدد أعضاء هذا الحزب السياسي الفتي، الذي ما لبث أن أصبح حزباً جماهيرياً وارتفعت نسبة أفراده من العمال والفلاحين. ولكن سياسة الحزب كانت تحدد من قبل المثقفين المهيمنين على قيادته. وقد بلغ عدد المنتسبين آنذاك أكثر من 60 ألفاً. وكان تشيرنوف المنظر الرئيسي للحزب وعقله المدبِّر. وتميّز الاشتراكيون الثوريون عن بقية الأحزاب الاشتراكية باعتمادهم تكتيك الإرهاب المنتظم كوسيلة من وسائل الصراع السياسي. وقد قاموا خلال تلك الفترة (1905-1907) بـ 233 عملاً إرهابياً وراح ضحية ذلك وزيرا الداخلية دمتري سيبياغين(1902) وفياتشسلاف بليفيه(1904) و33 من حكام المقاطعات وكذلك عمّ نيكولاي الثاني الأمير الأكبر سيرغي الكسندروفتش و7 جنرالات.
قاطع الاشتراكيون الثوريون انتخابات مجلس الدوما (الدور التشريعي الأول، أبريل عام 1906) ولكنهم شاركوا في انتخابات الدوما الثانية حيث حصلوا على 37 مقعداً (من أصل 518 نائباً) ، ثم ما لبثوا أن قاطعوا انتخابات الدوما الثالثة والرابعة.
كما شارك الاشتراكيون الثوريون في تنظيم المظاهرات والفعاليات الثورية في المدن والأرياف وقطعات الجيش والبحرية. وقد أسهموا أيضاً بقسط وافر في النشاطات السياسية لمختلف النقابات والجمعيات مثل نقابة المعلمين واتحاد عمال السكك الحديدية ورابطة مستخدمي البرق والبريد. وكان مصنع النسيج "بروخورفسكايا مانيفاكتورا" بموسكو معقلهم المنيع في الأوساط العمالية. ومع ذلك فقد تكبد الحزب خسائر جسيمة من جراء ملاحقات السلطات القيصرية إذ تعرض مئات من النشطاء والأعضاء العاديين للاعتقال والنفي إلى سيبيريا. وبعد ثورة شباط/ فبراير عام 1917 تعاظم دور الحزب في الحياة السياسية العاصفة آنذاك واتسع قوامه على نحو مذهل إذ تجاوز تعداد أعضائه مليون شخص. وقد انتشرت منظماته في 62 مقاطعة بالإضافة إلى القوات المسلحة. كما حصل الاشتراكيون الثوريون على وضع مسيطر في هيئات الإدارة المحلية ومعظم التنظيمات الاجتماعية. وفضلاً عن ذلك شارك ممثلوهم في الحكومة المؤقتة (كيرنسكي – وزير العدلية ثم رئيس الحكومة، وتشيرنوف - وزير الزراعة، وأفكسنتيف - وزير الداخلية).
وفي المؤتمر الثالث للحزب (حزيران/يونيو عام 1917) تشكلت "المعارضة اليسارية" حيث أعلن ممثلوها عن خلافاتهم مع اللجنة المركزية المؤيدة لاستمرار مشاركة روسيا في "الحرب الإمبريالية" وطالبوا بإدانتها والخروج منها ووقف التعاون مع الحكومة المؤقتة ودعوا إلى الحل السريع للمسألة الزراعية طبقاً لبرنامج الحزب القاضي بتسليم الأراضي إلى الفلاحين. وفي المحصلة انشق الاشتراكيون الثوريون إلى تيارين متعارضين- الجناح المركزي، الذي كان يضم فكتور تشيرنوف والكسندر كيرنسكي، والجناح اليساري برئاسة ماريا سبيريدونوفا الذي تحالف لاحقاً مع البلاشفة.
وكانت صحيفة" نارودنييه ديلو"( قضية الشعب) لسان حال الحزب. وقد وصل عدد نسخها إلى 300 ألف نسخة. أما صحيفة " نارودنايا فولا"( إرادة الشعب) الصادرة بسانت بطرسبورغ فكانت تعبر عن مواقف وآراء الجناح اليميني للحزب في حين كانت صحيفة " ترود" تصدر عن منظمة الحزب في موسكو .
وكان الحزب يقوم في موسكو بإصدار صحيفة "زمليا إي فوليه" (الأرض والإرادة) المخصصة للفلاحين. أما صحيفة "زناميه ترودا "(بيرق العمل) الصادرة ببطرسبورغ فكانت لسان حال الجناح اليساري. وإلى جانب ذلك كانت اللجنة المركزية للحزب تصدر مجلة" بارتينييه نوفوستي" (الأخبار الحزبية).
حقق الاشتراكيون الثوريون نجاحاً باهراً في انتخابات الجمعية التأسيسية، التي جرت بعد أسبوعين من ثورة أكتوبر البلشفية، حيث حصلوا على أكثر من 20 مليون من أصوات الناخبين (370 نائباً) بينما نال البلاشفة زهاء 10 ملايين صوت (175 نائباً). ولكن على الرغم من ذلك فإنهم وجدوا أنفسهم عاجزين عن مواجهة البلاشفة، الذين اغتصبوا السلطة في البلد. ولم يتسن للحزب تنظيم مواجهة ناجعة ضد النظام البلشفي الدكتاتوري.
أما الاشتراكيون الثوريون اليساريون فقد تحالفوا لفترة قصيرة مع البلاشفة وحصلوا على 7 حقائب وزارية في التشكيلة الثانية لحكومة لينين (24/11/1917). ولكنهم اختلفوا مع حلفائهم البلاشفة بخصوص شروط صلح بريست- ليتوفسك. وآنذاك أي في 6-7 تموز/ يوليو عام 1918 سحق البلاشفة تمردهم بموسكو ضد صلح بريست فانتقل حزب الاشتراكيين الثوريين بمجمله إلى النشاط السري.
وخلافاً للبلاشفة تميز أعضاء هذا الحزب بضعف الانضباط في أعمالهم وانعدام الخطط الملموسة فضلاً عن انتساب عناصر غير متجانسة إلى الحزب.
- حزب الاشتراكيين الشعبيين
نشأ هذا الحزب أثناء اندلاع ثورة عام 1905 وكان يضم بصورة أساسيية مثقفي المدن الروسية الكبرى. وقد كان الحزب الوحيد ضمن الأحزاب القريبة من الشعبويين، الذي رفض الإرهاب كوسيلة للنضال السياسي. وقد بلغ عدد أعضائه في نوفمبر عام 1907 حوالي الألفين وكان هؤلاء يمثلون 56 منظمة محلية. والمعروف أن منظري الحزب البارزين كانوا من الشعبويين العلنيين النابذين لشتى أشكال العنف في الصراع السياسي ومنهم البروفسورات والكتاب الصحفيون مثل نيكولاي آنينسكي و فينيدكت مياكوتين وفيودور كروكوف وسيرغي ايباتوفسكي.
وقد نص برنامج الحزب على اعتماد طريق خاص نحو الاشتراكية يتخطى المرحلة الرأسمالية ويستند على المشاعية الزراعية. وكان له في الدوما الثانية 14 نائباً تسنى لهم أن يشكلوا هناك كتلتهم المستقلة. ولكن بعد قيام القيصر بإصدار النظام الانتخابي الجديد خلافاً للمادة 87 من لائحة القوانين الأساسية للدولة وحل الدوما الثانية (انقلاب الثالث من حزيران/يونيو عام 1907) لم يعد للحزب وجود.
وعقب ثورة فبراير عام 1917 انبعث الحزب من جديد وأعلن تأييده للحكومة المؤقتة. وفي 21-23 حزيران/يونيو من العام نفسه اتحد الاشتراكيون الشعبيون مع مجموعة العمل (ترودوفيكي). وقد توقف نشاط الحزب كلياً في مطلع عام 1918.
- التنظيمات السياسية الفوضوية (الأناركية)
يمكن تقسيم هذه التنظيمات إلى ثلاثة تيارات وهي:
1- تيار الشيوعية الفوضوية. وقد وضع أصحاب هذا التيار نصب أعينهم إقامة نظام جديد على شكل الشيوعية الأناركية ومن أبرز تنظيماتهم " مجموعة العمال الشيوعيين الأناركيين الروس"، التي تزعمها العالِم الجغرافي والمؤرخ المعروف بيوتر كروبوتكين.
2- تيار الأناركية السنديكالية (النقابية). أخذ أنصار هذا التيار بتعاليم بيير جوزيف برودون وميخائيل باكونين. وقد تجلى هدفهم الأساسي في التحرر التام من كافة أشكال الاستغلال والسلطة المركزية وإنشاء اتحادات مهنية للشغيلة. ومن بين زعماء التيار المذكور ياكوف كيريلوفسكي.
3- تيار الأناركية الفردية. يدعو هذا الاتجاه إلى حرية الفرد المطلقة. وقد كان يمثله في روسيا مثقفون إنسانويون أبرزهم الفيلسوف والخبير الاقتصادي ألكسي بوروفوي والرسام إسحاق برودسكي وواضع نظرية الأناركية الصوفية الشاعر غيورغي تشولكوف.
اعتبر الأناركيون الدولة رمزاً للسيطرة والاستغلال ودعوا إلى ثورة اجتماعية تحطم السلطات السياسية والاقتصادية، وتؤدي إلى إنشاء مجتمع غير مركزي قائم على التعاون الطوعي للأفراد الأحرار عبر التسيير الذاتي كبديل عن الدولة وذلك في ضوء تعاليم برودون وباكونين وكروبوتكين.
ويلتقي الأناركيون مع الفكر الاشتراكي وخاصة التيار الراديكالي في معارضتهم للملكية الخاصة (رغم وجود مواقف مختلفة تجاه ذلك)، ورفضهم للنظام الرأسمالي القائم وعزمهم الدفاع عن حقوق الفئات الكادحة. ولكنهم، من جهة أخرى، كانوا يقفون في مواقع الليبرالية من حيث إعلاء شأن الفرد وتحريم تدخل الدولة في أمور الإنسان العاقل بطبيعته.
في دوامة الأحداث الثورية لعام 1917 والحرب الأهلية الروسية سعى الأناركيون إلى تحقيق برنامجهم وخاصة في أوكرانيا حيث سيطر الزعيم الأناركي نستور ماخنو على معظم أراضيها. ولكنه مني بالهزيمة في نهاية المطاف. وقد تسنى للبلاشفة إزاحة الأناركيين من الحلبة السياسية.
- الحزب الدستوري الديمقراطي ("حزب حرية الشعب")
كان هذا الحزب من الأحزاب الرئيسية في روسيا خلال الفترة الواقعة بين عامي 1905 و1917 وجرت العادة على تسميته بحزب الكاديت.
أصبح اتحاد المزارعين الدستوريين ورابطة التحرير، وهما تنظيمان شبه علنيين، نواة الحزب الجديد. وقد ظهر كلاهما في عام 1903 حيث قام بإنشاء التنظيم الأول رجالات مجالس الأرياف المنتخبة (الزيمستفو) من أوساط الشخصيات الليبرالية وذلك من أجل إعداد فعاليات منسّقة لأنصار إعلان الدستور خلال مؤتمرات الزيمستفو. ومن اللافت أن الدور الرئيسي في هذا الاتحاد المعارض للسلطة كان يعود إلى أناس من قمة الطبقة الأرستقراطية مثل الأمير دميتري شاخوفسكي وبيوتر دولغوروكي وشقيقه بافيل المنحدران من سلالة روريكوف القيصرية، التي حكمت روسيا قبل اعتلاء آل رومانوف العرش الروسي. وقد كان هؤلاء جميعهم من أغنى ملاكي الأراضي في البلد.
أما رابطة التحرير فإنها حصلت على هذه التسمية من مجلة "التحرير"، التي كانت تصدر بمدينة شتوتغارد الألمانية بإشراف بيوتر ستروفيه. وقد قام بتأسيس الرابطة عشرون من شخصيات الزيمستفو والمثقفين الليبراليين، الذين اجتمعوا متظاهرين بأنهم مجرد مجموعة سياحية تمتع ناظريها بمشاهدة بحيرة بودين في سويسرا.
وقد انعقد المؤتمر التأسيسي للحزب الدستوري الديمقراطي في أكتوبر عام 1905 وانتخب لجنة مركزية برئاسة الأمير بافيل دولغوروكي وعضوية شخصيات سياسية بارزة مثل بافيل ميلوكوف وفلاديمير نابوكوف (والد الكاتب الشهير نابوكوف) وبيوتر ستروفيه وفاسيلي ماكلاكوف وأندريه شينغاريوف وغيرهم. ودعا برنامج الحزب إلى إحداث تحولات سياسية واجتماعية عميقة بالطرق البرلمانية السلمية حصراً بدون ثورات وعنف وإراقة دماء. وقد نص هذا البرنامج على حرية التعبير والصحافة والمعتقدات الدينية والاجتماعات والمنظمات الأهلية وحصانة الفرد والمسكن واستقلالية القضاء، وكذلك حق الإضراب، والاقتراع العام، وتسليم الفلاحين أراضي الدولة بالمجان، وتحديد يوم عمل من 8 ساعات، والتعليم الابتدائي المجاني والإلزامي. كما طالب البرنامج بمنح فنلندا وبولندا الحكم الذاتي وإقامة نظام فيدرالي في روسيا.
وكان الحزب يصدر صحيفة "ريتش" ومجلة " بشير حزب حرية الشعب". وقد شغل نوابه وضعاً مهيمناً في الدورين التشريعيين الأول والثاني لمجلس الدوما. وخلال الحرب العالمية الأولى دعم قادة الكاديت سياسة الحكومة وكانوا من المبادرين إلى إنشاء الكتلة التقدمية.
وبعد ثورة فبراير عام 1917 شكّلوا الأغلبية في القوام الوزاري للحكومة المؤقتة الأولى. ولكن عقب ثورة أكتوبر قام البلاشفة على الفور بحظر نشاط هذا الحزب، الذي كان يمثل التيار اليساري في الليبرالية الروسية. ومن اللافت أنه سُمّي بـ "حزب البروفسورات" نظراً للمستوى التعليمي والثقافي الرفيع لأعضائه العاديين. وقد طرح الديمقراطيون الدستوريون على روسيا حلولاً دستورية وقيماً ليبرالية مجرَّبة منذ وقت طويل في الدول البرلمانية. غير أن هذه القيم والمثل لم تكن تتمتع برواج واسع في المجتمع الروسي مما سبب مأساة حقيقية للحركة الليبرالية الروسية.
- رابطة 17 أكتوبر("الأكتوبريون")
تأسس هذا الحزب في خريف عام 1905، عقب إصدار القيصر نيكولاي الثاني لمانيفيست 17 أكتوبر، وذلك كحزب يميني معتدل يمثل مالكي الأراضي ورجال الأعمال وكبار الموظفين. وحسب تعبير رئيسه الكسندر غوتشكوف فهو حزب ليبرالي محافظ يمثل الجناح الأيمن لليبرالية الروسية ويتمسك بالآراء الدستورية المعتدلة والنابذة للثورات. وقد بلغ عدد أعضائه في سنوات الثورة الروسية الأولى (1905-1907) حوالي 75 ألفاً. وانصب نشاط الأكتوبريين على العمل البرلماني. وكانت تصدر باسم الحزب صحيفة " صوت موسكو". وقد نص المانيفست المذكور على مايلي:
1- تقييد سلطة القيصر.
2- الإبقاء على نظام السلطة الملكي.
3- منح حرية التعبير والاجتماعات والجمعيات والتنقل والمعتقدات الدينية.
4- الحفاظ على روسيا موحدة وغير قابلة للتجزئة.
5- المساعدة على شراء الفلاحين للأراضي من المالكين.
6- وضع معايير ليوم العمل.
7- رفض إمكانية منح الحكم الذاتي لأقاليم معينة من الإمبراطورية باستثناء فنلندا.
8- مساواة الفلاحين في الحقوق مع الطبقات الأخرى.
وفي انتخابات الدوما الأولى، التي جرت أواخر عام 1905، حصل الأكتوبريون على 16 مقعداً ثم ما لبث أن وصل هذا العدد إلى 43 مقعدا في الدوما الثانية (فبرايرعام1907). أما في الدوما الثالثة (نوفمبرعام1907) فقد نالوا أغلبية المقاعد حيث ضمت كتلتهم 154 نائباً (من أصل441 نائباً). وقد تعاقب ممثلو الحزب نيكولاي خومياكوف والكسندر غوتشكوف وميخائيل رودزيانكو على رئاسة مجلس الدوما. وفي الدوما الرابعة والأخيرة (نوفمبرعام 1912) شكلت كتلة الأكتوبريين 98 نائباً (من أصل 442 نائباً) وترأس الدوما رودزيانكو. وقد كانت هذه الكتلة البرلمانية تتحالف في معظم الأوقات مع كتلة الكاديت وارتبطت بعلاقات جيدة مع رئيس الوزراء بيوتر ستوليبين. وفي عام 1913 انشق الحزب إلى ثلاث مجموعات مما أدى إلى إضعاف مواقعه وانضمام بعض نوابه إلى كتلة التقدميين ثم زواله تدريجياً من مسرح السياسة الروسية. ومع ذلك فقد لعب بعض رجاله البارزين مثل غوتشكوف ورودزيانكو وايفان غودنيف دوراً كبيراً في حياة البلد السياسية لغاية تشرين الأول/أكتوبر عام 1917.
- حزب التقدميين 1912 -1917
شغل هذا الحزب موقعاً وسطياً بين الكاديت و"رابطة 17 أكتوبر" وشكل نواته الأعضاء السابقون في كتلة التقدميين بالدوما الثالثة (36 نائباً). وكان من زعمائه أحد كبار مالكي الأراضي في مناطق الدون ايفان يفريموف ورجال أعمال كبار وصناعيون معروفون من عداد الانتلجنسيا مثل الكسندر كونوفالوف والشقيقان بافيل وفيدور ريابوشينسكي وغيرهم. وكان نواب الحزب يصوتون غالباً إلى جانب النواب الأكتوبريين والكاديت في مجلس الدوما ويحثون الحكومة على التعجيل بالإصلاحات وتحقيق الحريات المدنية، حيث كانوا واثقين من أن التضييق عليها يؤدي إلى الثورات وعربدة العنف والفوضى. ومن أهم بنود برنامج هذا الحزب المطالبة بأن تكون الحكومة مسؤولة أمام الدوما وأن يتم توسيع دائرة الناخبين بحيث يصل الأمر إلى الاقتراع العام. وكان للتقدميين كتلة مرموقة في الدوما وصل عددها إلى 48 نائباً.
ومنذ بداية الحرب العالمية الأولى أعلن الحزب تأييده للحكومة، وخاصة فيما يتعلق بحملة مناهضة "الهيمنة الألمانية" في البلد. كما دعا إلى منح بولندا وفنلندا حكماً ذاتياً وعرض آراءه ومواقفه في "فيسنيك يفروبي" (بشير أوروبا) و"روسكايا ميسل" (الفكر الروسي)، وكذلك في الصحيفتين "روسكيه فيدوموستي" (الوقائع الروسية) و"روسكويه أوترو"(صباح روسيا).
لعبت كتلة التقدميين دوراً فعالاً أثناء ثورة فبراير حيث دخل كونوفالوف ورجيفسكي في قوام لجنة مجلس الدوما المؤقتة وترأس الأمير لفوف الحكومة المؤقتة، التي شارك فيها كونوفالوف وبوسنيكوف. وأدت هذه الثورة إلى زوال الاختلافات المنهجية والتكتيكية بين شتى الأحزاب الليبرالية. وقد بدأت على قاعدة حزب الكاديت عملية تلاحم كافة القوى الليبرالية، وانضم إليه الأكتوبريون اليساريون والتقدميون بما في ذلك كونوفالوف. وسعى جزء من التقدميين إلى الحفاظ على استقلالية حزبهم. ففي نيسان/أبريل عام 1917 بدلوا تسميته فأصبح يسمى بالحزب الراديكالي الديمقراطي وأعلن أعضاء الحزب تأييدهم لإقامة جمهورية فيدرالية ذات نظام رئاسي. وتزعم التنظيم السياسي الجديد ايفان يفريموف والبروفسور دميتري روزسكي.
- حزب الإصلاحات الديمقراطية
ظهر هذه الحزب في كانون2/يناير عام 1906وقد أسسه مجموعة من أعضاء الكاديت، الذين اعتبروا أن برنامجه اتسم بصبغة يسارية ملفتة للنظر. ومن أبرز شخصيات هذا الحزب العالم الاقتصادي والحقوقي البارز مكسيم كوفاليفسكي والكاتب قسطنطين أرسينييف والمؤرخ ميخائيل ستاسيوليفتش. والجدير بالذكر أن عدد أعضاء هذا الحزب لم يتجاوز الألفين. وقد كان له في الدوما الأولى أربعة نواب ثم اقتصر الأمر في الدوما الثانية على نائب واحد. وفي أواخر عام 1907 انضم إلى حزب التحديث السلمي.
- حزب التحديث السلمي
قام بتأسيسه هذا الحزب اليميني الليبرالي في تموز/يوليو عام 1906 شخصيات يسارية من أعضاء حزب الأكتوبريين (بيوتر غيدين ودمتري شيبوف وميخائيل ستاخوفتش وغيرهم) وأعضاء الكاديت اليمينيين السابقين (نيكولاي لفوف ويفغيني تروبتسكوي إلخ.).
وقد كان هذا الحزب من أنصار الملكية الدستورية، التي ينبغي أن تُتخذ فيها القرارات أو تُلغى لدى الموافقة المتبادلة بين البرلمان والقيصر، وكان الحزب يدعو إلى إنشاء برلمان مؤلف من مجلسين – مجلس منتخب من قبل مواطنين متساويين في الحقوق ومجلس أعلى يضم أعضاء هيئات الإدارة المحلية. ووفقاً لرؤية الحزب فإن السلطة التنفيذية الممثلة بمجلس الوزراء ينبغي أن تكون مسؤولة أمام البرلمان.
ويضم برنامج الحزب ما يلي :
- المساواة بين جميع المواطنين بصرف النظر عن الجنس والقومية والدين.
- حرية المعتقدات الدينية.
- حرية التعبير وتشكيل التنظيمات والتجمعات.
- حرية التنقل داخل البلاد والسفر إلى الخارج.
- حصانة الفرد والمسكن.
- حق الحصول على الحماية القانونية وإلغاء حكم الإعدام.
وقد أولى الحزب اهتماماً خاصاً لقضايا التعليم حيث طالب بمنح الجامعات استقلالاً ذاتياً وإلغاء القيود على انتساب الفتيات للجامعات وفرض التعليم الابتدائي الإلزامي تدريجياً.
ودعا الحزب إلى إعادة النظر في تشريع العمل بغية حماية مصالح الشغيلة، والسماح بالإضرابات فضلاً عن تقليص يوم العمل وتحسين ظروفه وكذلك استحداث التأمين التقاعدي الإلزامي والضمان الصحي والتأمين على إصابات العمل في المصانع والمنشآت الأخرى.
وفي الميدان الزراعي نص البرنامج على تقييد الملكية الزراعية الكبرى وتمليك الأراضي الزراعية للفلاحين الفقراء والمعدومين. وقد كانت تصدر باسم الحزب صحيفة"سلوفو" ومجلة" موسكوفسكي يجيندلنيك".
وخلال عمل الدوما الثالثة (نوفمبر1907) اتحد الحزب مع حزب الإصلاحات الديمقراطية في تكتل "التقدميين" الذي أصبح نواة حزب التقدميين.
- التيار القومي المحافظ :
ظهر هذا التيار أثناء ثورة عام 1905 وتوقف نشاطه في عام 1917 وقد ضم أحزاباً وتنظيمات سياسية عديدة كانت تدعو إلى الحفاظ على السلطة القيصرية المطلقة استناداً إلى الصيغة الثلاثية التقليدية : " الأرثوذكسية - الحكم القيصري - الشعب".
ومن أبرز تنظيمات هذا التيار حزب "اتحاد الشعب الروسي"، الذي تأسس هذا الحزب في عام 1906. وقد شمل نظامه الداخلي أهدافه وإيديولوجيته وبرنامجه حيث أُشير إلى أن الهدف الرئيسي يكمن في تطوير الوعي القومي الروسي وتوحيد جميع الروس للقيام بالعمل المشترك لما فيه خير الإمبراطورية الروسية. وجاء شعار الحزب في الصيغة الثلاثية المذكورة آنفاً.
وقد دافع الحزب عن مبدأ السلطة للقيصرية المطلقة ونبذ المبادئ الدستورية والبرلمانية. كما أنه وضع أمامه هدف التقارب بين القيصر والشعب عبر التحرر من التحكم البيروقراطي في الحكومة ومؤسساتها والعودة إلى المفهوم التقليدي المتمثّل في الدوما باعتبارها هيئة جامعة. وأوصى النظام الداخلي للحزب باحترام حق التعبير وحرية الصحافة وحصانة الفرد ضمن الحدود التي ينص عليها القانون.
أما بالنسبة للمسألة القومية فقد عارض الحزب منح الأقاليم القومية حق تقرير المصير في أي حال من الأحوال. ومن جهة أخرى فإنه تمسّك بحصانة الملكية الخاصة مما يشير إلى رفضه القاطع لكافة أشكال مصادرة أراضي الإقطاعيين. وفيما يخص قطاعي التجارة والصناعة فقد دعا " اتحاد الشعب الروسي" إلى قيام الدولة بإسداء المساعدة لرجال الأعمال الروس وتوطيد القطاع الخاص الوطني مع حماية الماليين الروس من الخضوع للبنوك الأجنبية.
وكان زعماء هذا الحزب يشعرون بقلق بالغ إزاء اتساع نطاق أنشطة المنظمات اليهودية في السياسة عامة وفي الحركة الثورية بشكل خاص. وقد ضم "اتحاد الشعب الروسي" من 35 إلى 40 ألف عضو وكان أضخم تنظيم سياسي بعد حزب الاشتراكيين الثوريين.
وضمن التنظيمات الأخرى للتيار القومي المحافظ "الحزب الملكي الروسي" و"اتحاد الملاك ميخائيل" و"جماعة المئة السود". وفيما بعد صار يُقصد بتسمية جماعة المئة السود توسعاً جميع السياسيين اليمينيين المتطرفين. وكان أعضاء هذه التنظيمات يمثلون شتى طبقات وشرائح المجتمع الروسي آنذاك. فكان منهم أرستقراطيون وكهنة أرثوذكس وتجار وحرفيون وقوزاق ورجال شرطة وعمال وفلاحين ومثقفون. وقد تراوح عدد أعضاء هذه التنظيمات بين 60 ألف ومئة ألف شخص. وكان لها نواب في مجلس الدوما ومن أشهر زعمائها فلاديمير بوريشكيفتش ونيكولاي ماركوف والكسندر دوبروفين والمطران أنتوني (خرابوفسكي). ومن الطبيعي أنها كانت تتمتع بدعم معنوي ومادي من قبل الحكومة.
- حزب اتفاق المسلمين
قام التجديديون بتأسيس هذا الحزب في عام 1905 كأول تنظيم سياسي إسلامي في روسيا. وقد كان للحزب فروع في حوض الفولغا والقرم والأورال والقوقاز وسيبيريا وتركستان. وأدرج في برنامجه عدة أهداف مثل إجراء تحولات ليبرالية وتوحيد مسلمي روسيا دون التمييز في الوضع الاجتماعي والانتماء القومي. ولكن لم يستمر نشاط الحزب أكثر من عامين.
جرى تأسيس التنظيم المذكور خلال الكونغرس الأول لمسلمي روسيا المنعقد في 15 آب/ أغسطس عام 1905 بمدينة نيجني نوفغورود. وقد شاركت في أعماله وفود من القرم وشمال القوقاز وجنوبه وكذلك من قازان وتركستان وسيبيريا. وفي ختام الكونغرس هيمن التيار المعتدل، وتقرر اعتبار التنظيم الوليد رابطة إسلامية عوضاً عن الحزب السياسي. ووضع الكونغرس نصب عينيه تحقيق الأهداف التالية:
أ- أ- جمع مسلمي روسيا في حركة واحدة.
ب- ب- إقامة نظام ملكي دستوري قائم على أساس التمثيل التناسبي للقوميات.
ت- ج- مساواة المسلمين والسكان الروس في الحقوق وإلغاء القوانين والممارسات الإدارية القائمة على التمييز ضد المسلمين.
ث- د- تطوير الثقافة والتعليم في أوساط المسلمين.
لدى انعقاد الكونغرس الثالث في عام 1906 تقرر تحويل "اتفاق المسلمين" إلى حزب يمثل مصالح المسلمين في الإمبراطورية الروسية. وقد جاء برنامج الحزب شبيهاً ببرنامج الكاديت مع التركيز على قضايا المساواة الدينية والقومية بين الروس والمسلمين. والجدير بالذكر أن الحزب كان ممثَّلاً في الدورة التشريعية الأولى لمجلس الدوما (أيار/مايو عام 1906) بأربعة نواب.
- حركة "عمال صهيون": تشكلت المجموعة الأولى من هذه الحركة خلال العامين 1900-1901 في مدينة يكاتريسلاف بمبادرة من الكاتبين الصحفيين بير بوروخوف وشمعون دوبين. وفيما بعد ظهرت حلقات عديدة في وارسو وفيلنوس وفيتبسك واوديسا ومدن اخرى. وقد دعا الجزء الأكبر منها إلى إنشاء دولة يهودية مستقلة في فلسطين بينما اعتبر الجزء الأصغر امكانية بناء دولتهم في اوغندا أو بلاد الرافدين. وقد اعتمدت بعض الحلقات الفكر الماركسي بينما تبنت الأخرى الشعبوية.
في عام 1904 نشأت بروسيا على أساس حلقات "عمال صهيون" ثلاثة أحزاب وهي: حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي اليهودي وحزب العمال الاشتراكي اليهودي وحزب العمال الإقليمي اليهودي. ولكنها خلال مؤتمر زيوريخ المنعقد في آب/أغسطس عام 1905 اتحد أنصار إقامة دولة يهودية بفلسطين في حزب واحد وهو حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي اليهودي"عمال صهيون". تبنى هذا الحزب المبادئ الماركسية مع التركيز على الفكرة القومية بحيث جمع بين الاشتراكية والصحوة القومية اليهودية. وفي خضم الثورة الروسية الأولى وصل عدد اعضاء الحزب عام 1906إلى 16 ألفاً. وقد ضم "عمال صهيون" في قوامه بصورة رئيسية الحرفيين والعمال.
ونص الهدف البعيد لبرنامج الحزب على تشريك وسائل الإنتاج وبناء مجتمع يستند إلى المبادئ الاشتراكية. أما الهدف القريب فتجلى في المطالبة بإنشاء حكم ذاتي إقليمي بفلسطين على أسس ديمقراطية. وفي ضوء ذلك عمل الحزب على تنظيم عملية الهجرة العفوية اليهودية إلى فلسطين. كما شارك في المؤتمرات الصهيونية الدولية.
في العامين 1906-1907 كان" عمال صهيون" يصدر صحيفة" اليوميات العمالية االيهودية"(بولتافا) ومجلة" المطرقة"(سيمفيروبل) إلى جانب بعض الدوريات باللغة اليديشية مثل " الكلمة العمالية اليهودية" (وارسو) و"الفكر البروليتاري" (فيلنوس) ومجلة" إلى الأمام".
شارك أعضاء "عمال صهيون" مشاركة فعالة في أحداث ثورة عام 1905. وقد انخرطوا في قوام لجان الإضرابات ومجموعات الدفاع الذاتي التي بلغ تعدادها زهاء 8 آلاف شخص في شتى مدن الإمبراطورية الروسية.
قاطع الحزب انتخابات الدوما الأولى بينما شارك في أعمال الدوما الثانية حيث تعاون مع حزب الكاديت. غير أنه شهد أزمة عميقة بعد إخفاق ثورة عام 1905 حيث تقلص عدد أعضائه إلى حد كبير، ثم ما لبث عقب المد الثوري الجديد في بداية الحرب العالمية الأولى أن عزز مواقعه. وقد وقف أثناء الحرب إلى جانب الاشتراكيين الأمميين الذي أدانوها واعتبروها حرباً إمبريالية.
عارض الحزب ثورة أكتوبر ولكنه، من جهة أخرى، نبذ استخدام العنف ضد البلاشفة. وقد عقد أماله على الجمعية التأسيسية. وفي الوقت نفسه شارك بأوكرانيا في أعمال الرادا المركزية وساهم في تشكيل الرادا البيلوروسية،. ومع ذلك طرد نواب"عمال صهيون" من جميع السوفيتات في حزيران /يونيو عام 1918 شأنهم شأن نواب المناشفة والاشتراكيين الثوريين. غير أنه استمر في نشاطه العلني. وفي بداية الحرب الأهلية أعلن الحزب التعبئة العامة لجميع أعضائه، الذين لا يتجاوز أعمارهم 30 عاماً، للانخراط في صفوف الجيش الأحمر.
وعقب تأسيس الأممية الشيوعية (الكومنترن) روج "عمال صهيون" على نحو فعال لفكرة التغلغل في الشرق الأوسط عبر هياكل هذه المنظمة الشيوعية الدولية. كما انضم في عام 1920 إلى الرابطة الشيوعية العالمية اليهودية.
تعرض" عمال صهيون" خلال الأعوام 1917-1922 إلى عدة انشقاقات. وتحت ضغط الحزب الشيوعي الروسي (البلاشفة) تخلى عن الإيديووجيا الصهيونية وانتهى به الأمر أخيراً إلى أن يحل نفسه في عام 1922. ومع تأسيس الاتحاد السوفيتي في أواخر العام المذكور آنفاً لم يبق في البلد سوى حزب واحد وهو الحزب الشيوعي السوفيتي الحاكم.
1233 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع