عبدالكريم إبراهيم
قلم الباركر وتسريحة (الفس بريسلي)*
مازال أستاذ لطيف يحتفظ بقلم (الباركر) الذي اشتراه عند بداية تعيينه معلماً في أحدى قرى ميسان النائية، محاولاً إعادة عجلة الزمن إلى الوراء؛ حيث تسريحة شعر (الفس برسيلي) التي تلمع بريقاً من كثرة الزيت، وربطة العنق الحمراء، والبدلات ذات القماش الانكليزي، وساعة اليد السويسرية التي لا تخطئ الوقت .
اعتاد هذا الرجل على الاهتمام بنفسه لدرجة المبالغة، وقد يشاركه في الأمر بقية زملائه. فلا يخرج إلا بعد أن يتعطر بأغلى العطور الفرنسية، مع حذاء يلمع حتى في أجواء القرية المتربة، لدرجة أن أهل القرية كان يبهرهم هذا الأفندي القادم من بغداد. ولعل عامل التأثير بأحد أستاذته جزءٌ من تركيبته الشخصية، حيث زرع فيه روح الأناقة والالتزام.
ساعدت الظروف الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية على أن يحظى جيل أستاذ لطيف من المعلمين بهذا التميز. الراتب يكفي للمزيد من الأناقة ويذهب الباقي لشراء الكتب والمجلات، حتى انه ينزل إلى الولاية كل أسبوع لهذه الغاية، حيث تكفل احد أصحاب المكتبات بهذه المهمة، وربما تكون مطالعة الصحف من الضروريات التي يقاتل لطيف حتى تكون موجودة على مائدته. أحيانا يتعمد إلى قراءة بعض الصحف القديمة أكثر من مرة في حال تعذر وجود الجديدة. وعادة ما يدون آرائه وملاحظاته على حواشي الصحف والمجلات والكتب التي يشتريها، وحتى تلك التي يستعيرها من بعض الأصدقاء. رفيقه في المهمة قلم (الباركر)، حتى أن بعض الأصدقاء يعدون هذا الفعل نوعاً من الهوس لا يستطيع التخلص منه. استطاع أستاذ لطيف أن يجمع مجموعة كبير من أقلام (الباركر)، حتى ان الترف الاجتماعي وصل به أن يقتني قلماً ذا (سلاية) ذهبية يخرجه فقط في المناسبات الخاصة، كي زين به بدلته وهندامه الأنيق. يتباهى لطيف بمجوعة أقلام الحبر التي يقتنيها، ويعمل في كل مرة على زيادة أعدادها عندما تسمح الظروف المالية. لعل حياة العزوبية هي التي جعلت هذا الأمر ممكناً. ربما تغير الوضع بعد الزواج، حيث توجد منافسة من قبل الزوجة والأولاد في تقليل عزيمته عن الاستمرار في هوايته المفضلة، هي جمع الأقلام. مع هذا حاول التوفيق بين الاثنين،ولكن الظروف البلد، وإعلان انتهاء عصر المعلم في زمن الحروب والحصار وسجائر المفرد و(قمصلة) البطانية وطحين الحصة، جعل الرجل يخلى شيئاً فشيئاً عن بعض المقتنيات الثمينة، كساعته السويسرية لتأتي الدور على مجموعة أقلام الحبر التي جعلها آخر نقاط الدفاع لديه. هكذا أكلت الحروب ومجاعة الحصار أحلام أستاذ لطيف ليضحّي حتى بقلم الحبر ذي (السلاية) الذهبية، بعد رافقه مدة زمنية طويلة. وبعد تقاعده وتحسن وضعه المعيشي بفضل أولاده، حاول أن يبحث عن صديقه الذي أضاعهُ في زمن ما، وهو قلم حبر (الباركر)، وجدهُ عند احد باعة التحف في شارع النهر، ولكن الزمن لم يستطع أن يعيد تسريحة (الفس برسلي) إلى ما كانت عليه .
""""""""""""""""""""""""
•الفس برسلي : مطرب روك امريكي معروف .
1182 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع