د. محمد عياش الكبيسي
في رمضان يتجدد الحديث عن معركة بدر من على منابر الجمعة ووسائل الإعلام المختلفة وحتى على مستوى المسابقات والمسلسلات وبرامج الأطفال، إلا أن الفكرة الجوهرية لهذه المعركة المصيرية تكاد تكون غائبة أو مهمشة في كل هذه الفعاليات، وهذه ظاهرة عامة في قراءة السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي بشكل عام، حيث يتم التقاط الدروس والعبر السطحية أو الشكلية أو المقولات الإيمانية والبطولية والتي تشكل سمة عامة في تلك الحقبة المباركة وليست تحليلا علميا دقيقا يقدّم النموذج القابل للتأسّي والاقتداء لأمة كتب الله عليها أن لا يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها.
لماذا كانت معركة بدر؟ الجواب الذي يتردد في كل هذه الفعاليات أن هناك قافلة لقريش فيها تجارتهم وأموالهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتدب المسلمين لاعتراضها واسترداد أموال المهاجرين التي اغتصبها المشركون في مكة، وهناك من يضيف بعدا آخر وهو الثأر من طغاة قريش الذين كانوا ينالون من أجساد المسلمين العارية على رمضاء مكة فيستشهد مثلا بمقولة بلال لمّا رأى أمية بن خلف (أميّة.. لا نجوت إن نجا)، حيث كان أمية يسومه في مكة أصناف العذاب والهوان.
إن هذه الدوافع لا تختلف عن الدوافع المألوفة لأغلب الصراعات والمعارك الصغيرة والكبيرة والتي تشهدها المجتمعات البشرية على اختلاف معتقداتها وقومياتها، وحتى مع ملاحظة البعد الديني للمعركة وهو لا شك البعد الأهم فإن هذا مع البعدين السابقين لا يمنح هذه المعركة ميزة عن معارك الإسلام الأخرى إلا من حيث السبق الزمني، فهل يستحق السبق الزمني كل هذا التمييز؟
إن القرآن الكريم هو الذي سمى هذه المعركة بيوم (الفرقان) وهي تسمية فيها أكثر من دلالة، وقد أشار القرآن لهذا في أكثر من موضع فقال وهو يتحدث عن غاية المعركة وهدفها الأبعد: (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) [الأنفال:8]، ثم قال في السياق نفسه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) [الأنفال:24]، ويحدد القرآن النيّة التي يجب أن يستحضرها المقاتل في هذه المعركة: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) [الأنفال:29]، ويحذّر من الافتتان بالغايات الدنيوية القصيرة (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ) [الأنفال:7]، (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [الأنفال:28]، وهذا السمو في الغايات والمقاصد هو الذي استنزل المدد السماوي (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ) [الأنفال:9]، (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) [الأنفال:12].
إن هذه الأجواء الاستثنائية التي أحاط القرآن الكريم بها معركة بدر تستدعي مستوى آخر من التفكير والتحليل يتجاوز الطروحات العمومية المبسّطة ويستعلي على الاهتمامات الانفعالية والمقاصد الجزئية وإن كانت مشروعة في ذاتها. لقد كان الصراع حتميا ومتوقعا في كل لحظة ليس بسبب المظالم التي تعرّض لها المسلمون في مكة، وليس لمجرد الخلاف الديني بين الموحدين والمشركين، فقد كان هناك موحدون قبل البعثة ومنهم قس بن ساعدة وورقة بن نوفل، كما كان هناك اليهود والنصارى إلى جنب عبدة الأوثان ولم تحصل طيلة ذلك التاريخ معركة واحدة رغم شدّة الخلاف الديني، وحتى بعد البعثة النبوية كان المسلمون يتحالفون مع خزاعة المشركة ويتعاهدون مع القبائل اليهودية كما نصّت الوثيقة النبوية. إن محور الصراع كان حول قضية واحدة هي السيادة، حيث كانت قريش متمسكة بحقها التاريخي المتوارث في السيادة الدينية والمجتمعية على أم القرى ومحيطها العربي الأوسع، بينما كان هناك مشروع آخر يقوده الإسلام يتجاوز هيبة قريش وتاريخها، وقد تمكن هذا المشروع الجديد بالفعل من بناء دولة واعدة بهوية جديدة ودستور جديد، وقد كان من المتطلبات الأولية والضرورية لهذه الدولة هو إعلان سيادتها على الأرض، وهذا هو السياق المنطقي والطبيعي بعد إعلان الوثيقة النبوية والتي كانت إعلانا صريحا بقيام الدولة الجديدة وبمرجعيتها الإسلامية الصريحة رغم أنها كانت تضم مكونات أخرى غير إسلامية ومن أبرزها القبائل اليهودية المعروفة.
قريش في الطرف الآخر لم تعترف بهذه الدولة ولا بدستورها ولا بمرجعيتها، ومن هنا كان الصدام حتميا وذا طابع سيادي مهما كانت طبيعة الحدث الذي سيشعل هذا الصدام. لقد كان اعتراض الرسول صلى الله عليه وسلم لقافلة قريش وهي تمر في أرضه وفي حدود دولته أمرا طبيعيا ولا يحتاج إلى تبرير بالمظالم السابقة مع أنها حق لا غبار عليه، لكن هناك فرق جوهري بين حق السيادة على الأرض وحق استرداد الأموال المسروقة أو المغتصبة، وهذا هو المتعارف عليه في كل دول العالم قديما وحديثا، فلا توجد دولة تسمح بمرور القوافل عبر أراضيها من دون إذن أو اتفاق مسبق، بيد أن المجتمع العربي لم يكن قد اعتاد بعد على ثقافة الدولة والسياسات اللائقة بها، وقد أدّى هذا بشكل مباشر إلى إغفال هذا الحق ومن ثم التركيز على حق استرداد الأموال المغصوبة، وهناك حوادث كثيرة وخطيرة فسّرت بهذه الطريقة المبسّطة ومنها مقتل الخلفاء الراشدين الثلاثة الواحد تلو الآخر عمر وعثمان وعلي –رضي الله عنهم وأرضاهم-وهي أخطر جريمة سياسية استهدفت الدولة الإسلامية ووجودها واستقرارها، لكن مجريات الأحداث تؤكد أن المسلمين تعاملوا معها كجرائم جنائية شخصية يتم بحثها في إطار القصاص أو الدية أو العفو الشخصي!
أدركت قريش الغاية من هذا الاعتراض فكان ردها على لسان زعيمها أبي جهل: (والله لن نرجع حتى نرد بدرا فنقيم ثلاثا ننحر الجزُر ونشرب الخمر فيسمع العرب بنا وبمسيرنا فلا يزالون يهابوننا)! وحين دارت عليهم الدائرة في بدر وخسروا خيرة قادتهم وفرسانهم راحوا يكررون المحاولة في أحد والأحزاب بتخطيط أدق وتحشيد أكبر، ورغم الجراح التي مني بها المسلمون في أحد وبلوغ القلوب إلى حناجرها في الأحزاب إلا أن الدولة بقيت بهيبتها وسيادتها حتى اضطرت قريش في صلح الحديبية للاعتراف بهذه الدولة وعقد الاتفاقية الشاملة معها، وهذا هو الذي سمّاه القرآن الكريم (فَتْحًا مُبِينًا).
في معركة بدر أشار القرآن إشارة واضحة إلى فتح الحديبية كاحتمال وارد ومقبول لنتيجة الصراع فقال في سياق تغطيته لبدر: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال:61-62].
بعد الحديبية بادر الرسول صلى الله عليه وسلم بمراسلة ملوك الأرض ليعلن لهم أن هناك دولة جديدة قد نشأت في الجزيرة العربية بهويّة جديدة ورسالة جديدة وباعتراف (إقليمي) كامل، وربما كان باستطاعته عليه الصلاة والسلام أن يراسل أولئك الملوك قبل هذا التاريخ، لكن هناك فرق بين أن يراسلهم بوضعه الحالي بعد الفتح أو يراسلهم كمهاجر تلاحقه قريش من أرض إلى أرض.
لقد كانت بدر معركة صغيرة بحساباتها الميدانية فلم تدم إلا بضع ساعات وبمساحة محدودة جدا وبأعداد قليلة من المقاتلين وبخسائر لا تكاد تذكر إلا أنها كانت معركة أكبر من كل المعارك بنتائجها وآثارها على هذه الأرض
971 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع