الفريق الركن الدكتور
عبد العزيز عبد الرحمن المفتي
محاضرة الحجج السياسية لولاية الموصل-كوردستان الجنوبية-العراق-ذات الاغلبية الكوردية
1. أهالي ولاية الموصل (كوردستان العراق) وجهاً لوجه مع اللجنة الأممية المتشكلة في عصبة الامم لتقصي الحقائق (آراء أهالي ولاية الموصل) الكوردية
إن آراء الأهالي في ولاية الموصل كوردستان العراق ذات الاغلبية الكوردية هي: أولت الحكومة التركية وزناً كبيراً لأهمية رغبات الأهالي في الإقليم الكوردي المتنازع عليه ولاية الموصل، وكانت حجتها الكبرى التي وضعت فيها أكثر ثقلها هي إن الإقليم ولاية الموصل ذات الاغلبية الكوردية (كوردستان العراق) يجب أن يبقى في حيازتها الى (تركيا الحديثة) لأن ذلك هو رغبة السكان ولاية الموصل الكوردية وأكدت بأن الكورد الذين يؤلفون الأكثرية فيها والترك بنسبة أقل من سكان الإقليم المتنازع عليه (الموصل) يفضلون جداً العيش في تركيا الحديثة كما كان شأنهم في ذلك منذ أجيال عديدة ومن المحتمل أن يميل العرب فيها أيضاً نحو تركيا الحديثة. وعلى أي حال فلو جمعوا مع الطوائف غير المسلمة فسيكونون أقلية ولذلك ليس من العدل في شيء ضم ولاية الموصل كوردستان العراق إلى العراق العربي الجديد بسبب وجود هذه الأقلية العربية في الإقليم (ولاية الموصل-كوردستان العراق) وتحديدا في مدينة الموصل العربية.
وتسند الحكومة البريطانية حججها السياسية كذلك إلى وجهات نظر الأهالي في الموصل بمدى واسع كما تتصورها هي مؤكدة بأن العرب يفضلون كثيراً الانضمام إلى دولة العراق العربية كتلة واحدة، وأن اليزيدية واليهود يشاركونهم هذه الرغبة في حين يمتلك المسيحيين الرعب من فكرة تسليمهم إلى (أنقرة) (اللورد كرزون) وزير خارجية بريطانيا في مؤتمر لوزان – 23 كانون الثاني 1923) وأما عن الكورد فتؤكد الحكومة البريطانية أنهم لا يرغبون في العيش ضمن تركيا الحديثة كما دلت على ذلك ثوراتهم الكوردية المتعاقبة ضد الحكم العثماني وكما كشف عنه استفتاء العامين (1919 و1921).
في فصل سابق من هذا التقرير برهنت اللجنة الاممية لعصبة الامم (لتقصي الحقائق) على استحالة إجراء الاقتراع الذي تفضله الحكومة التركية الحديثة ومع هذا فقد بذلت أقصى ما في جعبتها للتأكد من آراء الأهالي في ولاية الموصل الكوردية المعنيين ولهذا الغرض استجوبت عدداً كبيراً من الأشخاص معظمهم جرى انتقاؤهم من القوائم التي قدمها المستشاران (البريطاني والتركي). وجاهدت في المراكز الرئيسة للمناطق الأكثر اتساعاً من البلاد ولاسيما في مدينة الموصل لأجل التأكد من آراء الأشخاص الذين هم على درجة ما من الثقافة والنفوذ كالوجهاء والرؤساء الروحانيين والمنتخبين الثانويين (في أيام الحكم العثماني التركي وكانت تجري الانتخابات على الطريقة غير المباشرة) وملاكي البيوت والقرى ومن لف لفهم. وواجهت أيضاً عدداً من الشهود قدمت أسماؤهم بوصفهم وجهاء وذوي مكانة وعينت اللجنة الاممية لعصبة الامم (لجنة تقصي الحقائق) باتخاذ كل وسائل الحيطة لضمان سرية الآراء التي أدلي بها لإشاعة الثقة والاطمئنان في نفوس الشهود. وبلغ مجموع ما استجوب من الأشخاص على انفراد حوالي (800) شخص.
وجابهت اللجنة الاممية لعصبة الامم (لجنة تقصي الحقائق) في بداية عملها صعوبات جدية يعزى قسم منها إلى إحجام كثير من الشهود عن الإفصاح عما يجول في أنفسهم. ومنها يعزى إلى أن عدداً كبيراً من التصريحات قد تأثرت في الواقع بمختلف العوامل التي أثارت بعض الشكوك في أصالة الأجوبة.
وبصرف النظر عن تشجيع أعضاء لجنة تقصي الحقائق الاممية لعصبة الامم الشهود ومحاولتهم إشاعة الاطمئنان في نفوس المستجوبين بالتأكيد لهم بأن كل أقوالهم ستظل مكتومة وسرية. فإن الخوف من العقاب كان كبيراً جداً ولوحظ بنوع خاص وجود خوف من عقاب السلطة الحالية في البلاد. ووجد أكثر من مرة أن الشاهد يحبذ تركيا في السر مفصحاً عن رأيه همساً ليرفع صوته بعدئذ محبذاً الحكومة العراقية العربية الجديدة كي يبلغ صوته آذان الواقفين في الخارج. ولا شك أيضاً في أن هذا التردد في إعطاء رأي يعود أحياناً إلى الخوف من عقوبات قد ينزلها الترك فيما لو عادوا إلى البلاد (تركيا الحديثة)، على أن هذا الخوف لم يمنع أي شاهد مسيحي من الإعراب عن رأيه بصراحة. ثم أخذ هذا الخوف يتبدد ويزول شيئاً فشيئاً حتى بات غير ملحوظ وسرعان ما كسبت لجنة تقصي الحقائق الاممية لعصبة الامم المشكلة من قبل عصبة الامم التي شك أحياناً بأنها لجنة حكومية متنكرة - ثقة السكان ولذا أقبل الشهود على إبداء آرائهم إلا القليل - في الفترة الأخيرة من التحقيق.
ما من شك في أن المصالح الشخصية كان لها أثر عظيم في الآراء أحياناً فمن كان يعتبر نفسه من ذوي الحظوة عند السلطة، أيد العراق العربي الجديد في حين أظهر ميلاً إلى تركيا الحديثة أولئك الذين حاولوا عبثاً الحصول على وظائف عامة أو نيل أية مكاسب أخرى. واثر على الآراء أيضاً الحزازات بين زعماء القبائل وفي بعض الحالات كان الشهود يسألون عضواً من لجنة تقصي الحقائق الاممية عما قاله الشخص الفلاني ليعطوا رأياً مخالفاً لما أدلى به نكاية وثأراً بهؤلاء.
وفي مناطق معينة كان واضحاً أن أخلاق الموظفين الشخصية أو إجراءات إدارية معينة (كتعيين موظف عربي او كوردي في مناطق كوردية) كانت تقرر انحياز الأهالي إلى صف العراق والدولة المنتدبة بريطانيا.
وكان لبناء البلاد العراق العربي الجديد الاجتماعي أثره البالغ على مسلك كثير من الفلاحين ورجال العشائر الكوردية. ففي عدد كبير من الحالات لم يكونوا الاكراد يفعلون أكثر من إحالتنا إلى زعمائهم القبليين الكورد أو إلى مالكي قراهم الكوردية، ولذا اضطررنا في أغلب الأحيان إلى التوجه بأسئلتنا إلى هؤلاء الأشخاص لأنهم كانوا يمثلون عدداً كبيراً من الأهالي. لكنا لم نستطع التأكد دائماً فيما إذا كان نقل الزعماء وملاك الأراضي آراء القبليين والفلاحين الكورد أميناً. وعجز عدد من الشهود (الكورد) عن فهم السؤال الذي ما كان يعرفً عنه شيئاً ولا عن الدافع إليه. وأجاب شخص سألناه، قائلاً إنه أراد الإدلاء بمثل ما أدلى به شخصان آخران ذكرهما. مع أن هذين الشخصين أدليا في الواقع برأي يخالف رأيه. وفي حالات أخرى كان تأثير دعاية سلطات معينة واضحاً إلى الحد الذي ما عاد للآراء المستحصلة أية أهمية. وفي بعض المناسبات كان أعضاء الوفود الذين قدموا للإعراب عن رغبتهم الشديدة في الانضمام إلى العراق العربي الجديد يصرحون في الخفاء أنهم من أشد أنصار الترك، لذلك قررنا أن لا نعير اهتماماً للوفود أو للعرائض.
هناك شهود استجوبوا مرتين فانقلبوا في الاستجواب الثاني على الرأي الذي أدلوا به في السابق. وكثيراً ما وجدنا الفلاحين يقولون أنهم يريدون أن يكونوا ضمن الدولة الكوردية التي ستكون فيها عاصمة اللواء (يقصدون مدينة الموصل). ومجمل القول كان من الصعب تقدير أهمية مختلف الشهود وقيمة شهاداتهم. وكقاعدة عامة كنا نطلب من الشهود الإدلاء بالأسباب التي تحملهم على قول ما يقولون، وكثيراً ما كانت هذه الأسباب ذات ميزة خاصة إذ تعطي بعض الفكرة عن المستوى الثقافي للشاهد وعن أصالة رأيه.
وكسب رأي أدلى به كثير من الشهود لتفضيلهم العراق العربي الجديد، هو أن الأمن والنظام مستتبان بشكل لم يكن معهوداً أيام الحكم التركي (العثماني) وأن التعليم قد تطور كثيراً وزادوا على هذا قولهم أن الفضل في تحسن الأوضاع الحالية يعود إلى السلطات البريطانية. وأفاد شاهدان أو ثلاثة، أن السبب في تأييدهم العراق العربي الجديد يعود إلى إلغاء التجنيد الإجباري الذي كان في العهد العثماني. وإنحاز آخرون إلى العراق العربي الجديد معللين انحيازهم بافتراض كون الحكومة العراقية العربي أقوى الحكومات لأنها تحت الانتداب البريطاني، وإنه لمن المستحسن أن ينتمي المرء إلى الدولة القوية.
وأدركنا فوراً أن بعض شيوخ العشائر الكوردية في مناطق قصية/ بعيدة فضلوا الحكومة التركية الحديثة لأنهم كانوا يتمتعون بقدر من الاستقلال ومصالحهم الشخصية يزيد عما يتمتعون به الآن في العراق العربي الجديد.
وكثيراً ما ألمح إلى الأسباب الاقتصادية أشخاص على حظ من الثقافة عادةً وكان معظم أسباب الميل إلى العراق العربي الجديد يستند إلى أهمية العلاقات التجارية مع بغداد ويجب أن نضيف على كل أن إخلاص هذا الصنف من الحجج لم يكن ينجيه عن الشك دوماً، وكانت الحجج الاقتصادية التي قدمتها الحكومة البريطانية معروفة جيداً في المنطقة الكوردية من كوردستان (ولاية الموصل) وكانت أحياناً تذكر لإضافة وزن إلى رأي الشاهد. وفي حالة واحدة رفض الزعماء الجواب عن سؤال اقتصادي بحتٍ يتعلق بالطرق التي تمر بها صادرات الأغنام - زاعماً أن السؤال سياسي.
ووقع الترك وكثير من الكورد والعرب تحت تأثير المشاعر الوطنية أو بالأحرى أيقظتهم المشاعر القومية الكوردية المتعاظمة وكان تفضيلهم مبعثه الإخلاص وإن لم يكن دوماً حصيلة تفكير ناضج، أخيراً علينا أن نضيف: في حالات متفرقة قليلة كان الخوف من الحكومة سبب التفضيل ولاحظنا أن فلاحي منطقة واحدة أظهروا أعظم السرور لفرصة مقابلتهم المستشار التركي التي أتاحتها لهم اللجنة (لجنة تقصي الحقائق الاممية) وكان ممثلوهم قد اقترعوا بالإجماع إلى جانب العراق العربي الجديد.
فلنجمل الآن نتائج التحقيقات في مختلف الألوية الكوردية وبعدها نتصدى إلى النتائج العامة التي يجب استخلاصها من التصريحات. لقد عبر أهالي لواء السليمانية عن أدق الآراء وأقطعها فالتكوين القومي الكوردي فيها حسب آخر إحصاء هو بأرقام تقريبية كما يلي:
عرب 75
كورد 189900
ترك 1550
المجموع 191525
ومن قابلناه في هذا اللواء السليمانية أعلن عن عدم ميله إلى الحكومة العراقية العربية الجديدة باستثناءات قليلة، ولم تنقسم الآراء إلا في قضاء [جمجمال] الذي يحد لواء كركوك ويرتبط به إدارياً.
اقتنعت اللجنة (لجنة تقصي الحقائق الاممية العائدة لعصبة الامم) بشكل جازم أن رغبات الأهالي قد عرضت بحرية. ومع ذلك لم تجد فيهم أي ميل خاص نحو الحكومة العراقية العربية في بغداد. ولقد رفضوا الاتحاد بتركيا الحديثة ايظا وأعلنوا عن رغبتهم في وحدة اقتصادية فحسب ضمن الإطار العراقي. إن فيهم ميلاً واندفاعاً قوياً للحكم الذاتي (كوردستان العراق) والمطالبة باستعمال اللغة الكوردية في التعليم والإدارة والمحاكم في مناطقهم الكوردية (كوردستان).
وكان ثم الشعور أيضاً بضرورة الاحتفاظ بمعاونة المستشارين البريطانيين فترة من الزمن ورفضوا رفضاً باتاً احتمال قيام حكومة محلية دون المساعدة الأوروبية.
وجدنا في هذا الإقليم الكوردي (السليمانية) شعوراً وطنياً كوردياً وإن كان بعد الشعور القومي الكوردي فتياً فهو معتدل ومعقول. وقد أعرب الأهالي في السليمانية عن رغبتهم في الاستقلال التام بوصفه أسمى غاية فقد كانوا من الجهة الأخرى مدركين فوائد الوصاية الواعية الحصيفة.
وما من شك في أن كفاءة الإداريين البريطانيين في هذا الإقليم وحسن تبريرهم كان لها الأثر الكبير في حالة الأهالي الفكرية.
في لواء/محافظة كركوك الكوردية كان الإجماع أقل. وكان التكوين القومي لهذا اللواء/محافظة كركوك هو كما يلي:
عرب 35650
كورد 47500
ترك 26100
مسيحيون 2400
المجموع 111650
أعلن المسيحيون كإخوانهم في المناطق الأخرى تفضيل العراق الجديد على تركيا واليركمان الذين يعيش معظمهم في مركز اللواء مدينة كركوك. وفي الأماكن القريبة من الطريق الذي يصل [آلتون كوبري بكفري] فقد أعلن معظمهم تفضيلهم تركيا. وإن وجدت أقلية منهم تفضل العراق العربي الجديد لأسباب اقتصادية.
وإنقسمت الآراء بين الشهود العرب والكورد قد يكون متوقعاً أن يفضل معظم العرب الانضمام إلى العراق العربي الجديد لكن الواقع هو أن عدداً كبيراً من آرائهم، كانت إلى جانب تركياً الحديثة.
ولو أحصينا الآراء الكوردية مجرد إحصاء بدون تحليل فسنجد أغلبية يعتد بها، تركية الميل ومن الناحية الثانية تشير آراء زعماء الكورد الكبار إلى أنهم أكثر ميلاً إلى العراق العربي الجديد. وعلينا أن نستدرك فنقول أن عدة شيوخ الكورد من هؤلاء ذكروا أنهم يتسلمون إعانات مالية من الحكومة العراقية العربية لحراسة الطرق. وكقاعدة عامة ظهروا وكأن الأصوات أعطيت بحرية ونفوذ السلطة لم يكن محسوساً جداً. فيما يكشف لنا لواء أربيل عن الأرقام التقريبية التالية:
عرب 11700
كورد 170650
ترك 2780
مسيحيون 3900
يهود 2750
المجموع 191780
في هذا اللواء (أربيل) الكوردية كانت وجهات النظر السياسية لمعظم قضاء كويسنجق (كوية) تلفت النظر. فأغلبية أهاليه تتبنى عين المطامح التي وجدناها عند أهالي السليمانية. وكان فيه عدد لا يستهان به من الرؤساء المتعلمين حيث يسكن القضاء نحو ستين ألف نسمة أغلبيتهم الساحقة من الكورد. وفي قضاء أربيل (المركز) فضل تركيا الحديثة كل من تركمان من سكان المدينة (اربيل) وكل السكان الذين هم من أصل تركي على العموم. وهو رأي يشاركهم فيه عدد كبير من الكورد والعرب. على أن زعماء القبائل الكوردية لم يكونوا ليرضوا بديلاً عن دولة كوردية حرة مستقلة (كوردستان) تحت الوصاية الأوروبية وهم يفضلون بريطانيا.
وكان ثم بعض من رغب في الضم إلى العراق العربي الجديد شريطة إبقاء الانتداب البريطاني فإن لم يتحقق الشرط، فهم يفضلون حكومة تركية الحديثة على أية حكومة عربية اخرى. وإن نحن أخذنا آراء هذا القضاء (كويسنجق) ككل فقد أظهرت أغلبيته رغبة تركية الحديثة.
وكان سكان قضاء [رواندوز] القريب من الحدود التركية أكثر تأخراً من سكان الأقضية الأخرى وفضل معظم الشهود العراق ولكن يصعب جداً تقدير مدى ما كانت درجة فهمهم للسؤال. وعلى كل فبسبب موقع هذا القضاء راوندوزالجغرافي نرى أنه يجب أن يكون مصيره مثل مصير قضاء المركز.
وفضل اليهود وغالبية المسيحيين في أنحاء اللواء أربيل كافة حكومة عراقية عربية جديدة تحت الانتداب البريطاني وأن التكوين القومي للواء الموصل أكثر تمازجاً واختلاطاً وهو كما يلي:
عرب 119500 [منهم 47000 في المدينة]
كورد 88000
ترك 9750
مسيحيون 55000 [منهم 4000 في المدينة]
يهود 7550 [منهم 4000 في المدينة]
المجموع 306000 [منهم 96250 في المدينة]
أظهرت أولى نتائج التحقيقات أن لا وجود لشعور وطني عراقي في الإقليم المنازع عليه ولاية الموصل كوردستان العراق إلا عند فئة من العرب أوتوا حظاً من الثقافة. وأن هذا الشعور العربي محدود وتشوبه ميول شوفينية وعنصرية، وروح تعصب ضد الأجانب. ووجدنا عند الكورد وعياً قومياً متنامياً، شعور كوردي بأدق ما في هذه الكلمة من معنى لا يميل إلى العراق العربي الجديد وهو شعور أكثر تطوراً وأقوى عوداً في الجنوب. يتناقص هذا الشعور كلما ابتعد المرء شمالاً حتى يتلاشى عند سهل الموصل وعند قدمات [عقره]. أن مثل هذا الوعي قوي نوعاً ما عند تركمان الولاية الموصل/كوردستان العراق أيضاً.
إن الافتقار إلى شعور عراقي وطني على أي مستوى يفسر العدد الكبير من تلك الآراء التي لا تفضل البقاء مع العراق العربي الجديد إلا بشروط. وكما سبق فأوضحنا أن أشد القوميين العرب تعصباً يفضلون تركيا الحديثة على عراقٍ عربي جديد تحت الحماية الأجنبية. ومن الناحية الأخرى يقول عدد كبير من زعماء المسيحيين أن شكهم بحكومة تركية أقل من شكهم بحكومة عراقية عربية غير خاضعة لحماية أوروبية، وقد وجدنا عين الميول عند اليزيدية الكورد. حينما طلب كورد السليمانية حكماً ذاتياً محلياً لكوردستان العراق واسع الحدود بمساعدة مستشارين بريطانيين. وبالإجمال فالآراء التي فضلت العراق العربي كانت مدفوعة بالمصلحة الخاصة أو بمصلحة المجموع أكثر مما دفعتها شعور جامعة الوطنية.
ومع أن الأنصاف يقضي بالقول أن المشاعر التي انتصرت للعراق العربي الجديد كان فاترةً بعض الفتور وأنه لم يكن هناك شك في عدم صحة تأكيد الحكومة التركية الحديثة على رغبة السكان فيها. فالرأي عند الكورد منقسم ومجموعة السليمانية وما جاورها التي رغبت في الحكم الذاتي كوردي ضمن الدولة العراقية، تتألف تقريباً من نصف المجموع الكلي لسكان الولاية (الموصل)، وقد وجدنا بين الترك أنصاراً لبغداد العربي. وهكذا وخلافاً لإدعاء الحكومة البريطانية، لم تكن اللغة ولا القومية دليلاً يوثق به دوماً على وجهات النظر السياسية، وكثير من الطبقات العربية الفقيرة انحازت إلى الترك. وكان التصريح بهذا الولاء يقترن عادة بتعابير عاطفية حارة.
هنالك نقطة أخرى وهي أنه يكاد لا توجد منطقة واحدة تحتوي على عدة نواحٍ متجاورة (عدا لواء السليمانية) وفيها ما يقرب من الإجماع على تفضيل أحد طرفي النزاع. ومع أن الغموض يشوب النتائج النهائية فإنه مع هذا يكشف بوضوح ضعف الحجة التركية عندما تريد أن تتعلل بها بخصوص ولاية الموصل الكوردية كلها. لكن لو أخذنا القوميات والمناطق كلاً على حدة، فلن نجدها تؤيد وجهة النظر البريطانية تأييداً مطلقاً.
2. المسألة الآشورية (الآثورية) في ولاية الموصل كوردستان العراق
* خلاصة الحجج:
لم تُثر في [مؤتمر لوزان24 تموز 1923] قضية إعادة (الأثوريين/الاشوريين النساطرة) إلى وطنهم شمال حدود ولاية الموصل (كوردستان العراق)، وإنما صدر من [اللورد كرزون - وزير خارجية بريطانيا] مجرد تنويه بهم في "مذكرة حول ولاية الموصل الكوردية" موجهة إلى [عصمت إينونو باشا] وزير خارجية تركيا الحديثة وهو من اصل كوردي مؤرخة في الرابع عشر من كانون الأول عام 1924. قال: "إن (النساطرة) الذين طردتهم العساكر التركية من منطقتي [جوله ميكر] والحدود الإيرانية أثناء الحرب ومنهم ألوف أثناء هربهم إلى كوردستان العراق الجديد مقرهم الحالي، سيقاتلون حتى الموت ليحلوا دون ضم مناطق سكناهم إلى أناس هم بالنسبة لهم رمز الاضطهاد (تركيا)". فرد [عصمت باشا إينونو] قائلاً "إن (النساطرة) اساؤوا التصرف عندما أغارت جيوش روسيا القيصرية على ولاية [وان] إزاء المسلمين شركائهم في الوطن، أولئك الذين عاشوا معهم بوئام وأمن تام قروناً عديدة. لقد اتسم تصرفهم هذه بالوحشية والغدر بالمسلمين، مما اضطروا معه إلى ترك البلاد (تركيا) صحبة الروس عند تقهقرهم [مذكرة عصمت إينونو باشا إلى اللورد كرزون - وزير خارجية بريطانيا بتاريخ الثالث والعشرين من كانون الثاني عام 1922، والمحاضر - المجلد الأول: الصحيفة 282].
ولم تثر الحكومة البريطانية المسألة إلا في مؤتمر القسطنطينية المنعقد في 19 أيار عام 1924 عندما اتخذتها حجة لتوسيع الحدود العراقية.
وفي بداية شهر19 نيسان 1924 أبلغت الحكومة البريطانية حكومة العراق باعتزامها طلب اقتطاع جزءٍ من الأراضي الآشورية (الآثورية) وإلحاقه بالعراق العربي الجديد. وفي عين الوقت شرحت الفوائد التي سيجنيها العراق العربي الجديد من وجود شعبٍ محارب متحدٍ بالعرب بروابط من الصداقة والشعور بالجميل على حدوده الشمالية. وسألت هل أن حكومة بغداد مستعدة لتؤمن بعض الأراضي المتروكة في المناطق الشمالية /كوردستان للآشوريين (للآثوريين) الذين لم يتم استقرارهم إذا تطلب الأمر ذلك بشروط حسنة؟ وسالت الحكومة البريطانية أيضاً. هل إن الحكومة العراقية مستعدة لمنح كل الآشوريين (الآثوريين) عين الاستقلال المحلي الذي تمتعوا به قبل الحرب في الظل الحكم العثماني التركي؟ فردت الحكومة العراقية العربية الجديدة في الثلاثين من نيسان عام 1924م بالإيجاب.
وشرح "سير برسي كوكس – المندوب السامي البريطاني في العراق" الاقتراح البريطاني الجديد في (مؤتمر القسطنطنية) (19 أيار 1924) بالعبارة التالية:
"... إضافة إلى ما تقدم وما دامت المفاوضات في (مؤتمر لوزان24 تموز1923) قد انقطعت. فإن مشكلة واحدة تزايدت أهميتها في عين حكومة جلالته. وأعني بها مستقبل الاثوريين/الآشوريين باستثناء من كان في البلاد الإيرانية كوردستان ايران. ترى حكومة جلالته بأقوى دافع من الشعور بالمسؤولية أمر ضمان استقرارهم بشكل يحقق لهم أمانيهم القومية ومطالبهم المعقولة قضية واجبةً، فإن حكومة جلالته لا تستطيع التغاضي عن ندائهم الحار بطلب استقرارهم في وطنهم السابق تحت الحماية البريطانية. وبالغ ما بلغ وقع هذه الحال الطيب على (العالم المسيحي) كافة فإن حكومة جلالته لا تتمكن لأسباب مختلفة من التفكير بتوسيع نطاق مسؤولياتها إلى هذا الحد الخطير، في الوقت الذي لا تبدي أي استعداد للاستجابة إلى كامل مطاليبهم. لهذا قررت حكومة جلالته وبهذه المفاوضات أن تحاول تأمين حدود تحقق من جهة المتطلبات معترف بها لمعاهدة حدودٍ جيدة، وتسمح من جهة أخرى بتوطين الآشوريين (الآثوريين) في مجتمع واحدٍ ضمن حدود الأراضي التي ستتولى حكومة جلالته الانتداب عليها تحت إشراف عصبة الأمم. وإن لم يتسن تأمين هذا الوطن في مساكن أسلافهم فليكن في مناطق مجاورة على كل حال. إن هذه السياسة المرسومة لاستقرار الاثوريين/الآشوريين تحظى بموافقة الحكومة العراقية وتعاونها الكامل. وهي من جهتها مستعدة لتقديم المساعدة الضرورية لتحقيق هذه الغاية لذلك فقد تسلمت تعليمات للإدعاء بحدود مؤشرة على الخريطة التي أبسطها الآن أمامكم".
وواصل "السير برسي كوكس" كلامه قائلاً أنه يميل إلى الاعتقاد بأن الحكومة التركية مستعدة للموافقة على اقتراح الحكومة البريطانية، لأن الإدارة والسيطرة على هذا الصقع والمنطقة المشحونة بالعداء والاضطرابات، بالمجتمعات كان مصدر إحراج دائم للحكومة التركية في الماضي ومصدراً لا ينضب معينة للاحتكاك مع الدولة العربية. وألمح بأن هذا الاقتراح لا يمثل أقصى إدعاء يمكن تقديمه نيابة عن الأقليات المسيحية، فالواقع إن الخط كان قد رسم بدفاع رغبة قوية لمواجهة رغبات الحكومة التركية بقدر الإمكان، فإن لم يتم التوصل إلى اتفاق على خطوط الاقتراح المقدم الآن إلى الحكومة التركية، فسوف تحتفظ الحكومة البريطانية بكامل حريتها في العمل بخصوص الحدود التي قد تطالب بها أمام عصبة الأمم.
وفي جلسة الحادي عشر من أيار عام 1924 تضمن خطاب التركي من قبل [فتحي بك] ممثل تركيا الحديثة الرد التالي حول المسألة الآشورية (الآثورية): بعد إفصاح فخامتكم عن الرغبة في مواصلة المفاوضات عند النقطة التي تركها [اللورد كرزون] وزير خارجية بريطانيا في [مؤتمر لوزان 24 تموز 1923] أجدكم الآن تتركون هذا الموقف لتثيروا مسألة جديدة هي مسالة مستقبل الآشوريين (الآثوريين). وضماناً لمستقبلهم طلبتم إلحاق أراضٍ تركية معينة يرفرف عليها الآن علم الجمهورية التركية الحديثة، بالأراضي التي هي تحت الحماية البريطانية. فإن قلت أن طلبكم هذا لم يسلمني إلى الدهشة فإني أخالف الحقيقة".
ذكر رئيس الوفد البريطاني في (مؤتمر لوزان1923) اللورد كيرزون وزير خارجية بريطانيا الرغبة التي تخالج حكومة جلالته بمنح الحكم الذاتي للشعب الكوردي في كوردستان. وفخامتك الآن تعرض مطالب للآثوريين/الاشوريين. فلعلك تسمح لي بالإشارة على كل حالٍ إلى إنك لم تلاحظ عند بسط هذه المطاليب أن الآشوريين (الآثوريين) يؤلفون أقليةً تكاد لا تذكر في الولاية الموصل. (كوردستان العراق) وأنكم بدفاعكم عن مصالح هذه الأقلية (الاثورية) لم تولوا مثل هذه العناية الشديدة التي تطلبها المسألة لأماني أغلبية كبيرة جداً وأعني بها الترك والكورد. وخاصة الأكراد الذين هم غالبية ولاية الموصل كوردستان العراق. (أعتقد هذا اعتراف مسؤول تركيا بالوجود الكوردي).
إن الوفد التركي لا يجد سبباً معقولاً لإبعاد مئات الألوف من الترك والكورد وفصلهم عن بلادهم الأم (كوردستان) لأجل وضع عشرات من الألوف قليلة بعضها مهاجر من كوردستان إيران ـ تحت الحماية البريطانية.
إن الآشوريين (الآثوريين) مسيحيون ولذلك لا يفوتني فهم الدافع الذي يحمل الحكومة البريطانية على معاملتهم بهذا الشكل الخاص. مع هذا فإن الوفد التركي سيشير إلى أن المواطنين جميعاً وبغض النظر عن (الدين والقومية) يتمتعون بحقوق متساوية وأن أماني الشعوب الوطنية التي لا يمكن خنقها يجب في رأي الوفد التركي توضع فوق كل الاعتبارات الأخرى. فهو في الوقت الذي يقدر تلك النوايا الإنسانية التي أبدتها الحكومة البريطانية لحماية المسيحيين يشعر أن من واجبه القول بأنه لا يستطيع أن يفهم كيف تريد تلك الحكومة التضحية بمصالح المسلمين لهذه الغاية. لقد تكرمت فذكرت أن الإدارة والسيطرة في تلك الأصقاع الوعرة من كوردستان كانت دائماً مصدر حرج ومتاعب للحكومة العثمانية والتركية، وليس في وسعي أن أتذكر أي مصاعب خطيرة واجهتها الإدارة التركية التي أقامت قروناً في ذلك الإقليم الكوردي (كوردستان). ويصعب جداً أن أتذكر أي مناسبة عومل بها موظف تركي معاملة بعيدة عن الاحترام والاعتبار. وعلى كل حالٍ لو كان الغرض الإداري سبباً للتنازل عن الأراضي، فلي الحق أن أذكركم بدوري بما تعرضت له الإدارة البريطانية من العصيان المسلح والاعتداءات خلال السنوات الأربع أو الخمس الأخيرة في العراق العربي الجديد. وإني لأرغب أيضاً في القول أن (النساطرة الاثوريين) سيظلون يجدون في الأراضي التركية ذلك السلام وتلك الطمأنينة اللذين تمتعوا بهما قروناً عديدة، شريطة أن لا يكرروا الأخطاء التي ارتكبوها بتحريض من الأجنبي في مبدأ الحرب.
وفي جلسة الرابع والعشرين من أيار عام 1924م علق "السير برسي كوكس" على أقوال "فتحي بك"رئيس الوفد التركي حول المسالة الجديدة فقال:
"أذكر أن معاليكم اشار إلى أن الحجج التي أدلى بها [اللورد كرزون] وزير خارجية بريطانيا في [مؤتمر لوزان] لا يمكن الركون إليها لدعم خط الحدود المقترح الآن وأني لأرغب في تذكيركم بأن [اللورد كرزون24 تموز1923] لم يحاول وصف خط معين للحدود الشمالية في الوقت الذي كان مصراً على موقفه من ولاية الموصل (كوردستان العراق). وقد ترك هذه المهمة عمداً (لخبراء الطرفين). عن الوضع الذي حدده [اللورد كرزن] في [مؤتمر لوزان1923] عُدل بحكم الضرورة نوعاً ما، نتيجة لمعلومات طبوغرافية أكثر تفصيلاً مما تيسر قبلاً، وبسبب الشعور بالحاجة الماسة إلى تأمين مستقبل الآشوريين (الآثوريين)، قررت الحكومة البريطانية الآن المطالبة بالخط المؤشر على الخرائط التي حملتها لكم في الخريطة الثانية".
ثم ذكر [السير برسي كوكس] أن المسالة لا تستبطن نية ضم الأراضي المطالب بها ـ إلى الحماية البريطانية أو إخضاع مصالح العدد الكبير من السكان الكورد لمصالح الأقلية المسيحية في ولاية الموصل. إن الشعب الكوردي قانع تماماً بالحكم الذاتي المحلي الذي منح له وأن مسألة الآشوريين (الآثوريين) إنما وضعت على بساط البحث لعلاقتها بالحجج الطبوغرافية والسوقية المقنعة دعماً لإدعاء الحكومة البريطانية بخط حدود أبعد قليلاً عن الخط الذي اقترح مبدئياً مما يجعل من الممكن توطينهم في مجتمع واحد قد يكون عين (نفس) موطنهم الأول (ولاية حكاري التركية) وقد يكون مجاوراً له في الأراضي التي خول صاحب الجلالة البريطانية وضعها تحت انتداب عصبة الأمم. ووجهة نظر (النساطرة الاثوريين) لا تطابق وجهة نظر [فتحي بك] ممثل تركيا الحديثة في أنهم سيجدون الأراضي التركية موطن السلام والرخاء اللذين تمتعوا بهما في الماضي شريطة أن يعدلوا عن نشاطهم الذي مارسوه أثناء الحرب. فما زالت ذكرياتهم حية جداً وهي تختلف تماماً عن أقوال [فتحي بك] حول المعاملة التي لقوها على يد العثمانيين الترك في الماضي.
إن مناقشات اليوم الأخير من المؤتمر (لوزان) تنطوي على أهمية من نواح مختلفة:
أكد [فتحي بك] ممثل تركيا أن هذا المؤتمر انعقد بموجب المادة الثالثة من معاهدة [لوزان] للتوصل إلى اتفاق ودي حول الحدود بين تركيا الحديثة والعراق العربي الجديد. لكنه بدأ بالإشارة إلى أن حدود العراق الشمالية كانت عموماً وكما هو معروف مطابقة للخط الذي عُرض أمام المؤتمر، (لوزان) وأسند قوله هذا إلى ما ورد في دائرة المعارف البريطانية. ثم نوه بأن ولاية الموصل كوردستان هي جزء من تركيا قانونياً إلى أن تبرم اتفاقية تثبيت الحدود - ولا يغير وجودها تحت الاحتلال البريطاني المؤقت شيئاً من الحقيقة. وفي حين لم يفعل المندوب التركي (فتحي بك) أكثر من عرضه المسالة التي ينبغي حلها بموجب المعاهدة، خلق المندوب البريطاني مسالة جديدة بطلبه اقتطاع أرض إضافية تعود إلى (ولاية حكاري) الكوردية التركية. وهي مسالة لم يفكر أحد بإثارتها في مفاوضات معاهدة [لوزان1923] وليس من الممكن أثارتها من جهة المعاهدة (لوزان) لا روحاً ولا نصاً. فإن أصرت الحكومة البريطانية على الخروج عن موضوع المؤتمر بصياغة مطالب جديدة حول (ولاية حكاري) الكوردية فليس له إلا الاستنتاج بأنها تريد لهذه المفاوضات الإخفاق.
إن إعراب الحكومة البريطانية عن حقها في تقديم إدعاء أوسع، نيابة عن العراق عندما عرض النزاع على مجلس عصبة الأمم لا يمكن أن يشمل أي شيء خارج حدود النزاع موضوع البحث، فمثل هذا الإدعاء هو مخالف لنص المادة الثالثة من المعاهدة (لوزان) وعندما وافقت تركيا الحديثة على عرض النزاع لتحكيم عصبة الأمم لم تكن مستعدة لمواجهتها بإدعاءات حدودٍ غير محددة ولذلك لا تستطيع الموافقة على بحث أية مسالةٍ لم تتضمنها المادة الثالثة من المعاهدة. في الواقع أن تنازل تركيا بحسب المادة (16) عن حقوقها وملكيتها في العراق العربي الجديد لا يمكن أن يعتبر ثابتاً ومبرماً بمعاهدة ما، إلى أن تثبت الحدود بين العراق الجديد وتركيا الحديثة. إذ لا يمكن أن تنشأ قضية تنازل عن أرض في الجزء الجنوبي من حدود لم يتم تثبيتها بعد.
فواضح إذن، أن المندوب البريطاني أثار قضية جديدة لم تكن مدار بحث قط لذلك لا يمكن أن تتعلق بالقضية التي ستعرض على عصبة الأمم بأي شكل كان. وفي أثناء المناقشة التي تلت ذلك أجاب "سر برسي كوكس" على رد [فتحي بك] بقوله: ألا فليفكر أي من يشاء بأن حدود العراق الشمالية يجب أن تتبع الحدود الشمالية (لولاية بغداد) تقريباً (التي كانت تشمل العراق العربي الجديد ولايتي بغداد والبصرة فقط فتفكيره هذا لن يؤخذ مأخذاً جدياً. "إن العراق العربي الجديد الذي نقصده هو الأرض التي قبل صاحب الجلالة البريطانية بعد الحرب العالمية الأولى مسؤوليته عنها أمام عصبة الأمم والحدود التي بحثت في [مؤتمر لوزان 1923] خاضعة لتعديلات محلية ثانوية أصبحت حكومة جلالته مقتنعة بضرورتها على ضوء التحقيقات التي أجرتها والخبرة التي اكتسبتها مؤخراً" وعلى أية حال لم يكن الموضوع يدور حول إعادة ولاية الموصل (كوردستان لجنوبية-العراق) إلى تركيا الحديثة.
وفي رأي [فتحي بك] إن الإدعاء بأراضٍ تعود إلى ولاية [حكاري] الكوردية التركية مخالف لمعاهدة [لوزان24 تموز 1923] نصاً وروحاً، ولكن [السير برسي كوكس – المندوب السامي البريطاني في العراق] سبق وذكر [فتحي بك] بأن [اللورد كرزون - وزير خارجية بريطانيا] لم يقترح أي حدود معينة في [مؤتمر لوزان 1923] لذلك أدعى أن الخط الذي اقترحه على المندوب التركي يتفق نصاً وروحاً مع المعاهدة لوزان.
وخلص إلى القول أن خط الحدود الشمالية لولاية الموصول (كوردستان العراق) على قدر معلوماته لم يكن قد ثبت تثبيتاً نهائياً. أن الأوضاع السياسية والقبائلية جعلت هذا الخط الفاصل خطاً مائعاً قابلاً للتحوير بحكم الضرورة. وقد اعتمد هذا الخط على مقدار نفوذ الولاة وعلى شكل الإدارات وعلى اعتبارات أخرى وقتية. زد على هذا إن تقسيماً إدارياً بين الإقليمين لعين البلاد كان يختلف اختلافاً جوهرياً عن حدود دولية بين بلدين. وكرر قوله بأنه لم يكن ثم وجود لأية حدود نهائية ثابتة ولهذا السبب وحده تعذر قبول وجهة النظر التي أجملها [فتحي بك] بقوله أن ما يعتبره جزءً من (ولاية حكاري) لا يدخل في نطاق بحث المادة الثالثة من معاهدة [لوزان 1923].
فأجاب [فتحي بك] ممثل تركيا أنه لا يستطيع قبول حجج [سر برسي كوكس] حول التغيير الذي طرأ على حدود ولاية الموصل وأضاف أن ما لديه من معلومات لا تؤيد قيام أحوال كهذه على قدر معرفته.
وأثارت الحكومتان ذات العلاقة القضية الآشورية (الآثورية) مرة أخرى عند عرض النزاع على مجلس عصبة الأمم. وتحت عنوان الحجج السياسية قدمت المذكرة البريطانية المؤرخة في الرابع عشر من آب عام 1924 الأسباب التالية دعماً لوجهة نظرها في ضم الاثوريين/الآشوريين إلى العراق العربي الجديد، على قدر الإمكان: "قرر الشعب الآثوري الصغير في أول أيام الحرب العظمى تبني قضية الحلفاء مع انعزال موقعه في قلب بلادٍ يسيطر عليها الحكم التركي العثماني. وانتهز هذا الشعب الاثوري الفرصة لقطع صلته بحكم أولئك الذين عرضوهم لصنوف الاضطهاد المتواصل في تاريخهم السابق. وتحملوا النكبات العظيمة جراء قرارهم فطردوا من أوطانهم، وهلكت آلاف الأنفس منهم أثناء هجرتهم إلى العراق العربي الجديد" ... "ولقد وفق الآثوريون إلى الاستقرار فسكن بعضهم في الجزء الجنوبي من بلادهم الأصلية (ولاية حكاري) الكوردية، وسكن بعضهم مع كورد البلاد (كوردستان) ومسيحييها المحليين جنوب وطنهم الأول مباشرة". "أن الحكومة البريطانية تشعر بأقوى الالتزام والمسؤولية في ضمان توطينهم تأكيداً وإنجازاً لمطالب شعبهم العادلة وآمانيهم. وقد طالبوا بالاستقرار في جميع أراضيهم السابقة مشفوعة بالحماية البريطانية".
"عجزت الحكومة البريطانية لأسباب مختلفة عن الاستجابة إلى أمانيهم كاملة إلا إنها عملت جهدها لتأمين حدود قد تحقق بعض الشروط. وهي الآن ترجو مجلس عصبة الأمم تثبيت تلك الحدود. إن مجلس العصبة حين يحقق متطلبات معاهدة حدود جديدة وجيدة، يجب أن يسمح في عين الوقت بإسكان الآثوريين بشكل مجتمع منضّم إلى نفسه ضمن الحدود التي انتدبت عليها الحكومة البريطانية تحت إشراف عصبة الأمم. وإن لم يتسن ذلك في أرض أجدادهم فلا بأس أن يتم إسكانهم في مناطق مجاورة لها".
إن رسم الخط إلى مسافة أبعد نحو الجنوب سيثير ذعراً كبيراً بين الآثوريين بحيث يضع أمام أمرين لا ثالث لهما: أما الهجرة الجماعية، أو القتال حتى النفس الأخير دفاعاً عن مطالبهم، دعك من الأضرار الاقتصادية والسوقيّة لهذا الخط الجديد المقترح. إن حصل ذلك فسيكون السلام والاستقرار في هذا الجزء من الحدود في خبر كان".
ومن بين الحجج الجغرافية والسوقيّة التي وردت في المذكرة. حجة أخرى تدعم طلب الأخذ بالحدود المقترحة وهي أن الشعب الآشوري (الآثوري) المحارب راغب في تقديم الولاء للعراق الجديد بشروط وسيكونون مجتمع حدود ثميناً للدولة العراقية.
عرضت المذكرة التركية المؤرخة في الخامس من أيلول عام 1924 أن المطالب البريطانية الخاصة بأرض تقع فيما وراء حدود ولاية الموصل كوردستان التركية تتعدى بشكل صارخ مستفز حدود القضية التي اتفق الجانبان على عرضها أمام مجلس عصبة الأمم لذلك لم يجد المجلس مبرر من إصدار قرارٍ لمصلحة الإدعاء البريطاني بمقدار ما يخص القضية التي هي قيد النظر.
ودعماً لهذا الرأي تقتبس المذكرة مختلف التعابير التي استخدمها [اللورد كرزون] مثبتة - كما قالت - أن النزاع بين الطرفين يتعلق بولاية الموصل كوردستان ولا يتعداها.
وبالرجوع إلى الحجج التي تقدمت بها الحكومة البريطانية تلاحظ المذكرة أنهُ مهما كان العطف الذي تشعر به الحكومة لهؤلاء سكان الولاية غير المسلمين الذين تبنوا قضية الحلفاء أثناء الحرب، فلا يمكن لهذا العطف أن يبرّر اقتطاع إقليم كبير من الحدود لا تزيد نسبتهم فيه إلى السكان عن السُبع (1/7). أضيف إلى هذا أن الاثوريين/الآشوريين النساطرة لم يكونوا من سكان ولاية الموصل كوردستان المقيمين وإن كانوا قد أرغموا على ترك بلادهم الم أثناء الحرب فالسبب هو أنهم رفعوا السلاح ضد المسلمين شركائهم في الوطن الواحد. وهم على أية حال قليلو العدد، عاشوا قروناً عدة في أمان واستقرار بين أخوانهم المسلمين.
إن اقتراح الحكومة البريطانية جمع الاثوريين/الآشوريين في كتلة منضمة على الحدود التركية ـ العراقية يدعو إلى التساؤل عما إذا كان الأمر منسجماً مع رغباتهم حقاً. أم هناك اعتبارات أخرى أوجبتها، بغض النظر عن رغبات هذه الطائفة الحقيقية، إن تجميعاً مصطنعاً للآشوريين (الآثوريين) على الحدود يحمل في طياته نية استخدامهم ضد الكورد وتدفعه روح العداء لتركيا، وهو ما لا يمكن أن ينتظر منه تحقيق تلك النتائج التي تأمل الحكمة البريطانية الوصول إليها، وأعني بها إقامة عهد سلام دائم في هذه الأنحاء وإنشاء علاقات جوار طيبة بين تركيا الحديثة والعراق الجديد وتوفير الحياة الآمنة للآشوريين (الآثوريين).
* الاعتبارات والاستنتاجات
تم تقويم أوضاع الآشوريين (الآثوريين) في الإمبراطورية العثمانية سابقاً في جزء من هذا التقرير وسنعيد القول هنا فحسب أنهم تمتعوا بدرجة كبيرة من الاستقلال بزعامة بطريركهم. وقليلاً ما دخلت السلطة العثمانية التركية بلادهم. على أن اشتباكات بين (الكورد والآثوريين) كانت كما يبدو عديدة.
في السنة التي سبقت الحرب بدأت الدعاية الروسية التي اتخذت اتجاهاً دينياً تلمس لمساً. وفي ربيع عام 1915 حققت الجيوش الروسية الزاحفة نحو [جوله ميرك] اتصالها بالآشوريين (الآثوريين) الذين شرعوا بمهاجمة الترك بتحريض من القائد الروسي. وعندما انسحب الروس بعد فترة قصيرة انكشفت مواقع الآثوريين أمام هجمات قامت بها قوات تركية كبيرة وتعذر الدفاع عنها فاضطروا إلى الانسحاب مع عائلاتهم إلى البلاد الإيرانية (كوردستان ايران) بعد قتال عنيف دام ستة أشهر.
وعند وصولهم الاثوريين (كوردستان إيران) استمروا في معاونة الروس الذين شكلوا عدة كتائب من الجنود الآثوريين، قاتلت تحت قيادة روسية حتى انهيار الجيش القيصري الروسي. على أن فوجاً واحداً كان بأمرة البطريك الآثوري مباشرة (مار شمعون). وفي الأشهر الأولى من عام 1918 التحقت التشكيلات الآثورية بالوحدات غير النظامية التي بقيت في كوردستان إيران بقيادة ضباط روس تدافع عن سهول [أورمية وسلماس] بوجه الترك، وازداد وضعهم حراجةً بسبب اشتباكاتهم مع الكورد من جانب اخر، وبنتيجة وتدخّل السلطات الإيرانية التي كانت تود تجريد هذه القوات العاملة على الأرض الإيرانية من السلاح (الاثورية). وبنهاية تموز 1918م تقريباً وجد الآثوريون أنفسهم مضطرين إلى التراجع أمام هجمات (الترك والكورد والإيرانيين) وعند ذلك التجأوا إلى الأراضي التي تحتلها القوات البريطانية.
ساهم الآثورين الذين كانوا قد استقروا في كوردستان إيران في الحرب العالمية الأولى موقف ضدهم وهم من حيث المبدأ كالمنظمات الأرمنية فعانوا عين المصير الذي لقيه آثوريو/اثوريين في كوردستان تركيا.
وتعرض الآثوريون أثناء تقهقرهم إلى أهوال وانصبت على رؤوسهم الويلات فقتل منهم الكثير في ساحة القتال وقضى آخرون نحبهم جوعاً ومات فريق بالنوازل والآفات الطبيعية. على أن ما يقارب الخمسين ألفاً منهم نجح في الوصول إلى همدان كوردستان ايران في أواسط آب عام 1918 فأرسلوا من هذه المدينة همدان الكوردية بقوافل إلى مخيم (بعقوبة) في ديالى على نهر (سيروان/ ديالى) ومدينة ديالى وهي بلدة تبعد خمسين كيلو متراً من بغداد.
وبعد الهدنة مباشرة (مودروس) في 30 تشرين الأول 1918، أقترح مشروع لإعادة توطين الآثوريين ولكن الاضطرابات التي حصلت في المناطق الكوردية من كوردستان جعلت المشروع غير ممكن. وعلى أثر اضطرابات العمادية في تموز عام 1919 اقترح الحاكم الملكي العام في العراق على السلطات العسكرية إجلاء كل الكورد المسلمين من منطقة العمادية وإعداد مساحة من الأراضي الكوردية للآثوريين الذين جمعوا في (مخيمات بعقوبة) ليتم توطينهم جميعاً على هذه المنطقة الكوردية من كوردستان في لواء/محافظة الموصل. على أن الحكومة البريطانية وقتذاك لم تكن ترغب في اتخاذ قرار قاطع في هذا الشأن. وكان عدد الآثوريين في بعقوبة يناهز خمسة وثلاثين ألفاً في أواخر عام 1919 وهم على مجموعتين تتألفان على التوالي من (آثوري حكاري وآثوريين أورمية) في كوردستان إيران.
وفي ربيع العام 1920 اختمرت فكرة في ذهن المدعو (آغا بطروس) وهو أثوري جبلي من قبيلة الباز للقيام بدورٍ كبيرٍ في قيادة الجيش الآثوري أثناء الحرب العالمية الأولى. ومجمل فكرته يتخلص في (خلق دولة آثورية عازلة على الحدود التركية الإيرانية) في الوقت الذي تترك الحرية لمن يفضل العودة إلى دياره في جبال (ولاية حكاري) المنطقة الجغرافية الكوردية في كوردستان. وتأخر تنفيذ هذا المشروع بسبب الثورة العراقية الكبرى في العام 1920 ومني بالفشل التام في تشرين الأول من تلك السنة 1920 بسبب ضعف كفاءة [آغا بطروس] الاثوري ومقاومة الكورد في المناطق الواقعة شمال عقره. وفي مجرى القتال الذي حصل نهب الآثوريون عدة مناطق يسكنها كورد لم يشاركوا في الأعمال العدائية ضدهم.
بعد هذا لجأت الحكومة البريطانية إلى تجربة خطة جديدة، فقررت (توطين الآثوريين) عشيرة بعد أخرى بصورة تهدف إلى توسيع حدودهم نحو الشمال كوردستان. وما أن جاء عام 1921 حتى كان [7500] شخصٍ منهم قد استقر بهذه الطريقة. بعضهم في أنحاء (زاخو ودهوك والعمادية) وبعضهم الآخر في المناطق [برواري بالا] و[تياري العليا] و[تياري السفلي] التي تقع شمال المناطق الكوردية الأولى بمسافة قليلة. وكما التحق عدد كبير منهم بوحدات الليفي. (الوحدات العسكرية التي شكلها البريطانيون من المسيحيين الآثوريين وبعض الكورد).
ووزعت الحكومة البريطانية أكثر من (1900) بندقية وكميات من العتاد على القبائل الآثورية التي عادت إلى مناطقها الأصلية شمال حدود ولاية الموصل كوردستان العراق. وفي نيسان عام 1924 استوطن عدد من الآثوريين في الأراضي الواقعة تحت إدارة العراق. وفي المنطقة الواقعة شمالاً. وهي الأرض المطالب بها وقدر عددهم بما يلي:
من إيران 5000
من المنطقة المطالب بها بعدئذ 14000
من الأراضي التركية شمال المنطقة المذكورة 600
المجموع 25000
وقد استوطن (5700) من المجموعة الثانية في الأرض التي طولب بها في مؤتمر أستانبول وعادوا إلى جنوب خط المعاهدة على أثر الحوادث التي وقعت في العام 1924. لقد كانت نية الحكومة البريطانية اتخاذ الخطوات التي تساعد على عودة الآثوريين الذين قدموا من كوردستان إيران إلى أوطانهم في لاكوردستان العراق. إن العلاقات بين الآثوريين وبين الأهالي المسلمين لم تكن حسنة دائماً وبالشكل المنشود، وترى السلطات أن مرد ذلك افتقار الآثوريين أنفسهم إلى المرونة والكياسة فهم ذوو أمزجة نارية قتالية وطباع خشنة غير مصقولة. فمثلاً في آب من عام 1923 جرت ملاحاة مشاجرة في سوق الموصل بين فريق (من العرب وجنود آثوريين) وفي الشهر عينه وقعت تظاهرات عدائية هناك ضد مجموعة من الآثوريين قوامها ثمانمائة شخصٍ قذفت بهم أستانبول خارج حدودها. وأدى ذلك إلى خطورة عصيان سريتين آثوريتين في حامية كركوك الكوردية. هذه الحادثة أثارت نزاعاً بين جنود آثوريين وتجار مسلمين انطلقوا في أرجاء المدينة (كركوك) الكوردية يطلقون النار على كل مسلم يصادفونه وينهبون ويحطمون المنازل والمخازن رغم الجهود التي بذلها ضباطهم وضباط صفهم. ووقعت إصابات بعضها قاتل. فلم تجد السلطة بداً من إرسال وحدات عسكرية بريطانية بطريق الجو إلى كركوك الكوردية للمحافظة على النظام.
من الحريات التي تمتع بها الآثوريون في العراق، أن نزاعاتهم كانت تحكم بواسطة محكمين (من بني جلدتهم). وكان لرؤسائهم منصب رسمي أو شبه رسمي ولهم أن يجبوا الأعشار وضريبة الماشية بمساعدة شرطة يختارونها من بين أفراد قبائلهم نفسها. هذه الحالة كانت مقدراً لها أن تتغير بسبب رحيل عدد كبيرٍ منهم نتيجة حوادث الحدود التي وقعت في خريف العام 1924. إن الأسرة التي تنحصر فيها (السلالة البطريركية) هي السلطة الوحيدة الآثورية التي تعترف بها السلطات العراقية والبريطانية.
لقد أبلغ المندوب السامي البريطاني في بغداد اللجنة عن نوايا حكومية في حالة ما لو سلم للعراق بالحدود المدعى بها. فقال إن المنطقة التي تقع جنوب الحدود مباشرة ستعاود السكن فيها تلك القبائل الآثورية التي كانت تعيش فيها سابقاً ولا يسكن هذه المنطقة في الوقت الحاضر غير عشرة آلاف وخمسمائة نسمة، منهم سبعمائة وخمسون من المسيحيين. وأما الآثوريون الذين كانت ديارهم تقع شمال الحدود المقترحة فسوف يتم توطينهم في جوار [دهوك] و[العمادية] الكورديتين في مواضع لا تبعد كثيراً عن الحدود. وبذلك لن يكون معرضين لإغراءات العودة إلى ديارهم الأصلية في الأراضي الكوردية في كوردستان التركية مسببين مشاكل حدود أخرى.
إن المجموع الكلي للآثوريين الذين سيتم توطينهم لن يزيد عن عشرين ألفاً بعد عودة آثوري كوردستان إيران إلى مساكنهم. وبحسب المعلومات المتأخرة يوجد في (روسيا) عدد كبير منهم قد يبلغ ثلاثين ألفاً تقريباً من الآشوريين (الآثوريين) الترك الذين يرغبون في العودة إلى ديارهم شريطة أن لا تكون تلك الديار تحت السيطرة التركية.
وقد أعلمت السلطات البريطانية اللجنة أن معاملة الآشوريين (الآثوريين) في المستقبل تتوقف أساساً على القرار الذي سيتخذ بخصوص الحدود. فإن لم تضم الأراضي التي كان الآثوريون يشغلوها إلى دولة العراق فلا مجال من منحهم أي نوع من الاستقلال الذاتي. ولم يتم في هذه الحالة توطينهم في مجتمعات آثورية بحتة. وإذا سحبت الحدود إلى الجنوب بالشكل الذي يُلحق بالعراق جزء صغير فحسب من الوطن الآشوري (الآثوري) السابق فسيكون من المتعذر إيجاد مقاطعات لهم في كوردستان العراق، وإن خطة توطينهم مرهونة بقبول الحدود التي اقترحتها الحكومة البريطانية. ولا يستطيع الآثوريون العيش في السهول حتى لو وفرت لهم الأراضي بسبب الأحوال المناخية. وستنجم مصاعب أخرى لاختلاف (الطبع العربي والآشوري) مما يؤثر على العلاقات بينهما في حين أن (الطبع الآشوري والكوردي) متشابه.
تدرك اللجنة ضرورة حماية الشعب الاثوري/الآشوري ومساعدتهم على العيش بأفضل ما يمكن تأمينه لهم من أحوال معاشية. ولا تشعر اللجنة على كل، بأن التسوية التي اقترحتها الحكومة البريطانية تتفق ومبادئ العدل التي يجب أن تحكم التوطين المطلوب.
في الموضع الأول: أن اعتراض الحكومة التركية الحديثة على تقديم الحكومة البريطانية مطاليب إقليمية جديدة [عد مؤتمر لوزان24 تموز 1923] هو اعتراض وجيه وليس دون أساس، إذ يظهر من وثائق ذلك المؤتمر أن المندوب البريطاني طالب منذ البداية بالحدود الشمالية لولاية الموصل كوردستان حدوداً للعراق العربي الجديد. فأي تعديلات كانت قد ذكرت؛ هي تعديلات معاهدة (سيفر10 اب 1920) لكن مواد تلك المعاهدة كانت تقضي بإعادة قضاء العمادية الكوردية إلى تركيا الحديثة.
وفي رسالة أخرى مؤرخة في السادس والعشرين من كانون الأول عام 1922 اقترح (اللورد كرزون) وزير خارجية بريطانيا على (عصمت باشا اينونو) وزير خارجية تركيا الحديثة تعيين خبراء لمناقشة تفاصيل الخط الثابت لحدود ولاية الموصل الشمالية التي ستتضمنها المعاهدة المقبلة حول الحدود بين (تركيا الحديثة والعراق العربي الجديد). ويلوح من هذا أن التفكير لم يكن منصرفاً إلى أبعد من تعديل طفيف لا يمكن أن تتصدى له لجنة تعيين حدود. على أن مقترحات الحكومة البريطانية كما تقدمت بها إلى استانبول هي أكثر بكثير من مجرد تعديل بسيط. ولذلك يبدو أن ثمة ما يدعو إلى الظن بأن الاقتراح المقدم إلى استانبول يتضمن فتح قضية جديدة وأن الحكومة التركية الحديثة لديها كل المبررات لرفض البحث فيها.
وهنا اعتراض آخر على الحل الذي اقترحته الحكومة البريطانية يتمثل في الظروف التي دعت الآثوريين إلى رفع السلاح في وجه تركيا الحديثة. وما من شك في أن هذا الشعب (الآثوري) قام بانتفاضة مسلحة ضد حكومته الشرعية (تركيا الحديثة) بتحريض من الأجانب وبدون أي استفزاز من الحكومة التركية الحديثة لهم. ومن الثابت أيضاً أن الأحوال المعاشية التي يتمتع بها الآثوريون ضمن الإمبراطورية العثمانية هي أفضل من أحوال المسيحيين الآخرين، حيث أنهم يتمتعون بمدى واسع نوعاً ما من الحكم الذاتي المحلي تحت سلطة البيت البطريريكي.
في هذه الظروف لن يكون من العدل في شيء أن يقتطع من تركيا الحديثة جزء يعود إليها بلا نزاع كي يوطن فيه شعب اثوري عمد بصورة مقصودة إلى رفع السلاح ضد سيادتها. ولم يسع اللجنة إلا أن تستنتج بأن أفضل حل لمسألة الآثوريين هو قبول العرض الذي قدمه المندوب التركي في (مؤتمر استانبول) أعني السماح لهم بالعودة إلى ديارهم الأصلية (ولاية حكاري) الكوردية وفي هذه الحالة نضيف إلى ما أوردناه قولنا بوجوب استمرار الآثوريين في التمتع بحق الاستقلال الذاتي كالسابق وأن تضمن سلامتهم بصدور عفوٍ عامٍ عنهم.
* حجج سياسية أخرى في ولاية الموصل (كوردستان الجنوبية -العراق) الكوردية المتنازع عليها
إضافة إلى الحجة الأساسية المستندة إلى رغبات السكان (أهالي ولاية الموصل) الكوردية، تقدم الطرفان (بريطانيا وتركيا) باعتبارات سياسية أخرى كان دعماً لوجهة نظره.
عرضت الحكومة البريطانية أنها ملتزمة بوعدٍ ثلاثي، مصدره اتفاقاتها مع الشعب العربي والملك فيصل الأول من جهة، وحكم الانتداب (البريطاني) من جهة أخرى. وفي الإمكان إجمال هذه الحجج كما قدمها ممثلو الحكومة البريطانية.
في أثناء الحرب عقدت الحكومة البريطانية اتفاقاً مع عرب المناطق المعنية يتضمن وعداً بألا يعادوا إلى الحكم العثماني التركي الحديث.
وفي مؤتمر [سان ريمو 1919] قبلت الحكومة البريطانية في نيسان عام 1920 الانتداب على العراق العربي الجديد من عصبة الأمم، وفي خريف العام 1921 طلبت عصبة الأمم من الحكومة البريطانية قبل أن تتم تسوية الشروط الأخيرة للانتداب الاستمرار في تولي الإدارة تمشياً مع روح مسودة الانتداب التي تم إعدادها انتظاراً لقرار المجلس (عصبة الامم) النهائي. وفي شهر تشرين الأول من العام 1922 أبرمت الحكومة البريطانية معاهدة مع ملك العراق تعهد فيها الطرفان بعدم اقتطاع أو تأجير أي جزءٍ من العراق لأي بلادٍ ثالثة أو وضع أي أرض من هذه القبيل تحت سيطرتها.
وعلى هذا الأساس ارتبطت الحكومة البريطانية بالوعد الثلاثي. فإن فصلت ولاية الموصل كوردستان العراق عن بقية الأراضي العراقية المشمولة بالانتداب البريطاني وأعطتها للترك (تركيا الحديثة) تكون قد نكثت بوعدها.
اعترض ممثل تركيا الحديثة في المباحثات والمفاوضات (ولاية الموصل) كوردستان العراق [فتحي بك] على هذه الحجج في اجتماع مجلس عصبة الأمم في الخامس والعشرين من أيلول عام 1924 قائلاً أن التعهد الثلاثي الذي أعطته الحكومة البريطانية لا يمكن أن ينهض حجة ضد تركيا الحديثة لأن تركيا الحديثة لم تتنازل بموجب أية وثيقة دولية عن حقوقها في ولاية الموصل كوردستان العراق. وأنه سيكون معادلاً للتنازل عن أراضي فريق آخر لمصلحة فريق ثالث بدون رضى المالك الشرعي. وأما التعهد الذي أعطي لعصبة الأمم فيكاد لا يكون ضرورياً إيضاحنا بأن حدود الأراضي المنتدبة لم تثبتها العصبة. وبالعكس فإن بريطانيا العظمى قررت من تلقاء نفسها مدى سعة تلك الأراضي من النهاية الشمالية للعراق الجديد.
"إن هذا هو عمل من طرفٍ واحدٍ لا غير، ولذلك هو باطل قانوناً من أساسه وأن تفوق الحجة التركية واضح إلى الحد الذي لا نرى حاجة تدعو إلى تحليل لحجج الطرفين". كما أن الإقرار بأن "تركيا تنازلت عن حقوقها" في ولاية الموصل (كوردستان العراق) غير ممكن أيضاً لأنها أعلنت في عدة مناسبات عن استعدادها للتنازل عن الأراضي التي يسكنها عرب في ولايتي (بغداد والبصرة) لا غير وبصرف النظر عن كون ولاية الموصل كوردستان هي إقليم كوردي عند إدخال مسألة الأغلبية السكانية في المسألة، فواضح أن الحكومة التركية تمسكت دائماً بقولها أن ولاية الموصل كوردستان هي جزء لا يتجزأ من تركيا الحديثة. ولم تتنازل تركيا عن حقوقها لا شرعياً ولا أدبياً لمصلحة أية دولة وأن أفاد بيان الحكومة التركية بأنها لا تطالب إلا بتلك المناطق التي ترغب في العودة إليها. والواضح والحالة هذه أن الأراضي التي تحتلها القوات البريطانية والعراقية ما زالت تعود وفق القانون إلى تركيا حتى تتنازل عن حقوقها فيها.
وهناك حجة أخرى تقدمت بها الحكومة البريطانية وهي حق الفتح ويمكن إجمالها بما يلي:
أن دول الحلفاء التي أرغمت على الحرب مع (الدولة/الامبراطورية العثمانية) تركيا دون أي استفزاز من جانبها وهي الحلفاء التي ربحت الحرب، وطردت الجيوش البريطانية الجيش التركي من بلاد الرافدين (ميتسوبوتاميا) وهي ولايتي (بغداد والبصرة) فقط. وإن ما يدعو إلى العجب أن تملي دولة مغلوبة على الغالبين الأسلوب الذي سيتم بموجبه التصرف بالأراضي التي تم احتلالها عسكرياً. لقد كان رد الحكومة التركية الحديثة على هذه الحجج أن حق الفتح لم يعد معترفاً به في القرن العشرين وهو على كل حالٍ لا يمكن تطبقيه على ولاية الموصل الكوردية التي تم احتلالها عنوة بعد الهدنة (هدنة مودروس) في 30 تشرين الأول 1918 وبخرق شروطها كما كانت الحالة أيضاً بالنسبة إلى استانبول وأزمير وأدنه.
ورداً على هذه الحجة الأخيرة، أشارت الحكومة البريطانية أولاً إلى أن خط الهدنة (موندوس) لا مكان له في التسوية السلمية الختامية، وثانياً أن شروط الهدنة (موندوس) خولت جيوش الحلفاء حق احتلال نقاط سوقية (الإستراتيجية) تقع وراء خط الهدنة (هدنة موندروس) في حالة ما لو نجم موقف يهدد سلامة الحلفاء وقد احتلت مدينة الموصل طبقاً لهذه الشروط. لا نجد ضرورة لفحص هذه الآراء المتعارضة فيما يتعلق بالخرق المزعوم لشروط الهدنة (موندوس) وتكفي الإشارة إلى أن احتلال الموصل وكل مدن بلاد الرافدين (ميتوسوبوتاميا) التي تشمل ولايتي بغداد والبصرة فقط التي كانت فيها حاميات عثمانية تركية مسموح به بموجب المادة السادسة عشرة من اتفاق الهدنة (موندروس) في 30 تشرين الاول 1918.
وأما الحجة المستندة إلى حق الفتح فهي على أية حال عرضة للأخذ والرد والنقاش لأن الوضع السياسي بعد معاهدة [سيفر10 اب 1920] بمدة، عانى تغييراً مفاجئاً حتى قامت الضرورة لعقد مؤتمر جديد لإعادة صياغة كل ما تم إنجازه في (سيفر1920) مجدداً، هذا التغيير في الموقف هو نتيجة النجاح العسكري التركي الذي خلق وضعاً عسكرياً جديداً لكل المناطق التي عادت أو كادت تعود إلى تركيا الحديثة مع أنه أنجز في ميادين حروب متعددة، وهذا واضح تماماً من طبيعة القضايا التي بحثت في مؤتمر لوزان24 تموز 1923.
وعرضت تركيا الحديثة في مجال اعتراضها على حجة حق الفتح تحقيق السلم واستقراره وقد عرضت هذه الحجة (حق الفتح) في مؤتمر لوزان24 تموز 1923 ورددها ممثل تركيا [فتحي بك] في مؤتمر استنبول معرباً عن أمله في عين الوقت بإيجاد تسوية لقضية ولاية الموصل الكوردية التي ستمهد الطريق إلى سلام ثابت وطيد بين تركيا الحديثة وبريطانيا العظمى، وصرح "أن فوائد السلام الوطيد في الشرق تنطوي على أعظم الأهمية".
وأوضح أن الفوائد التي ستنجم عن سلام وطيد تنطوي على أهمية عظيمة، وإذا أريد للسلم أن يكون دائماً وأن يمهد لعلاقات طيبة فمن الجوهري أن لا يشعر أي طرف بالضغينة للطرف الآخر أو بأن حقه مهضوم. وانطلاقاً من هذه الأهمية يجب أن لا تحرم دولة العراق العربي الجديد التي اعترفت تركيا الحديثة بوجودها اعترافاً واقعياً من الموارد الضرورية لتطورها. وإذا ما أقتطع جزء من (ولاية حكاري التركية) فإن حقوق الولاية ستنتهك وتهضم، ولو أعطي لواء ديالى لتركيا فسوف يحيق الخطر باستقلال العراق العربي الجديد. ولو سلمنا بأن نظرية السلام الوطيد كما عرضتها تركيا تقود إلى تسوية ما، فالنتيجة هي أن تركيا الحديثة ستحرم العراق العربي الجديد من تطوير موارده.
الفريق الركن الدكتور
عبد العزيز عبد الرحمن المفتي
عمان تموز 2015
3264 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع