د. علي محمد فخرو
المرجعية الإيمانية العربية للأخلاق
ذكرنا في مقالين سابقين كيف قامت الحضارة الغربية بتسييد الإنسان المطلق في الموضوع الأخلاقي وتهميش الدور الإيماني الروحي الديني كمصدر للقيم الأخلاقية في كل شؤون الحياة التي تهم الإنسان. من هنا الأهمية الكبرى لبناء مرجعية ذاتية عربية للقيم الإنسانية والأخلاقية تأخذ بعين الاعتبار تاريخ وثقافة هذه الأمة وتراثها الروحي الإيماني البالغ التجذر في نفوس وعقول شعوب هذه الأمة، مع الاستفادة من فكر ومرجعيات الآخرين التي لا تتعارض مع ما نريد بناءه لحضارتنا.
إن ما يعطي أهمية للمرجعية الدينية كجزء هام وأساسي في بناء المرجعية الذاتية هو الآتي: أولاً الاتفاق شبه العام من أن الدين، إضافة للجوانب العقائدية والتعبدية منه، هو رسالة أخلاقية في الدرجة الأولى، والتي هي في كثير من تفاصيلها تأكيد لكثير من القيم الأخلاقية الفطرية عند الإنسان.
وثانياً أن هناك فرقاً بين الاستجابة الإنسانية لقيم أخلاقية وضعها الإنسان، وبالتالي قابلة لأن تكون مليئة بالثغرات والأخطاء، وبالتالي أيضاً غير ملزمة وقابلة للأخذ والعطاء والاستعمالات الانتهازية، وبين قيم هي أوامر وتوجيهات إلهية عليا تتصف بالطبع بالكمال المطلق. هذا بالطبع بالنسبة للإنسان المؤمن المصدّق المستسلم لوجود الإله الذي يسميه دينه ويأمر بطاعته.
وثالثا، وكنتيجة لتوفر ما جاء في «ثانياً» من إيمان صادق، لا يمكن للإنسان إلا أن يؤمن بأن الإله الذي يعبده هو مراقب لتصرفاته ولالتزامه بالقيم الأخلاقية التي أمر الله بها مثلاً في دين الإسلام. إن شعور الإنسان العميق بأن هناك من يتابع كل صغيرة وكبيرة من ممارسته للقيم الأخلاقية المأمور بها من قبل السلطة الربانية، وأن تلك السلطة تراقب الظاهر والباطن وتعرف السر وما أخفى، تجعل أخذه بعين الاعتبار لكل قيمة أخلاقية ليلاً ونهاراً، ظاهراً وباطناً، وليس بصورة انتقائية نفعية. هذا الإنسان يعرف أن المساس بالقيم الأخلاقية هو مساس بايمانه وبعقيدته وبالتالي بقربه أو بعده من الرب القدير.
بالنسبة للمسلمين هناك القرآن الكريم الذي يزخر بالتوجيهات والأوامر القيمية الأخلاقية، وهناك الأحاديث النبوية المؤكدة المطهرة، وهناك أيضاً الكثير من الاجتهادات الفقهية المتزنة المرتبطة بالموضوع. نحن بالفعل أمام مصادر هائلة وغنية من التوجيهات الأخلاقية التي في اعتقادي ستغطي الموضوع برمته، موضوع الفضائل والرذائل. وبالطبع فان الإخوة المسيحيين لديهم مصادرهم ومرجعياتهم الدينية المتعلقة بالموضوع.
المهم بالنسبة لهذا الموضوع هو الرفض التام لمحاولات فصل الدين، كمرجعية، عن الأخلاق، قيماً وممارسات، إذ ان ذلك سيكون كارثة لكل مناحي حياة الإنسان الدنيوية.
سيكون من الخطأ الاكتفاء بذلك النبع الهام وحده، ذلك أن إبعاد العقل والإرادة على الأخص، بالنسبة لهذا الموضوع، سيبعد الإنسان عن واقع تطبيقات وسلوكيات الأخلاق الإنسانية التي تتغير وتتبدل عبر الأزمنة. من هنا الأهمية القصوى للإرتهان إلى العقلانية الإنسانية وإلى الإرادة الحرة الإنسانية للتعامل مع هذا الجانب من حقل القيم الأخلاقية وإبعاده عن التزمت والانغلاق من جهة ولكن، وفي نفس الوقت، حمايته من العبث والعابثين، كما يحدث الآن في الكثير من المجتمعات، وعلى الأخص الغربية منها كما أسلفنا في مقالات سابقة. فالمحاولات العبثية الحالية هي في الواقع تظلم الأخلاق والدين وتؤدي إلى تشويه الاثنين، بالرغم من أنها تدعي أنها ستحرر الاثنين من تبعات كل منهما.
ما يحتاج شباب وشابات هذه الأمة معرفته هو أنها جرت محاولات كثيرة عبر أكثر من قرن لبناء تلك المرجعية العربية دون الوصول إلى توافق عام بالنسبة لتفاصيل هذا الموضوع. وهناك ضرورة لأن تضع شابات الأمة ويضع شبابها جهداً مكثفاً للاطلاع على أدبيات الموضوع. وليس بغريب على هذه الأمة أن تحاول عبر القرن الماضي أن تبني المرجعية الذاتية، ذلك أن موضوع الأهمية الكبرى للعقل الإنساني كمتفاعل على وموضح للرسالة السماوية قد خاضته جماعات المعتزلة في الماضي ويحتاج الآن لمعاودة النظر فيما قالته وتجديده، وبالتالي فالعقلانية ليست غريبة على هذه الأمة وكذلك موضوع الإرادة الإنسانية الحرة قد نوقش مطولاً في الماضي، وبالتالي ليس بالموضوع الغريب. إن مناقشة الأمرين كجزء من بناء المرجعية الأخلاقية اصبح من الضرورات.
عليه، فسنستمر في طرح هذا الموضوع حتى نجعله واضحاً وأساسياً في عقول ونفوس وضمائر شبابنا وشاباتنا.
1619 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع