وفيق السامرائي
البارحة، صادف مرور ربع قرن على وقف حرب السنوات الثماني بين العراق وإيران، حرب كُتب أن أعيش تفاصيلها في مركز القيادة الرئيس للقوات المسلحة، وفي الميدان؛
حرب أوجدت أسبابها الخلافات في المصالح والرؤى والأفكار والكراهية الفردية، واستندت بداياتها والإصرار على مواصلتها إلى تقديرات خاطئة تناوب فيها الطرفان، ضعفا في الحسابات الاستراتيجية وقصورا في فهم الصراعات الإقليمية والدولية. وكانت الأحداث أكبر من نمط التفكير السياسي الذي ساد آنذاك، في حرب صعبة وفق كل المقاييس والاعتبارات، تسببت في خسائر بشرية ومادية هائلة، وخرج منها الطرفان واقفين على أقدامهما رغم ثقل الجراح، وكانت كفة العراق أقوى كثيرا ساعة وقف الحرب.
أحيانا، سجلت الخسائر البشرية أرقاما طفيفة للغاية على جبهة برية طولها أكثر من 1000 كيلومتر، وعلى طول مياه الخليج وعرضها، وفي أعماق البلدين بالطيران والصواريخ، وتضاعفت الخسائر بأرقام كبيرة في العمليات الكبرى. ففي عمليات الهجوم المقابل على قوات الحرس الثوري التي عبرت شط العرب واحتلت الفاو عام 1986، سجلت الخسائر العراقية أكثر من 1500 قتيل وجريح يوميا على مدى ثلاثة أسابيع متواصلة، ومثلها تقريبا في عمليات شرق البصرة عام 1987. ولولا العمالة المصرية في القطاعات المدنية، لتوقفت الحياة خلف الجبهات، بسبب سوق معظم الشباب إلى الوحدات القتالية لغلق الثغرات في وجه الهجمات المتكررة للقوات الإيرانية، أو لتأمين قوة الضربة للاندفاع في الأعماق الإيرانية.
كانت الاستخبارات العسكرية العراقية متقدمة تكنولوجياً وتحليلياً على المستويين الميداني والاستراتيجي، مدعومة بتغطية من الأقمار الصناعية، التي اعتبر دورها متمما وليس حاسما. وفي المقابل كانت الاستخبارات الإيرانية حديثة التجربة نتيجة تفكيكها بعد سقوط نظام الشاه، إلا أنها كانت لا تكل ولا تمل. وفي المحصلة بقي العراقيون متفوقين في مجال المعلومات وقراءة الاحتمالات وإنذار القوات بدقة، مما أثر إيجابا في نتائج الحرب، وتفادي الانسياق وراء خطط عشرات العمليات المؤثرة في سير الحرب، وبخلافه كان مستحيلا تفادي الوقوع في ظلام المباغتة.
وسجلت الحرب النفسية دروسا كبيرة، وكانت تصريحات سياسيي إيران وخطباء جمعة طهران مجالا خصبا لتحليل الاستخبارات من جهة، وللحرب النفسية الإيرانية من جهة أخرى. وبقي المرشد الأعلى ورفسنجاني على قائمة أبرز من خضع للاهتمام والمتابعة، لنشاطهما الكبير في ساحات العمليات والقرارات العليا للحرب. وتميزت لغة المرشد منذ ذلك الوقت بموقف معاد للولايات المتحدة، خلاف رفسنجاني الذي اعتبرته الأجهزة الأميركية وقتذاك أقل الزعماء الإيرانيين تشددا.
وتميزت قيادتا البلدين بالاستعداد لاتخاذ قرارات حاسمة مصيرية بلا تردد، وبقيت سيطرة الأمن العام على الطرفين صارمة، والحياة المعيشية على الطرف الإيراني عسيرة للغاية، على عكس الوضع العراقي الذي استند إلى دعم مالي عربي، ما كان مفترضا تجاهله في فترة ما بعد الحرب. ووفرت العلاقات الدولية للعراق تأمين مصادر تسليح عدة للتعويض عن النقص الكبير بخزين قنابل المدفعية والدبابات.. وبالمعدات القتالية. ولعبت دول عربية دورا حاسما في هذا المجال. وتحققت بداية الحسم بعملية الخداع الاستراتيجي، الذي أمن استعادة الفاو بضربة قلبت التوازنات كلها، ثم تواصل عمليات التعرض بسلسلة متعاقبة أدت إلى قبول إيران بوقف الحرب. ولم يظهر أي اتجاه يدعو إلى مواصلة الحرب بعد قبول إيران بوقفها، على أساس استثمار تطور الموقف القتالي لصالح العراق.
وكُتب أن أكون أول ضابط عراقي يقود اللجنة التعبوية العسكرية المشتركة يهبط في مطار طهران، وأن أشارك في جولات المفاوضات الإيرانية – العراقية برعاية الأمم المتحدة في جنيف، لأشهد مرة أخرى الفجوة العميقة بين تفكيري الطرفين، ومع أنها كانت مفاوضات مملة وعقيمة، إلا أنها ساعدت في زيادة تعرف الفريقين على التعقيدات عن قرب.
كان ممكنا أن يحتفظ العراق بقدر معقول من قدرته العسكرية التقليدية، بما لا يثير حساسية الآخرين وشكوكهم، وأن يتخطى الصعوبات الاقتصادية، واستثمار التعاطف العربي العام والخليجي خاصة معه لتسجيل نهضة اقتصادية كبرى، إلا أن احتلال الكويت قوّض كل ما تحقق، وحطم كل الآمال المفترضة دفعة واحدة. وبات واضحا منذ ذلك الوقت أن العراق سار على طريق الجحيم، فتحطم أحد أعظم بلاد الشرق. وهذه هي كوارث السياسات الخاطئة، التي لم تبق حتى أطلالا، وليس أخطاء العسكريين كما يحلو للبعض قوله وتصويره.
1081 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع