الجسر العتيق بالموصل.. تاريخ حافِل بالأَحْداث- الجزء الأول

 الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط

أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل



الجسر العتيق بالموصل.. تاريخ حافِل بالأَحْداث- الجزء الأول

مدينة الموصل هي مركز محافظة نينوى شمالي العراق، وهي ثانية كبرى المدن العراقية بعد العاصمة بغداد.

لقد عُرفت الموصل بهذا الاسم بِسببِ موقعها الاستراتيجي وذلك لكونها ملتقى طرق عدة تصل الشرق بالغرب، فكانت الموصل هي حلقة الوصل بين طرق التجارة العالمية وتقع على طريق الحرير. وفي العصر الحالي ازدادت أهمية موقع الموصل وذلك لأن أجواء الموصل هي "محطة رئيسة" في مشروع الطريق الدولي الجوي الاستراتيجي "طريق الحرير الجديد" الرابط بين قارتي آسيا وأوروبا.

لقد استوطن البشر منذ القِدم في السهل الممتد شرقي مدينة الموصل، وخاصة في ملتقى نهري الخوصر ودجلة في الجانب الأيسر من الموصل وذلك لخصوبة الأرض ولمرور القوافل التجارية بتلك المنطقة. وقامت حضارات وشواهد تاريخية فخمة على جانبي نهر دجلة الأيسر والأيمن في منطقة الموصل.

عُرفت الموصل في قديم الزمان باسم (الحُصنين): ويقصـد بهما (الحُصن الشرقي) المُقام على (تل التوبة) المجاور حاليا لجامع النبي يونس عليه السلام وامتداده في الساحل الأيسر من الموصل، والذي تقع عليه أثار نينوى القديمة التي اتخذها الآشوريون عاصمةً لهم عام 1080 قبل الميلاد. والحُصن الثاني هو (الحُصن الغربي) الذي تقع بجواره مدينة الموصل القديمة، والتي بُنيت على (تل القليعات)، وقد ذكر العرب الموصل بهذا الاسم في أيام الفتح الإسلامي.

 

الجسر الخشبي العائم:
في العصر الحديث كان يربط بين ضفتي نهر دجلة جسر خشبي عائم ومتحرك يعود إلى العهد العثماني، حيث كان يتم فصل الجزء الثابت عن الجزء المتحرك من الجسر عند حلول الظلام ويعاد ربطه في صباح اليوم التالي حفاضا على أمن المدينة.

وكان سكان الناحية الشرقية من دجلة ومن سهل نينوى يتوافدون إلى الجسر الخشبي صباحا لبيع محاصيلهم الزراعية ومنتجاتهم الحيوانية في منطقة (باب الجسر) وسوق الميدان والأسواق العديدة المجاورة له، مثل سوق المعاش وباب السراي وسوق باب الطوب.

 

طابور أبو شخّاطة:
من الذكريات المرّة عن الجسر الخشبي حدث تأريخي يذكره أهل الموصل بمرارة، وهو ما يُعرف باسم ( طابور أبو شخّاطة). فخلال الحرب العالمية الأولى، وبعد إعلان النفير العام في الدولة العثمانية، تم التجنيد الإلزامي لكل من يقدر على حمل السلاح للمشاركة في جبهات القتال.

ففي يوم الأربعاء الموافق 26 آب 1914، وبعد صلاة العشاء، تم تجميع الجنود الموصلين على الضفة الثانية لنهر دجلة بجوار الجسر الخشبي من أجل أن يبقى الأمر بعيدا عن معرفة الناس لأجل سوقهم للسفر إلى حلب، للمشاركة في جبهات القتال الغربية مع الجيوش العثمانية.

إلا أن الخبر سرعان ما انتشر وعلم الناس بموعد مغادرة الجنود، فبدء الناس يتوافدون على الجسر ويعبروه وقد أشعلوا أعواد الشخّاط وحملوها بأيديهم لكي يتعرفوا على وجوه الجنود من أبنائهم وإخوانهم لتوديعهم وهم يُساقون إلى آتون الحرب، وقد اُطلق على هذه القوة العسكرية باسم (طابور أبو شخّاطة).

لقد رافقت عملية توديع الناس لأبنائهم ضجة كبرى وبكاء وعويل النساء، وقد تحرك الطابور ليلا إلى حلب عن طريق (فيش خابور). ولم يعد من أولئك المُساقون بعد الحرب إلا نفر قليل والأغلبية منهم ماتوا وفُقدوا في الحرب.

الجسر الحديدي:
نتيجة لهزيمة الجيش العثماني في حربهم ضد الحلفاء، فقد دخل الإنكليز الموصل سنة 1918 بدون قتال بعد الهدنة. وقد قامت السلطات العسكرية المحتلة بجوار الجسر الخشبي بتشييد جسر عائم محكم مربوط بعوامات ثقيلة واسلام فولاذية عائمة فوق العوامات الخشبية لمقاومة مياه الفيضان عند اشتداده، وقد ظل هذا الجسر يقاوم لطمات الأمواج وشدة جريان المياه لبضع سنين.

وفي سنة 1921 انتقلت الموصل إلى عهد الحكم المدني تحت ظل الانتداب البريطاني. وظهرت الحاجة الماسة لضرورة انشاء جسر حديدي ثابت يربط كلتا الضفتين.

فقررت السلطات المختصة القيام بمهمة إنشاء جسر عصري وعهدت بتنفيذه إلى مديرية الأشغال العامة. فقامت المديرية بذلك وشرعت أولا بسير غور قعر النهر، وبعد أن عيّنت الموقع ودرست الطريقة التي يجب أن يُنشأ بموجبها الجسر. كما درست حجم الهيكل الحديدي الذي يجب تشييده.


لقد كان الموقع المُختار للجسر الجديد يقع على بعد نحو خمسين مترا شمال الجسر الخشبي الذي كان يقع أمامه ساحة الكمرك في منطقة (باب الجسر)، حيث كانت تلك المنطقة منطقة تجارية شعبية للبيع والشراء لمختلف المواد الغذائية والمنتجات الزراعية.

لقد باشرت مديرية الأشغال العامة بالعمل بالجسر في أوائل سنة 1932، وأكملت إنجاز تشييد الجسر في شهر حزيران 1934. وقد قام المغفور له جلالة الملك غازي الأول (1912 - 1939) بافتتاح الجسر عصر يوم الأحد العاشر من حزيران سنة 1934 أمام حشد كبير من المواطنين في مشهد تاريخي مشهود، وقد أطلق على الجسر تسمية (جسر الملك غازي).

لقد قابل أهل الموصل إتمام هذا المشروع بابتهاج منقطع النظير، وأقيمت حفلة فخمة بمناسبة افتتاحه تعبيرا عن آيات السرور والابتهاج.

يتألف (جسر الملك غازي) من ثمانية هياكل حديدية طول كل منها (120) قدما ترتكز على سبع دعامات متشكلة من اسطوانتين حديدتين متقابلتين قطر كل منها تسعة أقدام وقد رُكزت تحت قعر النهر بعمق (44) قدما تقريبا بواسطة عملية الهواء المضغوط، وقد وٌضعت أسسها على طبقة قوية من الصلصال الأزرق والصخور.

أما عرض سطح الجسر فبلغ (18) قدما. وبذلك جُعل الجسر معدا لمرور وسائط النقل ذهابا وايابا في آن واحد. كما خُصص ممر في كلا الجانبين عرض كل ممر خمسة اقدام لمرور الأشخاص.

ويبلغ النقل الذي يمكن ان يتحمله الجسر المذكور (25) طنا موزعة على (30) قدما من طول الجسر. وقد بلغت تكلفة (جسر الملك غازي) في وحينه (665515) دينارا.

ومما يُذكر بفخر أن مديرية الأشغال العامة العراقية هي التي قامت بتشييد الجسر الحديدي بطريقة الأمانة بإشراف المهندس الإنكليزي المستر ماتيك ومساعده المهندس العراقي الموصلي فخري جميل الفخري (1908ـ1995) وبعض المهندسين الآخرين من العراقيين.

وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.

https://www.youtube.com/watch?v=27nhVmgI6ig

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1169 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع