محمود داود برغل
أوراق من الذاكرة_الحلقة الأولى
7 تشرين الأول عام 1973م
نفس الشارع ..وذات المكان ..الزمان هو اليوم السابع من تشرين الأول من العام 1973م الموافق للحادي عشر من رمضان 1393هجرية.أشم عبق ذلك اليوم .عيون طفل تبرق فرحا بمنظر مبهج ..قطعات عسكرية تمر في شارع رئيسي يشطر مدينتي الصغيرة العزيزية شطرين..خرج الجميع من أهاليها يودع تلك القطعات..وكأني أسمعها الآن !!!
حرب أكتوبر أو حرب تشرين بدأت بالأمس وهاهي جحافل اللواء المشاة الآلي العشرون احد تشكيلات الفرقة الآلية المشاة الخامسة بقيادة العقيد الركن سلمان باقر تدخل مدينة العزيزية قادمة من العمارة متجه إلى الحدود السورية.
زغاريد النساء وأصوات الرجال بحناجر مدوية وأطفال يتقافزون هنا وهناك وأنا بينهم.أنه يوم محفور بذاكرتي الى الأبد.نظرات الجنود التي تقدح بغد آت كأنهم ذاهبون الى الجنة حيث السعادة الأبدية.أنهم في سبيل بذل ارواحهم فداء للوطن وتلبية لنداء القدس أولى القبلتين وثاني الحرمين دون أن تطرق أعينهم ..يجلسون في تلك العربات بكل هدوء والأبتسامة مرسومة على محياهم ..تبتعد عربة تلو عربة آخرى وعدد من الدبابات تسير على السرفات لعدم كفاية العجلات الناقلة وقلبي معهن ,ليتني كنت حينها اكبر قليلا لغادرت معهم فأنا في هذا اليوم ابن عشر حجج لم أبلغ الحلم بعد.مرت الأيام والسنين وأنا أفكر ,ماذا لوكنت معهم في ذلك اليوم.؟ أتساءل وأتمنى !!وأشك في صدق نواياي.فتأخذني الحماسة إلى الصعود الى تلك المصفحات ومعرفة المستقبل.وها انذا أقع في ذلك المستقبل وأعرف ماذا كان بعد ذلك اليوم .مازلت أذكر أدق التفاصيل.ذلك الشارع الممتد على طول ممر الذهاب إلى بغداد وأهالي السعد ونية والسراي على بكرة أبيهم يقفون منتشرون على طول الرصيف بمحاذاة إعدادية زراعة العزيزية ومطعم الحاج حمد وبيت كاظم كبابجي وحميد أحميدة ومحلات وزير والملا مديح ومقهى سعدون ومخزن وفاء للحاج عبد الحسين الربيعي وحسينية الحاج عباس ألشمري وفندق الحاج درويش الفرطوسي والسوق العصري ومطعم السيد مهدي ومركز الشرطة ومحطة الوقود الداخلية حتى بيت الحاج يوسف العطية وصولا إلى طاق العزيزية الحديدي.
تفاصيل قليلة لكنها محفورة بداخل ذاكرة ذلك الطفل الذي لم يكبر بعد.وحلم لم يتحقق وذكريات لا تنسى أبدا.يشيخ الجسد.. وتذبل العيون لكن القلب مازال يخفق بحب الوطن .. وحب من يحب الوطن ويضحي من أجله.أشعر بالأسف لأنني لم أكن معكم أيها الجنود البواسل لقد عملت ما بوسعي لتوديعكم بتلك ألأيادي الصغيرة وورود أقتطفتها من حديقة المنزل وقطع من حلوى وضعتها والدتي رحمه الله في جيوب ثوبي (طششتها) فوق رؤوسكم المرفوعة بعز وشموخ.كل خطوة خطو تموها سجلها التاريخ .لكن ذلك الطفل مازال يقفز أمامي كلما مررت في ذلك الشارع الذي تغيرت الكثير من معالمه .مازلت اسمع الزغاريد والهتاف وخطواتي التي تسرح نحو عربات الجنود ومصفحاتهم.لتلحق بهم لكن هيهات.مضى التاريخ بألئك الشباب ليبقوا شباب في ذاكرتنا شباب إلى الأبد.مضى التاريخ بنا فهرم الجسد وشاخ ولم يذكرنا أحد.يمضي الوقت فاصحوا على أصوات السيارات المسرعة.أجتاز الشارع وظلال الطفل تأبى أن تبتعد كلما أبتعد عنه يسرع خلفي فهو لازال يريد الصعود ويخشى المستقبل فيجد نفسه الآن في خضم المستقبل
محمود داود برغل
1058 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع