خليل حمد-باحث في مرحلة الدكتوراه بجامعة ماروا الحكومية-الكاميرون
جماليات التصوير الفني في شعر جماعة أبولو
The artistic depiction in the poetry of the Appolo group
Halilou Hamadou-University of Maroua-Cameroon
E-mail:عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Abstract
The importance of the artistic depiction is evident in every creative work, as it is an essential and indispensable element, and it is a mirror of the poet’s eloquence, reflecting his ingenuity in the art of artistic depiction.
One of the most prominent schools of modern poetry is an interest in the artistic image of the Apollo group; They realized the importance of the image as an effective tool in conveying the experience and influencing the psyche of the recipient; The picture is a psychological formation before it is an artistic and aesthetic formation, linked to the poet's thought, and the factors that contributed to the formation of his poetic output. The poetry of the Apollo group carried intellectual aspects and subjective experiences, filled with the romantic spirit, in which they painted fine artistic paintings in the language of poetry in an impressive aesthetic form, clearly reflecting their own view of life, and their images depended on diagnosis or humanization and winged imagination, including feelings and values Aesthetics about which they are issued.
This research dealt with “diagnosis” as the most prominent artistic phenomena that reflects the highest levels of photography in the poetry of the Apollo group, by extrapolating their poetry, focusing on highlighting the aesthetic aspects resulting from the formation of the artistic image of these sentimental poets.
Keywords: artistic - depiction - diagnosis - poetry - the Apollo group.
ملخص البحث:
تتجلى أهمية الصورة الفنية في كل عمل إبداعي، باعتبارها عنصراً أساسيًّا لا غنى عنه، وهي مرآة لبلاغة الشاعر، تعكس براعته في فنّ التصوير الفني، الذي يُعتبر أحدَ جوانب الصياغة الجمالية المولِّدة للمعنى في العملية الإبداعية، و به يتمكّن المبدع من استنطاق المعاني الكامنة في الذهن، و يبعث فيها نبض الحياة، ممثلة بروح الفن الأصيل، في تعبير مميز، يحمل إيحاءً دلاليّاً خاصّاً، يضفي على النص الأدبي جمالاً و متعة و تشويقاً.
و من أبرز مدارس الشعر الحديث اهتماما بالصورة الفنية جماعة أبولو؛ فقد أدركوا مدى أهمية الصورة كأداة فاعلة تمثّل تشكيلاً نفسيًّا و فنياًّ جمالياًّ في نقل جوانب فكرية وتجارب ذاتية، تمتلئ بالروح الرومانسية، رسموا بها لوحات فنية راقية بلغة الشعر، في قالب جمالي بديع مؤثر، يَعكس بوضوح نظرتهم الخاصَّة إلى الحياة، واعتمدت صورُهم على التشخيص و الخيال المجنَّح، يضمِّنونها الأحاسيس و القيم الجمالية. ويتناول هذا البحث "التشخيص" باعتباره أبرزَ الظواهر الفنية التي تعكس أرقى مستويات التصوير في شعر جماعة أبولو.
الكلمات المفتاحية: التصوير الفني – التشخيص – شعر – جماعة أبولو.
مقدمة
يتخذ المبدع من الصورة المجازية وسيلة تعبيرية إيحائية، تغني عن مجموعة من العبارات الحرفية بلغتها المباشرة المعتادة، بالإضافة إلى ما تبرزه من الإيحاءات الأسلوبية، وتضفي على النص أيقونة جمالية ناطقة، تثير شوق المتلقي و فضوله، فيُقبل على تأمل الصورة بعناصرها و أبعادها، وبذلك تنكشف له مشاهد جمالية متنوعة بصورها الزاهية و متعتها الفائقة.
و تزداد قيمة العمل الفني جمالي بمدى قدرة المبدع على أن يرتقي بمراياه آفاقاً من الحراك الرؤيوي الجمالي الذي يضمن عمق التأثير، و بلاغة الرؤيا، من خلال العوالم المبتكرة التي يرتادها، و الآفاق الجمالية التي يجسدها.وبهذا يصبح الأثر الفني مسوغاً للتأثير الوجداني، حتى إن خالف الواقع، وارتكز على الخيال، و اقتنص المعطى الجمالي في أقصى تجلياته، و تلك ميزة اللغة الأدبية التي تنفلت من عقال المعيار إلى رحابة الإبداع، حيث التجسيد و التجسيم، و حيث القفز على حواجز اللغة العادية.( )
وتشكِّلُ الصورة الشعرية الجوهر الأساس و القلب النابض لكيان الشعر، كما أنها الآلية الأساسية التي يعتمدها الشاعر المبدع في رسم لوحته الفنية التي يبثّ فيها أفكاره و انفعالاته، للتأثير في المتلقي؛ ولهذا لا تزال الصورة من القضايا الأدبية المهمة التي دأب الدارسون على معالجتها، ومحاولة الكشف عن ما يكمن فيها من قيم جمالية ، ووظيفتها الفنية في بنية النص الشعري؛ بما أن القصيدة ذاتها مبنية في أساسها على أنواع عديدة من الصور المحملة بالدلالات الإيحائية العميقة، و الشاعر يحمل رسالة تتضمن الفكر و الفن معاً.
أهداف البحث:
يسعى البحث إلى الكشف عن القيمة الأدبية لأشعار الجماعة، وأثرها الحي في المشهد الأدبي المعاصر، من خلال إجراء مقاربة حول ظاهرة " التشخيص"، باعتبارها أبرز سمات شعر الجماعة، التي اضطلعت بمهمة إثراء النهضة الأدبية التي شهدها الأدب العربي في العصر الحديث.و بيان خصائص التصوير الفني في شعرهم؛ مما يشكّل معالم استشرافية و يفتح آفاقاً جديدة في الدراسات الأدبية و النقدية.
أهمية البحث:
تكمن أهمية البحث في أنه يحاول أن يسلِّط الضوء على خصائص الصورة الفنية لأحد أبرز مدارس الشعر الحديث،جماعة أبولّو،و ما تميز به شعراؤها في اتجاهاتهم نحو تحديث الشعر العربي المعاصر؛ مما ترك تأثيراً واضحاً في الساحة الأدبية المعاصرة فكريًّا و فنيًّا، و قد احتفوا بالصورة في شعرهم حفاوة بالغة ؛ واتخذوها أداة فاعلة في نقل التجربة و التأثير في نفس المتلقي؛ إذ تعدُّ الصورة –لديهم-تشكيلاً نفسياً قبل أن تكون تشكيلاً فنياً جمالياً ، ترتبط بفكر الشاعر، وبالعوامل التي أسهمت في تكوين نتاجه الشعري. ( )
و هذا التيار الذي يمثله شعراء جماعة أبولّو لا يزال حتى الآن يؤثر -بصورة أو بأخرى- في كثير من الشعراء المعاصرين، بل لا يزال كثير من الشعراء يمثلون الامتداد الخصب لهذا التيار، ويتغنون في حماه ويتأثرون بتعبيراته و إيحاءاته و رمزياته الفنية المبتكرة، ويلونون شعرهم بأصباغه وألوانه مع فارق صغير اقتضته الفترة الزمنية والأحداث التي نعيش في ظلالها. (الدسوقي،1960م:72) .
إن التجربة الشعورية التي يعيشها الأديب تدفعه للتعبير عنها في صورة ذات دلالة إيحائية، وغايته في ذلك تصوير المشاعر و الأحاسيس للتأثير على المتلقي، فيعيش هذه اللحظة الإبداعية باستمتاع.
و هذا يظهر جليًّا عند هؤلاء الشعراء الذين جنحوا إلى محاولة رسم عالم خاص بهم، مرتبط بنفسياتهم الفياضة، ورُؤاهم المميزة التي تنقل تجاربهم الشعرية، في صياغة فنية بديعة مؤثّرة؛ ويأتي هذا البحث ليتناول (جماليات التصوير الفني في شعر جماعة أبولو).
تحديد مجال البحث:
لا يخفى أن البحث في الصورة لدى شعراء جماعة أبولو تحديداً عمل شائقٌ؛ لما يحتويه هذا الشعر من فلسفة، وفكر، وتأمل، وتحليل مشكلاتهم المتنوعة وتجاربهم المختلفة، على وَفْقِ رؤية خاصة تمتاز جدة وابتكارا في تقديم الفكرة و انتقاء أنماط الأداء.
و سيركّز البحث على أن يستجليَ عناصر التشخيص لدى هؤلاء الشعراء، من خلال استقراء بعض أشعارهم، معتمداً على إبراز النواحي الجمالية الناتجة من تشكيل الصورة.
مشكلة البحث وأسئلته:
تشكّلت فكرة هذا البحث نتيجة التساؤل الرئيس الآتي:
ما أبرز القيم الجمالية التي تعكسها الصورة الفنية في شعر جماعة أبولّو؟
و تمخّضت عنه تساؤلات عديدة تنامت في فكر الباحث، وهي:
1- ما مدى قدرة شعراء أبولُّو في استخدام التشخيص لنقل تجاربهم و تجسيدها؟
2- كيف برعوا في فن التصوير الحسي الذي يعكس الحالة النفسية الخاصة بهم؟
3- ما الفائدة المعنوية لاستخدام التشخيص عند الجماعة؟
و قد حاول البحث أن يجيب عن هذه التساؤلات من خلال قراءة عينة محددة في نصوص شعرية من دواوين أعلام شعراء أبولو ، تم انتقاؤها بعناية ، إلى جانب الاستعانة بمراجع علمية مهمة في الموضوع.
منهج البحث: يتبع المنهج الوصفي التحليلي؛ لأنه يسهم في تحليل عناصر الصورة و استكناه التجربة الشعرية في النصوص الإبداعية المنتقاة في الدراسة التطبيقية.
الدراسات السابقة:
التعليق على الدراسات السابقة:
منها: رسالة دكتوراه للباحث إدريس بكري، وعنوانها: "شعر جماعة أبولو و شعر ألفريد دي موسيه دراسة مقارنة"، و رسالة دكتوراه للأستاذ الدكتور سيد بحراوي، و عنوانها: " موسيقى الشعر عند جماعة أبولو"، كما استعنت ببعض المقالات العلمية، منها دراسة للباحث نُشرت صحيفة روز اليوسف بالقاهرة سنة 2008م ، بعنوان:" مدرسة أبولّو الأدبية ودورها في تطور الأدب العربي الحديث ".( ) ودراسة أخرى نشرتها مجلة رابطة الأدب بالرياض و عنوانها: "مدرسة أبولو و اتجاهها الفني في تجديد الشعر العربي"، بالإضافة إلى مراجع أخرى سيٌشار إليها في أثناء البحث ، و قائمة المصادر و المراجع.
خطة البحث: تتكون الخطة مما يلي:
-المقدمة، وفيها:( تمهيد، مشكلة البحث و أسئلته، أهدافه و أهميته، و منهجه، والدراسات السابقة له، و التعليق عليها).
- المبحث الأول: نبذة عن جماعة أبولو و بيان مفهوم الشعر و الصورة عند الجماعة
المبحث الثاني: التشخيص في شعر جماعة أبولو
-النتائج
- المبحث الأول: نبذة عن جماعة أبولو و بيان مفهوم الشعر و الصورة عند الجماعة
المطلب الأول:التعريف بجماعة أبولو:
تُعدّ جماعة أبولّو واحدة من أبرز المدارس الأدبية المهمة في الأدب العربي الحديث، و قد أنشئت بالقاهرة على يد الشعر أحمد زكي أبو شادي (1892-1955م) ، الذي لم تصرفه اهتماماتُه العلمية عن الأدب والتفكير في إنشاء مدرسة تحتضنه وتهتم به ( ).
و كلمة" أبولّو" Appolo مأخوذة من اللفظة الإغريقية ( أبو لّلون Appolon) إله النور والفنون والجمال عند اليونان ، وتسمية هذه الجماعة بهذا الاسم يدل على التأثر بالثقافة الأجنبية والانفتاح على الآداب الإنسانية.( )
ظهرت الجماعة بعد مدرسة الديوان التي أنشأها العقاد والمازني وشكري بأكثر من عشر سنوات. و ضمت رموزا و طلائع من شعراء الوجدان الرومانسيين في مصر والعالم العربي، ومن روادها: إبراهيم ناجي، وعلي محمود طه، وعلي العناني، وكامل كيلاني، و الهمشري، ومحمود حسن إسماعيل، وجميلة العلايلي.
ولم يلتزم شعراء الجماعة بمذهب شعري معين، بل اتّخذوا من كل الاتجاهات الفنية الأوروبية مثالاً لهم في الإبداع الشعري؛ ولهذا يطلق عليهم بعض النقاد" مدرسة" بينما يرى الآخرون أنهم" جماعة" لتشعب اتجاهاتهم الفنية.. ( )
و كانت الجماعة تهدف إلى الارتقاء بمستوى الأدب العربي، ولا سيما الشعر، وتخليصه من قيود الصنعة والتقليد والمحاكاة التي ارتكس فيها طوال القرون الوسطى، وتوجيهه للتعبير عن مشاهد الطبيعة، وصور الحياة، والعواطف الإنسانية في لغة جميلة، وتعبير حي مؤثر، يزخر بالخيال البديع والصور الأدبية المبتكرة، و اللون الغالب على نتاجهم هو اللون الرومانسي الوجداني. ( )
و بفضل هذه الجماعة- وغيرها من التيارات التجديدية الحديثة الأخرى- أصبح يُنظر إلى الأثر الأدبي من حيث قدرتُه على التأثير والإيحاء، وترجمته للمشاعر والانفعالات الإنسانية. ( )
المطلب الثاني:مفهوم الشعر عند جماعة أبولّو:
يرى أبو شادي أن الشعر شعر في أية لغة بأحاسيسه و ارتعاشاته وومضته وخيالاته وبحقائقه الأولية و مثالياته ، فالإملاء على الشعراء والتحكم فيهم هو أولا قتل لمواهبهم ثم قتل للشعر وممكناته ثم إفقار للغة و آدابها. ( )
هكذا حدّد أبو شادي ماهية الشعر، وبهذا المفهوم المغاير للنظرات السابقة أحدثت جماعة أبولو في الشعر العربي تيارا شعريا ، تميّز بنزعات شعرية متعددة ، فقد كانت ربيعا شعريا ملأ الحياة الأدبية شعرا منعشا أخّاذا.
ويجسّد أبو شادي رؤيته للش عر وهي الرؤية ذاتها للشعراء الرومانسيين الذين يرون فيها أن الشاعر يجب أن يلقي شيئاً من مشاعره على الطبيعة فيقول: ( )
لا الشعر شعرُ ولا الأوزان أوزانُ *** إن فاته من شعور الكون ميزانُ
هذا هــــــــــو الشفق الباكي بحرقته *** وهــــــــذه السحبُ فيها الدمعُ نيرانُ
كأنـــــــــــــــــــما الشفق الباكي يمثلني *** لكــــــــــــن حـــــــــــــزني أضعاف وألوانُ
فكيف بي وأنا المحروم في زمني *** وكـــــــــــــــل عمري تباريحٌ وحدثانُ
على هذا المنوال نسجوا أشعارهم و عبروا عن تجاربهم بحرية تامة واهتموا أكثر بالمطولات التأملية، إن لم نقل إنها كانت الهدف من وراء كتاباتهم الفلسفية التعبيرية. ( )
و يمتاز شعر جماعة أبولّو بالحرية التعبيرية، والطلاقة البيانية، واستقلال الشخصية بالإضافة إلى أنهم أَثْرَوا الشعر الغنائي ، وهذا يتمثل في نزعاتهم الشعرية والتي مثلت تيّارا جديدا اتّسم بالوجدان الفردي والتعبير الرمزي ( ).
ومن طبيعة العملية الإبداعية أنه" كلما نمت التجارب وازدادت وجب على لغة الشعر أن تجاريها وتتمشّى معها إذا أريد أن تكون صادقة التعبير، واللغة بمثابة الشجرة والألفاظ بمثابة الورق ، وعلى مدى السنين تتساقط الأوراق القديمة وتنمو بدلا منها أوراق حديثة والشجرة باقية كما هي.( )
و تؤكد الرومانسية على أن قوة المشاعر والعواطف والخيال الجامح هو المصدر الحقيقي والأصيل للتجارب الجمالية، مع التركيز على شتى العواطف الإنسانية مثل الخوف، والرعب، والهلع، والألم.
و يتميّز مضمون الشعر عند جماعة أبولّو بخصائص التنويع على الوجدان الذاتي وبالانحناء على الذات انحناء مفتشاً في اعماقها عن كوامن الحس وبواعث الشعور، وبنوعية خاصة من الانفراد بالحزن، وبروح النزوع التأملي في الظواهر الكونية الجامدة والحية إلى نوع من المشاركات في مختلف الميادين، على أن تكون العناصر جميعها قد مرت على الذات الشاعرة من خلال التجربة الشعرية وليس من خلال الذاكرة وصورة المثال في الحافظة (العزب،1967م:148-149) .
ولم يكن المضمون الشعري عند جماعة أبولّو هو مضمون القدامى للشعر، فأبو شادي يراه بأنه البيان لعاطفة إلى ما خلف مظاهر الحياة لاستكناه أسرارها، وللتعبير عنها (صدمة الحداثة:116) ، وأرقى أنواع الشعر عنده هو الذي يتصل بالحياة اتصالاً ويتجه بها إلى مثالٍ عالٍ مسعد ، وأن يكون صورة لمزاج الشاعر وفكره (أبو شادي،1926م:1190) ، ويعتمد – الشعر – على طاقته لا على الصنعة أو الموسيقى أو البهرج (خفاجي،بدون:1/97) .
وبوساطة المضمون يستطيع الشاعر أن يعبر عن جوانب الحياة كلها لأن الشعر "هو درس الحياة وتحليلها وبحثها وإذاعة خيرها ومكافحة شرها. وهو غرض نبيل جامع وإن تكيف بصور شتى، فقد يظهر في لباس الإنسانية العامة، أو في لباس الجامعة الدينية أو غير ذلك" (أبو شادي،1926م:43) ، وعلى وفق ذلك المفهوم للمضمون الشعري عند أبي شادي يصبح الشعر عاملاً من عوامل القوة، ويجب استخدامه في ميادين الحياة كافة لخدمة الحياة (أبو شادي،1926م:42) .
فـأبو شادي يرى أن المضمون الشعري الجديد يجب أن يفصح عن السمو والارتقاء في الحياة ولعل في قوله عن مستقبل الشعر ما يعزز هذا الرأي ؛ إذ قال: "وما الشعر في اعتباري إلاّ نبع الإحساس العميق والتأمل البعيد والنظر إلى ما خلف المظاهر. ومن المشاهد أن رقي الحضارة يرهف الإعجاب ويحد الأذهان ويزيد رقة الإحساس، وكل هذه عوامل تنتج الشعر وتهيئ النفوس لقبوله بل إلى الإلحاح في طلبه غذاء روحياً لها. فمن ينكر مستقبل الشعر مخطئ لم يدرس بعناية العوامل التي أنبتت الشعر منذ فجر المدينة ولا تزال تغذيه وتحافظ عليه وستضمن له خلوده" (نظرية الشعر،بدون:489) شرط الحرية في التعبير عن المضمون ؛ لأن الشعر لا يحيا إلا في أجواء الحرية.
ودافع أبو شادي عن حرية الشعر المطلقة موضوعاً وتعبيراً، والشعر فنُ رفيعُ متى بلغ الذروة بإنسانيته وبقيادته الجريئة الحرة، كان الرائد لحركات التطهير والإصلاح والارتقاء (خفاجي،بدون:1/98) .
و قد برز دور الشاعر بوصفه فنانًا بارعاً في شعر جماعة أبولّو، كما برزت أهمية التجربة النفسية والوجدانية في عملية الإبداع الشعري لا محاكة نماذج القدماء. وتحوّلت قضايا الشعر من قضايا المجتمع إلى قضايا الذات، واستكشف بعض شعراء الجماعة لغة شعرية جديدة متماسكة أكثر صفاءً ونقاءً من شعر التقليديين وأغراضهم الشعرية الموروثة. ( )
و إن معيار الشعرية يكمن في الإبداع والتجديد والتحوّل من النمطية الراسخةِ إلى التجريب المتحوّل؛ إذ "لا سبيل إلى أن يتجدد أدبنا تجديداً خصباً إلا إذا استزاد أدباؤنا وشعراؤنا من التعليم والثقافة بالقديم والجديد في وقت واحد". ( )
المطلب الثالث:مفهوم الصورة:
يبدو من استقراء المشهد الأدبي و النقدي الحديث أن مصطلح الصورة الشعريّة بدأ بالظهور في أواخر القرن التاسع عشر، وانتشر بمُسمَّيات عديدة كالصورة الفنيّة، أو التصوير في الشعر، أو الصورة الأدبيّة.
غير أن البحث في الصورة ليس أمراً جديداً على النقد العربي، بل له أصول تراثية قديمة تعود إلى الجاحظ الذي عرّف الشعر بأنه " صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير". ( )ففي هذا التعريف حكم على دور الصورة في عملية البناء الشعري، وعلى أهمية أن يُصَبَّ المعنى ضمن نسيج شعريّ ما ؛ حتى يكتسب صفة الشعرية.و كثيرا ما يكرّر بعض النقّاد المحدثين ما سبق أن أتى به الجرجاني بصياغات مختلفة.( )
و تعني الصورة في التراث النقدي: "قدرة الشاعر على استعمال اللغة استعمالاً فنياًّ يدل على مهارته الإبداعية، ومن ثم يجسد شاعريته في خلق الاستجابة والتأثير في المتلقي، فالصورة هي الوعاء الفني للغة الشعرية شكلا ومضمونا" ( ).
والصورة الفنية تتضمن عمليّة تفاعل متبادل بين الشاعر والمُتلقِّي للأفكار والحواس، من خلال قدرة الشاعر على التعبير عن هذا التفاعل بلغة شعريّة تستند مثلاً إلى المجاز، والاستعارة، والتشبيه؛ بهدف استثارة إحساس المُتلقِّي واستجابته، وفي ما يأتي بيان ذلك. ( )
فالصورة على هذا تحليل نقدي تطبيقي للتكافؤ والتعادل القائم بين اللغة الشعرية وتجربة الشاعر، أو بين التجربة الشعرية الموفقة بين الحقيقة والمجاز بمعناها البلاغي والبياني . ( )
إنَّ العناصر التي تتكوّن منها الصورة الشعريّة تتمثّل في اللغة، والموسيقى، وما تشتمل عليه من وزن، وقافية، وإيقاع، وإيحاء، وتتمثَّل كذلك في الخواطر، والأحاسيس، والعواطف.( )
تزدهي قصائد شعراء جماعة أبولو، بمشاهد رائعة من الصور الشعرية، ليس بجماليتها البنائية، فحسب وإنما كذلك بجمالية ما تطرح، بحيث صارت السمة البارزة في أشعارهم، على اختلاف الموضوعات التي يعالجونها.
وسأقتصر على الكشف عن ألوان تشكلات بنية الصورة الشعرية و عناصرها في شعر جماعة أبولو، و توظيف الصورة و مدى تجلياتها في إبداعاتهم الشعرية، مركزاً على تلمّس أبرز الجوانب الجمالية التصويرية: "التشخيص" في شعر الجماعة؛ بناء على أن توظيف الجمال في الأدب الفاعل -شكلاً و مضموناً- ضرورة من ضرورات الإبداع الذي يحتوي جمال الشكل و براعة العبارة، إلى جانب روعة الفكرة و عمق الدلالة، و يُعدّ عاملاً داعماً للتفاعل معه.
والتعبير بالصورة هو من صلب مبادئ مدرسة أبولّو، فقد ترفّعوا عن التعبير باللفظة الواحدة أو اللفظتين، بل تكون الصورة الشعرية هي صلب الجمال الفني الذي ينسج الشاعر عليه قصيدته، فلمّا يمسك القارئ قطعة من قصيدة أحد الشعراء تكون الصورة حاضرة أماه وكأنها مرسومة على لوحة فنية يطالعها في كل حين. ( )
و قد تمكنوا من ابتكار صور جديدة مغايرة لكل ما كان مألوفًا، والتفوا إليها ووظّفوها توظيفات متعددة للتعبير عن مكنونات النفس و رُؤاهم و مشاعرهم.
و المتتبع لشعر جماعة أبولو يرى أنهم قد عُنُوا بتوظيف الصورة عناية خاصة؛ بغية تجسيد تجربة الشاعر و بلورة رؤاه و تعميق إحساسه بالأشياء ومنحها فرصة تمثيل موضوعه تمثيلا فنيا راقيًا.
المبحث الثاني: التشخيص في شعر جماعة أبولو
المطلب الأول: مفهوم التشخيص و قيمته الفنية:
هو أن يعمد الشاعر إلى منح الحياة الإنسانية لما ليس بإنسانٍ، أو أن يخلع الحياة و تجسيمها على ما ليس من شأنه الحياة المجسّمة من المعاني و الحالات النفسية، و يطلق على التشخيص أيضاً:" الأنسنة" كوجه مخصص جدا من التشخيص. ( )
و يستخدم للإشارة إلى خلع الصفات والمشاعر الإنسانية على الأشياء المادّية والتصورات العقلية المجرّدة. ويُعلّل لجوء الشاعر إلى ظاهرة التشخيص بأن "مظاهر الكون الحسية والمعنوية إنما تجمع بينها الوحدة العميقة والعلاقات الوثيقة والأشياء التي حولنا لها حياة خفية، وكيان يشبه كياننا، ولعلّ هذا عامل من عوامل لجوء الشاعر إلى ظاهرة التشخيص" . ( )
والتشخيص أفق إبداعي متميز يحطم العلاقات العادية بين الأشياء، ويبعث الحياة في الجوامد. فإذا بالشاعر يخرج من الصدفة الواحدة عدة من الدرر، ويجني من الغصن الواحد أنواعاً من الثمر . ( )
و للتشخيص فائدة معنوية كبيرة؛ و قد برعوا في مجال التشخيص؛ لأنه يعتمد على أنسنة الجوامد. وربما كان الإنسان أشد ما اهتموا به.
المطلب الثاني: التشخيص في شعر جماعة أبولّو:
قد اقترن تصويرهم الحسي بالتصوير النفسي، فلم يصفوا شيئاً وصفاً خارجياً، بل خلعوا عليه مشاعر إنسانية. ( )
يقول محمود حسن إسماعيل: ( )
وتخال الضحى عليه برودا فصلت *** من سنا شعاع وعسجد
وقدود النخيل قامات غيد *** ساكرات من خمرة الطلّ مبيد
خفقت حولها الدوالي وناحت *** وتأست على الأسير المقيّد
لطمت سوقها على الثور حزنا *** حرّة فجعت على مستبعد
إن إحالة الضحى إلى برودة ذهبية لشببهه ذلك اللون الذهبي ،وجعل أعواد النخيل لا تشبه القدود التي تميد من تعاريج النسيم لها ومن خمرة الطلّ المسكرة، وكذلك جعل الدوالي المروعة حزنا على الثور لا تشبه النساء الحزينة إلا في لطم الخدود، على المستبعدين يعين أن العلاقة بين الأطراف لا تتعدّى كونها علاقة حسّية بصرية.
فيتصور شعراء أبولّو ما ليس إنسانا وكأنه إنسان يُحسّ إحساسه ويفكّر تفكيره، ويفعل أفعاله مثل "يرقص الغرام" عند أبي شادي، و "يصبح نديما للمحبوبين"، يقول: ( )
في مجلس رقصِ الغرام *** به وكان لنا النديم
وأما محمود حسن إسماعيل فإنه يجسد الغرام شيئا ماديا يختلس من شرفات المحبوبة،
فيقول: ( )كم وقفنا حيال قصرك نبكي *** وخلسنا الغرام من شرفاتك
و يبدو التشخيص صفة عميقة موغلة في كياننا، وهو ذو قدرة على التأثير ، يتميّز عن كل أسلوب يراد به إحداث مفاجئة أو مخادعة ،فضلا عن أسلوب الشرود الذهني التي تفسد العاطفة.( )
ونقرأ لناجي قصيدة "خواطر الغروب"، والتي يبدو تشخيص الطبيعة والذوبان فيها من عنوانها، حيث يقول:( )
كل يومٍ تساؤُلٌ .. ليت شعري *** مَنْ ينبّي فيُحسن الإنباءَ؟!
ما تقول الأمواج! ما آلمَ الشمس *** فولّت خزينة صفراءَ
تركتنا وخلّفتْ ليل شكٍّ *** أبدى والظُّلمة الخرساءَ
****
وكأن القضاءَ يسخر مني *** أبكي وما عرفتُ البكاءَ
ويحَ دمعي وويحَ ذلّة نفسي *** لم تدعْ لي أَحداثُه كبرياءَ
فهو حيران لا تنقطع حيرته، بل إنها لتتجدد في كل يوم، حيرة في ما تقو الأمواج وما يحزن الشمس، ويربط القول آخرا بحيرة نفسه وحزنه، فكأن الشمس مصفرّة من حزنه، وذلته التي جرّتها أحداث الحياة. فلم تبق له من كبريائه شيئا، فالموجودات تفاعل بتفاعل نفسه وتتأثر به وتؤثر فيه.
وأما الشاعر حسن كامل الصيرفي ، فله صور جميلة تقوم على التشبيه والاستعارات التشخيصية والتجسيدية التي شاعت لدى هؤلاء الشعراء، يقول ( ):
الشمس تنزل في الغروب *** وقد تورد خدها
لتقبل الأفق البعيد *** وقد تسعر وجدها
تخفي الأسى خلف النخيل
مثل ابتسامات العليل
حتى إذا احتجبت تما *** ماً خلف أستار الأفق
وتراكضت زمر النها *** رِ وأسرعت زمرُ الشفق
نزل المساء برجله
وجرى الظلام بخيله
في هذه الأبيات حشدٌ من الصور التشبيهية والاستعارية الرائة؛ ففي البيت الأول والثاني جعل الشمس تنزل في الغروب والشمس - كوكب لا يعقل ، جعلها الشعر تنزل وحدها يتورّد يصبح أحمر من شدة الخجل وهي تروم تقبيل الأفق البعيد بعدما تسعر وجدها، وكلها استعارات تشخيصية ؛ إذ جعل هذه الأشياء التي لا تعقل أشخاصاً تُقبّل ويتورّد خدّها من شدة الخجل ويشتعل الشوق عندها كما يشتعل في نفس الحبيب المتيّم.
وبعد ذلك يأتي بصور تشبيهية ؛ إذ شبه إخفاء الشمس لأساها بسبب الغروب والأفول ورحيل النهار، فجيء وقت الأفول والفراق والموت مثل ابتسامات العليل ، الذي يبتسم مخفياً أو جماعة، ومرضه الذي يمضي به نحو الموت وهي صورة جميلة عن حالتي القنوط واليأس اللتين أصابتا الشاعر.
وتزخر قصيدة الشابي "أنشودة الرعد" بالاستعارات التشخيصية من عنوانها ؛ إذ جعل الرعد وهو شيء لا يعقل ينشد أناشيد فبعث فيه الحياة إذ يقول ( ):
في سكون الليل لما *** عانَقَ الكون الخُشوع
و اختفى صوتُ الأماني *** خلف آفاق الهجوع
رتَّل الرَّعدُ نشيداً *** ردَّدتهُ الكائناتْ
مثل صوت الحقِّ إن صا *** حَ بأعماقِ الحياة
هنا صور تشخيصية جميلة ؛ إذ جعل الخشوع -وهو شيء مجرّد يدرك بالعقل- يعانق الكون ؛ فبعث فيه الروح ، وأصبح إنساناً يعانق المحب وهو الكون، وجعل للأماني صوتاً يختفي ، كلها صور تشخيصية ،ويأتي بصور تشبيهية جميلة، تجسّد الخيال الرومانسي ؛ إذ شبّه صوت الرعد بصوت الحق عندما صاح الرعد بأعماق الحياة.
وحين نتأمل الصور نجد العلاقة بين المشبه (صوت الرعد ) والمشبه به (الحق) عندما ينطق في الحياة كلاهما يبعث الخوف في نفوس سكان الارض الذي يخيفهم صوت الرعد المجلجل بصوته والذي تستك منه الآذان وكذلك صوت الحق فإنه يرهب الباطل ويهز عروشه.
وعلى الرغم من أن موضوع الطبيعة ليس بالموضوع الجديد في الشعر العربي –من حيث فكرته العامة- إلا أنه يختلف تعاطي الشعراء المحدثين من الرومانسيين مع الطبيعة عما كان متّبعا لدى الأقدمين، فمن تحوّلات التغنّي بالطبيعة في الشعر استخدامها عن حالاتهم النفسية والعاطفية وتحوّلاتها؛ فالشاعر يقصد عن نفسيّته وما يشعر به لا التغنّي بمظاهر الطبيعة لذاتها فحسب ( )؛ و الطبيعة هنا مرآة الذات الشاعرة (فالمعالجة النفسيّة للطبيعة هو صهرها في لواعج الحالة النفسيّة بشكل متعاطف ومتفاعل حتى يتمّ تشكيلها تشكيلا جديدا مختلفا قليلا أو كثيرا عن الأصل، يعني أنه تصريح وتحريف على ضوء الحالة النفسيّة) ( )، ويقول الدكتور شوقي ضيف: (إذا كان الشعراء يشخّصون الطبيعة ويملؤونها أو يملؤون عناصرها من الشمس والقمر والسماء والأرض والبحار والأنهار والأشجار بالعواطف والوجدانيات والمشاعر فلأنهم يريدون أن ينفذوا إلى الروح الداخلية للكون كلّه، تلك الروح التي تتشكّل أشكالا مختلفة تحت بصائرهم) ( ).
ويشاركهم في هذا كلّه الحسّ المرهف و ما لهم من شبوب العاطفة الرومانتيكية ، فيكون أثرا عظيما في هيامهم بالطبيعة في جميع مظاهرها، حيث يريدون أن يستلهموها ويستوحوا أسرارها؛ فهذه المشاعر والأحاسيس والوجدانيات هي التي تسمح للشاعر أن يبوح ينفث الصور الجامدة والثابتة لمظاهر الطبيعة التي يراها الشاعر بعيونه، ليشكّلها من جديد ، بحسب ما تراه عيون خياله، ويتلامس مع وهج شعوره، وإذا بالطبيعة حيّة نابضة تشاركه كلّ خلجة من خلجات قلبه، ويتفاعل مع في كلّ عواطفه وأحاسيسه.
و ترتبط الصورة بالباعث الذي يثير الشاعر، فيهيج كل التراكمات المخزونة في تجارب سابقة، فيسعى إلى تصويرها ( )، ولكي يستطيع الشاعر أن ينقل الصورة بكل ما يمتلكه من إحساسات للمتلقي يجب أن يوصل هذا الباعث حيث يثير في نفس المتلقي ما أثاره في نفسه من إعجاب أو محبة أو حماس ( )، واستيعاب التجربة الشعرية أو الأدبية يعتمد على قدرة الصورة أو مجموعة الصور على خلق الاستجابة بين فكرة التجربة ومتلقيها؛ ممّا يؤثِّر في نفس المُتلقِّي ويحقِّق المتعة لديه؛ حيث ينتج من مشاعر وانفعالات، يحوِّلها الشاعر إلى معانٍ وكلمات تحمل إيقاعاً موسيقيّاً، وعواطف، وصوراً فنيّة خياليّة وواقعيّة ، وتُعَدُّ الصورة الشعريّة عنصراً مهمّاً؛ للتأثير في القارئ وإبراز المعنى.( )
يقول أحمد زكي أبو شادي في قصيدته (الشفق الباكي) ( ):
فدعوا الحياة لمن يقدّس وحيها *** لا يستهين بتربها وترابها
ويرى الطبيعة أمّة ورجاءه *** كرجائها وصفاتها كصفاتها
وهنا نلمس البوح الحقيقي من أبي شادي بأن الطبيعة هي الأم الرؤوم الحانية ،التي يلتجئ إليها الشاعر كجزء من الارتباط الروحي المعنوي المتمثل بالعطاء دون مقابل.
فقد عشق شعراء أبولّو الطبيعةَ ووجدوا فيها ملاذا وأما حنونا يلجؤون إليها هربا من قيود المدينة وقسوتها وشرورها وينشدون في ظلّها العطف والرحمة والسلوان.
و يسير شعراء أبولو على خطا شعراء الغرب في اتخاذ المعادل الموضوعي عن طريق الصور التشخيصية الرائعة،كوسيلة لإيصال الفكرة المختلجة في النفس، و في معظم الأحيان يبثّون إحساسهم بالغربة والحزن والألم والكآبة ونشدانهم الحرية والعودة إلى الماضي يبحثون فيه عن الحاضر المفقود وغير ذلك من المشاعر والأحاسيس الجيّاشة.
قال خليل مطران ( ):
يا للغروب وما به من عبْرة *** للمستهام وعبرة للرائي
أو ليس نزعا للنهار وصرعة *** للشمس بين مآتم الأضواء
أو ليس طمسا لليقين، ومبعثا *** للشكّ بين غلائل الظلماء؟
والشمس في شفق يسيل نضاره *** فوق العقيق على ذرى سوداء
مرّت خلال غمامتين تحدّرا *** وتقطّرت كالدمعة الحمراء
فكأن آخر دمعةٍ للكون قد *** مزجت بآخر أدمعي لرثاء.
وهكذا تصبح الطبيعة كلّها شريكة الشاعر في تجربته وفيها من الموعظة والحكمة الكثير، فقد دنت ساعة الخلاص واقتربت ساعة الوصول بعد طول انتظار ومالت الشمس إلى الزوال، أي: زوال الألم واستبداده وليس زوال الحبيبة وزوال عمره، فهذه الشمس تقع صديقة وكأن الأحزان تغلبت على الشاعر فصرعته، وينقلب الفضاء إلى مأتم أو كأنه يتلمّس الموت ليتخلّص نهائيا من استبداد الحزن والألم؛ لأنه رأي الشمس في انحدارها الأخير بين السحاب كأنها آخر دمعة للكون تمتزج بدموع الشاعر البريئة لترثيّه، وفي كلّ هذا تتكون المرأة التي يرى منها الشاعر نفسه وترى منها الطبيعة نفسها وبذلك يتمّ التفاعل بين الطبيعة والوجدان . ويحسّ الرومانسيون بالنشوة بين أحضان الطبيعة؛ لأن فيها مبدأ الخلوة واعتزال الناس؛ ولأن المجتمعات موبوءة ومثار للمشكلات وعبء على ذوي النفوس الرقيقة الشعور.( )
المطلب الثالث: الخيال وعلاقتها بالصورة
و يتّصل بمفهوم الصورة الخيال الذي تتخلّق في ظلّه الصور الشعرية، فكلّما ارتقت القدرات التخيلية للأديب كان قادرا على الجمع بين الأشياء المتباينة، والعناصر المتباعدة في علاقات متناسبة تزيل التباين والتباعد، وتخلق الانسجام والوحدة. ( )
الصورة الشعريّة مُرتبِطة بالخيال؛ فهي وليدة خيال الشاعر وأفكاره؛ إذ يتيح الخيال للشاعر الدخول خلف الأشياء واستخراج أبعاد المعنى؛ لأنَّها طريقته لإخراج ما في قلبه وعقله إلى المحيط الخارجيّ ليشارك فكرته مع المتلقّي؛ لذلك ينبغي أن يكون الشاعر صاحب خيال واسع؛ لكي يتمكّن من تفجير أفكاره وإيصالها إلى المُتلقِّي. ( )
ومما يميّز الصورة عند شعراء أبولّو الخيال الرومانسي الهائم بعيدا عن عالم البشر، ومن هذه الصور يقول محمود حسن إسماعيل ( ):
عيناك قد طارتا بروحي *** في عالم ساحر الرواق
نهلت من وحيه الأغاني *** عذراء قدسية المراقي
هذا هو الخيال الذي جعل عيني حبيبته تطيران بروحه بعيدا
ومن الصور الخيالية عند الشابي قوله ( ):
وسكتا وغرّد الحبّ في الغاب *** فأصفعي حتّى حفيف الغصون
وبنى الليل الربيع حوالينا من *** السحر والرؤى والسكون
معبدا للجمال والحبّ شعريا *** مشيدا على جناح السنين .
إن الصورة عند الشعراء الرومانسيين أو الوجدانيين تمثّل مشاعر وأفكار ذاتية، فيخلطون مشاعرهم بالصور الشعرية، ويناظرون بين الطبيعة وحالاتهم النفسية، ويرون في عناصرها أشخاصا تفكّر وتأسى لحالهم، كما يعلنون تبرمهم وسخطهم على مناظر الطبيعة التي يرونها غير متجاوبة مع مشاعرهم، فالصور في أشعارهم تتمحور حول الذات وتغوص في أعماقها( ).
كما يعتمد كثير من الشعراء الرومانسيين في صورهم على طائفة من التشبيهات والمجازات ذات الطبيعة الوجدانية والخيالية الخالصة والتي تكثر فيها الألفاظ المحمّلة بالدلالات الشعرية والرموز ( ).
و قد تفنّن شعراء جماعة أبولّو في استخدام المفردات اللغوية استخداما خاصّا مبتكراً، مما أضاف جديدا في المعجم الشعري الحديث؛ و شاعت في شعرهم بعض الألفاظ ذات الدلال المختلفة، والتي تعبر عما في نفوسهم والتي تعكس شخصيتهم في أشعارهم اشتركوا فيها جميعا، مثل: الفراشة والفراشات، كانت هذه الكلمة ذات الدلالة الإيحائية لدى شعراء أبولّو ؛ لأن الفراشة فيها الرقّة والضعف أيضا، وحركة الفراشة توحي بالحيرة والاضطراب مما يتلاءم مع نفوس شعراء التي كانت تعاني الحيرة والاضطراب، قال ناجي: ( )
وأنا حبُّ وقلب ودمٌ *** وفراش حائر منك دنا
يقول علي محمود طه: ( )
يخيّل للعين فيما ترى *** فراشة روضُ جفتها الظلال.
ويكون الحبّ مصدر العذاب إلا أن المُحبّ هذا العذاب فكذلك الفراشة تنجذب دائما للضوء النور مع أنه مصدر هلاكها، يقول الصيرفيّ: ( )
أيرتاع الضياء الصفو *** من خفق الفراشات!
وكم لقيـــت فراشات *** على الضوء احتراقات
وكــــــــــــل فراشة تلتــــذّ *** آلام الجـــــــراحــــــــــــــــــــات
ومـــــا زال الفراش له *** غـــــــــــــــــــــــرام بانتحارات.
كما يعتمد كثير من الشعراء الرومانسيين في صورهم على طائفة التشبيهات والمجازات ذات الطبيعة الوجدانية والخيالية الخالصة ، والتي تكثر فيها الألفاظ المحمّلة بالدلالات الشعرية والرموز. ولكن هذه التشبيهات والرموز تدور حول محاور من ألفاظ ومعان كالنور والألوان والألحان والعطور. وتمتزجّ هذه العناصر في الصورة الشعرية الواحدة فتغنينا رومانسية ألفاظها عن التشبيه المبتكر أو المجاز الطريف.
ومن مظاهر التجديد في الصورة الفنية التي مارسها شعراء جماعة أبولّو-بالإضافة إلى التشخيص-( ) :
التشبيه:
استخدم شعراء أبولّو التشبيه في صورهم الفنية إذا كان تشبيها تربط بين المشبه والمشبه به أداة أم كان تشبيها بليغا، وقد تتراكم عندهم الصور لتعمل جميعا على إجلاء صورة مشبه واحد في القصيدة أو المقطع، وتتراكم التشبيهات البليغة عند ناجي، فيقول مخاطبا محبوبته، يقول: ( )
يا مناجاتي وسري *** وخيالي وابتداعي
ومتاعا لعيوني *** وشميمي وسماعي
تبعث السلوى وتنسي *** الموت مهتوك القناع.
وكما تتراكم التشبيهات عند الشاعر لإبراز الصورة فإن الصورة التشبيهية قد تأتي مفردة وهذا أكثر استخداما مثل تشبيه أبو شادي لقلبه مستخدما أداة التشبيه، كأن مصــــورا مدى تعلقه بمحبوبتـــــه، قال: ( )
أناجيك في دقات قلبي والها *** وكان فؤادي طائر رفّ في العتيد
تراسل الحواس:
بحيث يستعمل للشيء المسموع ما أصله للشيء الملموس أو المرئي أو المشموم، ومن هنا يتحدّثون عن نعومة النغم أو بياض اللحن، أو تعطّر الأغنية، كما يتحدّثون عن العطر القمري، أو الأريج الناعم وغيرها (محمد،2006م:83) . نجد عند عليّ محمود طه، يقول في الأنوار:
دعيه يرشف الأنوار *** من ينبوعها السامي (طه،بدون:341) .
أما الهمشري فإنه يجد العطر المشموم شفقا منظورا، حيث يقول:
أنت عطر مجنّح شفقي *** فاوح الروح في همود الذهول
قد سوي في الخيال طيب *** شذاه من زهور في شاطئ مجهول (جودت،1963م:110) .
وهكذا عملت جماعة أبولّو على استلهام جراءة الرمزية في تحطيم الحوائط العازلة بين ما هو محسوس وما هو ملموس، وما هو مرئي وما هو مسموع في اللغة (عشري،1978م:174) . واستلهمت التراث بطريقة مبدعة متأثرة بالشعر الغربي.
التجسيد:
هو تحويل المعنويات من مجالها التجريدي إلى مجال آخر حسّيّ، ثم بثّ الحياة فيها أحيانا وجعلها كائنات حيّة تنبض وتتحرّك (هيكل،بدون:99) .
وترى محمود حسن إسماعيل يجسد الشك في قوله:( )
قد كنتُ روضا يانعا كل زهرة *** لديه أروي في عطرها رأس حبّة
وأسمع فح الشكّ تحت ظلاله *** كما يسمع اللحن الرخيم بضجة
ففيه أفاع للظنون غريبة *** تطلّ مع الأضواء من كل زهرةٍ
ويجسد الصيرفي أيضا المعنى فيجعلها كائنا حيّا يموت ويحيا، يقول:( )
شكرا لمن أحييتَ صوت *** المعنى فنور الزهر ببستاني
التجريد:
وهو تحويل المحسوسات من المجال المادّي الذي هو طبيعتها إلى مجال معنوي هو من خلق الشاعر، فالشاعر أبو شادي يجرّد محبوبته من صفاتها الإنسانية ويجعلها أنغاما ونورا وآيات هدي يقول: ( )
يلقاك أنغاما ونورا كما *** كما يلقاك آيات هدي سطره
قال إبراهيم ناجي: ( )
عرفناك كالمحراب قدسا وروعة *** وكنت صلاة القلب في السر والجهر
النتائج و التوصيات:
قد توصَّل هذا البحث إلى مجموعة من النتائج و التوصيات، من أهمها ما يلي:
أولاً: النتائج:
1- حمل شعر جماعة أبولو جوانب فكرية وتجارب ذاتية، تمتلئ بالروح الرومانسية، رسموا بها لوحات فنية راقية بإفراغ اللغة في قالب جمالي بديع مؤثر، يعكس بوضوح نظرتهم الخاصة إلى الحياة.
2- اعتمدت صورهم على التشخيص أو الأنسنة والخيال المجنح.
3- في الاستعارة أبدعوا إبداعات رائعة، وبرعوا في مجال التشخيص؛ لأنه يعتمد على أنسنة الجوامد. وربما كان الإنسان أشد ما اهتموا به، وأكثروا من استخدام مفردات الطبيعة الخلابة، واللغة السهلة الساحرة، وابتكروا ألفاظا جديدة.
4- اقترن التصوير الحسي لديهم بالتصوير النفسي، فلم يصفوا شيئاً وصفاً خارجياًّ؛ بل خلعوا عليه مشاعر إنسانية.
5- اتجه شعراء أبولو إلى الاعتماد على القوة الشعرية في ذاتها، حتّى يؤدّي الشعر رسالته من إعزاز الخير وتقديس الجمال، وتحرّر الشخصية، وصدق العاطفة، والوحدة التعبيرية، والاعتقاد بتطوّر لغة الشاعر وأخيلته وتعبيره، بالإضافة إلى تطوّر نفسيته وأفكاره، ومثله العليا.
6- النص الشعري عند شعراء أبولو مكون من مجموعة من الصور الجزئية لكنها تندرج تحت صورة واحدة هي الصورة الشاملة؛ لأن التجربة الشعورية واحدة في النص الشعري؛ فتتداخل العلاقات الإيقاعية مع الحالة النفسية للشاعر، وتظهر الصورة الشاملة في القصيدة، وليست الصورة الجزئية وحدها.
7- جاء معظم شعر الجماعة جديدا في روحه وفي صياغته –في أحايين كثيرة-، جامعًا بين الفكرة والعاطفة في إبداع فنيّ مفعم بالإشعاءات الجمالية.
8- التجديد في طرائق التعبير و الإبداع بابتكار صور فنية مميزة ظلت تشدّ المشتغلين بالأدب إلى يومنا؛ فقد تمكنوا من ابتكار صور جديدة مغايرة لكل ما كان مألوفًا، والتفوا إليها ووظّفوها توظيفات متعددة للتعبير عن مكنونات النفس و رُؤاهم و مشاعرهم.
1885 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع